معروف أن الفيلسوف أرسطو هو أول من كشف اللثام عن قواعد المنطق الصوريrules logic Formal أي القواعد التي تحكم القالب الخارجي للعبارة - أيا كانت لغتها - بغض النظر عن المحتوي. ولم يكن هذا بالكشف الهين، بل كان أمرا عظيم الشأن حقا ً، فالقوالب الصحيحة تعد واحدة من وظائف العقل في كل زمان ومكان، وهي لذلك ضرورية لضبط الفكر الإنساني كي لا يتشتت بين الصواب والخطأ، ومن ثم صار المنطق الأرسطي - ولفترة طويلة جداً- وعاء صالحاً تصب فيه عمليات التفكير البشري بحيث تأتي نتائج هذه العمليات واحدة لا يعكر عليها اختلاف أصحابها في الديانات أو العقائد أو الجنس Gender أو الأعراق أو اللغات. وعليه فقد استحق أرسطو لقب المعلم الأول، اعترافا بفضله في توحيد البشر علي المستوي العقلي بالأقل. ولأن الإسكندر الأكبر فاتح العالم القديم كان تلميذا نجيبا لأرسطو، فلقد كان " منطقياً " أن يلتقط هذا الخيط الفلسفي ليشدده صانعا منه حبالاً من صلب، أرادها أن تكون أساسا لدولة كونية واحدة يعيش بظلها جميع البشر راضين قانعين. وحين شرع في تنفيذ حلمه بهذه الدولة اختار لها أقدم الحضارات وأعرقها: مصر مقرا، وشيد بها مدينة الإسكندرية لتكون عاصمة لدولته هذه العالمية المقترحة. مشروع الإسكندر بيد أن مشروع الإسكندر ما لبث حتي أخفق. لماذا؟ لأن أدواته كانت عسكرية تقتل لا سياسية تحاور. وفيما بعد سوف يتكرر حلم الإسكندر في كل المشروعات الإمبراطورية التالية له، والتي برهنت بنفس الطريقة علي فشل الإجبار في توحيد الشعوب وإقرار السلام العالمي. علي أن الإسكندريةالمدينة ظلت تكافح ثقافيا لكي تبقي كما كانت يوم ولدت رمزا للمدينة الكوزموبوليتانية متعددة الثقافات التي تفتح ذراعيها لجميع الأجناس والأعراق والأديان والعقائد والمذاهب، دون إقصاء لأحد. وقد تمثل هذا الكفاح الثقافي في قدرتها الجيبوليتكية علي احتواء الفاتحين الإغريق لدرجة أنهم أطلقوا علي أنفسهم اسم "السكندريين" بينما كانوا قائمين - في القرن الثاني ق. م -علي تشييد مكتبة الإسكندرية العظمي ومجمعها العلمي: "الموسيون". وثانيا بنجاحها في إطلاق حوار الفلسفة مع معطيات الدين المسيحي بجهود السكندري الصعيدي" أفلوطين" (ت 270 م) مما رفع المستوي الفكري عند المتدينين من ناحية، ومن ناحية أخري ساعد الفلاسفة علي مقاربة الطرائق العاطفية لدي معظم الناس. وفيما بعد أيضا سنري كيف تألق العرب المسلمون في عصورهم الزاهية بحوارهم مع هذه الأفلاطونية المحدثة (التي مزجت بين فلسفات الإغريق الكبري: المشائية والرواقية والأبيقورية ) وذلك حين شرعوا في إبداعهم لعلم الكلام، ثم الفلسفة الإسلامية الأنضج. ولقد كان لحفاظ الإسكندرية علي المستوي الرفيع في البحث العلمي بمجالات الفلك والطب بجانب الرياضيات حتي بعد احتلال الرومان لمصر، أثره فيما تمتعت به من منح حاكمها لقب " نائب الإمبراطور" بالإضافة إلي احتكارها لصناعة الورق بحوض البحر المتوسط، وازدهارصناعاتها الطريفة الأخري مثل الزجاج والمجوهرات الذهبية والفضية والروائح العطرية وأدوات الزينة فضلا عن صناعة النسيج، الأمر الذي دفع بأرباب الحرف هذه إلي إنشاء النقابات سابقين بذلك أوروبا بنحو 1000 عام ! طور الاضمحلال بيد أنه ومع انقسام روما إلي إمبراطوريتين غربية وشرقية (بيزنطية) واحتدام الصراع الديني بين اليهود والكنيسة، والصراع السياسي بين الكل وسلطة الاحتلال ؛ كان طبيعياً أن ينكمش النشاط الاقتصادي ومن ثم العلمي للمدينة وأن يستمر هذا الانكماش حتي بعد الفتح الإسلامي لمصر لإصرار الخلفاء والولاة علي محاولة نزع الطابع الكوزموبوليتاني عن الإسكندرية لأسباب محض ثيولوجية متوهمة، وأسباب مذهبية محتدمة مابين العباسيين والفاطميين من القرن التاسع الميلادي والقرن الحادي عشر، علاوة علي الجمود الذي حاق بمصر جميعا في العصرين المملوكي والعثماني وحتي قدوم الحملة الفرنسية. التي كانت مقاومتها واجبا وطنيا لا مندوحة عنه. النهضة من جديد كانت مقاومة تلك الحملة واجبا وطنيا لا مندوحة عنه، ولكن ذلك لم يمنع المصريين أن يفتحوا عيونهم علي ما يجري في أوروبا من تقدم علمي وتقني هائل. ولهذا وبعد سنوات قلائل من خروج الحملة،وحين شيد محمد علي الترسانة البحرية بالإسكندرية بجانب توسيع وتحديث مينائها الغربي ؛ ُاعتبر ذلك إيذانا باستعادة المدينة العريقة لمكانتها كعروس للبحر المتوسط حيث اجتذبت إليها النابهين من بلدان أوروبا ليشكلوا فيها الجاليات المقيمة، وليجددوا بين سكانها ثقافتهم الأولي: القبول بالآخر المختلف، ومن هنا نفهم كيف ارتفع معدل الزيادة السكانية السنوي بالإسكندرية إلي21% خلال القرن 19 مقارنة بمعدل الزيادة في مصر كلها وهو 1.75 % ( كتاب غرفة الإسكندرية التجارية 1949) ولهذا لا يستغرب أن تولد صناعة السينما في مدينة الإسكندرية عام 1917 حيث أنتجت أول فيلمين مصريين بإخراج محمد كريم ،أضف لذلك إنشاء جامعة فاروق الأول 1938 ليكتمل بهذا كله ترسيمها عاصمة ثانية للبلاد ومقرا صيفيا للحكومة في العهد الملكي. الناصرية والتهميش الثاني بانبثاقه عن قوي العسكرتاريا أدرك نظام يوليو أن لا مناص من اعتماد المركزية المطلقة وسيلة للبقاء، وعليه فقد لجأ إلي تعطيل الدستور وإلغاء الأحزاب (عدا الأخوان المسلمين حلفائه الأُول ) ليقطع الطريق علي كل من يسعي لتداول السلطة، مكرسا العمل السياسي للموالين له دون غيرهم. ومرة أخري تخضع الإسكندرية لمتطلبات السياسة فيتم تهميش دورها الحضاري والثقافي بشعار العروبة ورفض "الأوربة " Europization ويتم إضعافها سياسياً - بطيش من السلطة - بعد أن كشفت محاولةُ الأخوان اغتيالَ ناصر (في ميدان المنشية 1954) عن استراتيجية حلفاء الأمس باتخاذ الإسكندرية مقرا لحكومة ظل، ومعقلا لتفريخ الكوادر، بعيدا عن أنظار السلطة المركزية بالقاهرة. . تلك الاستراتيجية التي لم تتغير إلي اليوم بالرغم من تعرض أصحابها للضربات تلو الضربات، خاصة علي يد عبد الناصر الذي أشرف علي تصفية رموزهم سياسيا بل وجسديا ً. ولأن التيارات الدينية - بما هي متجذرة في الوجدان الإنساني - تشبه طائر الفينيق الذي ينهض حيا بعد كل احتراق ؛ فإن جماعة الاخوان ما لبثت حتي عادت للساحة السياسية حيث خطط الرئيس السادات لتوظيفهم في ضرب الناصريين واليساريين فانتهي مقتولا بأيدي جماعة اخوانية منشقة، وانتهوا هم إلي السجون والمعتقلات مرة أخري، وحين أخرجوا منها في أواخر الثمانينات - بعد إعلانهم نبذ العنف - راحوا يطوعون استراتيجيتهم لتكتيك جديد ذكي يضمنون به إعادة إنتاج الكوادر كل جيل، ذلك هو الدفع بأبنائهم وأبناء المتعاطفين معهم إلي كليات التربية لا سيما جامعة الإسكندرية ليتخرجوا مدرسين بالمراحل التعليمية المختلفة، وما من شك في قدرة المدرس علي التأثير في النشء. وهكذا دفعة بعد دفعة امتلأت ساحة الجامعات بالشبان ذوي الميول الإخوانية، بينما راحت الجماعات الأكثر تطرفا "تشتل" من المزرعة كيف شاءت. ولما كانت الإسكندرية هي المقر البابوي والمدينة المصرية الأولي في عدد الأقباط، وفي نفس الوقت هي المدينة التي اختيرت منذ الخمسينات لتكون عاصمة حكومة الظل الإخوانية ؛ فلقد عمدت التيارات الدينية من الطرفين إلي عجم عود بعضها البعض بين الحين والحين: ميكروفونات المساجد تغمز وتلمز وتكفر عباد الصليب، يقابلها مسرحيات تؤلف وتمثل بالكنائس تطعن في (وتسخر من) رموز الإسلام، ومقابل "طظ في مصر" لمهدي عاكف نجد من يروج بين الأقباط القول بأن مسلمي مصر عرب مكانهم الطبيعي الحجاز! والنتيجة صدامات يسقط فيها بين الفينة والأخري قتلي وجرحي، نفور متصاعد، واستقطاب متزايد لا يدري أحد علي وجه الدقة كيف ينتهي. وبين الطرفين تقف الإسكندرية شاحبة ترتعد، فلا هي قادرة علي ابتعاث طبيعتها الأولي وثقافتها الراقية الرفيعة، ولا هي راضية بأن تقاد إلي هذا الدرك المؤلم الذي يجبرها علي أن تكون معقلا للسلفيين والمتطرفين. ما الحل إذن؟ الديمقراطية هي الحل ما في ذلك شك. ولكن تلك قصة أخري.