غريب أمر ميل جيبسون.. هذا الممثل الأسترالي الأصل الذي لفت الأنظار إليه في فيلم استرالي عن معركة «جاليبولي» الدامية التي دارت في أرض الأناضول خلال الحرب العالمية الأولي .. وكان هذا الفيلم نقطة انطلاقه إلي هيوليود.. حيث عمل أول ما عمل في أفلام الحركة ذات الطابع البوليسي في ثلاثية اشتهرت بعد ذلك باسم «السلاح المميت» وشاركه في البطولة الممثل الأسمر داني كلوفر حقق معه ثنائيا لاقي جماهيرية كبيرة ولعب فيه دور رجل البوليس القاسي القلب .. الذي يواجه المجرمين بلا رحمة .. وينجح دائما في العثور عليهم بعد أن يخوض معارك شرسة.. عرفت السينما الأمريكية دائما كيف تقدمها بطريقة مثيرة للإعجاب. ولكن الغريب في مسيرة هذا الممثل الذي حقق لنفسه نجاحا كبيرا.. جعل اسمه مرادفا لكثير من ممثلي هوليود الذين اشتهروا بهذا النوع من الأفلام .. أنه غير مساره الفني فجأة لينتقل إلي خلف الكاميرا مخرجا وممثلا أو مخرجا فقط في أفلام ادهشت الوسط السينمائي كله بجرأتها وعنفها وسينمائيتها المشهودة وسواء كانت هذه الأفلام أفلاما تاريخية تروي حقبة من ثورات الشعوب في أوروبا. إثارة للجدل كفيلم «القلب الشجاع» الذي رشح من أجله لجائزة أوسكار أحسن مخرج ونالها بالفعل .. ثم تتابعت الأفلام التي قام بإخراجها.. ليثير في كل مرة ضجة تستحقها . وبالطبع كان أكثرها إثارة للجدل هو فيلم «آلام السيد المسيح» الذي يروي الساعات الأخيرة من حياة يسوع والتعذيب القاسي الذي ناله علي أيدي الرومان وموقف اليهود الذين شجعوا علي صلبه.. وكلمتهم الشهيرة «ليسقط دمه علي رؤوسنا حتي أبد الأبدين» والتي أثارت ضده الدنيا وأقعدتها، وبعد ذلك قدم جيبسون فيلمه الثاني الشهير المثير للجدل عن حضارة شعب المايا «Apocalypto» في أمريكا الجنوبية وطقوسهم الدموية في مشاهد هزت مشاعر متفرجي العالم بأسره لشدة قسوتها وصراحتها ومواجهتها لحقائق كان الكثيرون يتجنبون الاقتراب منها. وها هو ميل جيبسون اليوم يعود إلينا ممثلا .. في فيلم ذي طابع بوليسي .. ولكنه يحمل خلفية سياسية ثقيلة ويوجه أصابع الاتهام إلي مؤسسات أمريكية نووية وإلي رجال كبار في الحكم يتواطؤون لبيع أسلحة نووية «لجهات ثورية» مسدلين ستارا من الشرعية والأكاذيب علي عملياتهم «القذرة» التي يجنون منها الملايين .. ولا يبالون أن يذهب ضحيتها في مقابل ذلك الملايين من البشر. محطة انتظار الفيلم يبدأ .. في محطة انتظار في أحد المطارات الأمريكية حيث ينتظر تومي «ميل جيبسون» ضابط البوليس والمشرف علي التحقيقات الجنائية .. ابنته الشابة التي رغبت في مقابلته .. رغم مرور زمن طويل دون أن تراه تاركة إياه مع ذكرياته عنها وهي طفلة.. كانت تشكل الأساس الحقيقي لحياته، ولكن الابنة تشب عن الطوق وتعيش حياتها بعيدا عن أبيها.. الذي أغرقته مهنته القاسية في أمواجها.. ولم تترك له الوقت الكافي لرؤية ابنته والإشراف علي مستقبلها «وكما يبدو من الأحداث فإن الأم ميتة من مولد الطفلة ولا نعرف عنها شيئا». ويبدو تماما أن تومي قد استعد نفسيا لهذا اللقاء ولكي يكفر فيه عن كل أخطاء الزمن الماضي وأن يعيد صلته مع هذه الابنة الشابة التي كما يبدو من الأحداث هي الإنسانة الوحيدة التي بقيت له في دنياه المظلمة. وبالفعل فإن الحميمية تبدو جلية بينهما منذ البداية وإن كانت هناك سحابة من الغموض تحيط بالابنة وإجاباتها ثم تبدو عليها فجأة أعراض مرض غريب .. يجعلها تتقيأ دما «وتطلب من والدها الإسراع بأخذها إلي الطبيب .. مما يحققه الأب فعلا .. ولكن عند وصولها إلي الباب .. تتلقي الفتاة زخة من الرصاص تنطلق من سيارة مجهولة تفقد بعدها الحياة تماما دون أن تتمكن من أن تقول كلمة واحدة لوالدها. حياة تومي وهنا تبدو وكأن الدنيا كلها قد انقلبت رأسا علي عقب في حياة «تومي» الذي تقطعت أمامه فجأة كل الحبال التي بني عليها آماله لتعيده إلي سمائه الهادئة وإلي حياته مع ابنته. إنه يكاد لا يصدق ما يري .. ورغم مهنته التي يجب أن تساعده علي مواجهة أصعب المواقف.. إلا أن الصدمة المريعة هذه .. تدفعه دفعا إلي الجانب الآخر من الحياة يرفض الناس ويرفض مهنته ويرفض رفاقه.. ويقرر أن يعرف هو نفسه وعلي طريقته سر مصرع ابنته، وهل كان هو المقصود من الرصاص القاتل الذي أصاب خطأ ابنته.. أم أنها هي بالفعل كانت الضحية المقصودة. وشيئا فشيئا ومن خلال سيناريو بارع .. وتدرج في رواية الأحداث.. تبدأ الستائر السوداء تنزاح أمام أعيننا ستارة وراء ستارة وتبدأ خيوط العنكبوت الواهية تتواصل لكي توصلنا إلي الحشرة القاتلة.. وإذا بنا دون أن ندري نسير مع الأب المفجوع نكتشف ثنايا تواطؤ رهيب .. اشتركت فيه أجهزة الدولة كلها وذهب ضحيتها أشخاص كثيرون عرفوا السر الخبيث .. وكان من الواجب اسكاتهم إلي الأبد.. بما في ذلك هذه الابنة التي كانت تعمل في شركة ذات نشاط تجاري ولكنها تخفي وراءها نشاطاً من نوع آخر نشاطاً نووياً يدفعها إلي صنع قنابل خبيثة تبيعها بأسعار باهظة لمن يطلبها من المنظمات الثورية أو الإرهابية لا فرق، المهم هي هذه الأرباح التي تدخل خزائنها حتي لو كانت هذه الأموال ملوثة بالدم والعنف والجريمة. كشف الفساد وبالطبع الفيلم ينقلنا مرحلة مرحلة.. وكل مرحلة تكشف الفساد المستشري، وهؤلاء التجار والمسئولون الباحثون عن الثروات مهما كان مصدرها والذين تغلغلوا في جميع الأجهزة التي تحكم أمريكا الجهاز القضائي والجهاز الدستوري وحتي جهاز البوليس نفسه حيث تستطيع هذه المنظمة أن توظف أكثر أصدقاء «تومي« قربا إليه لكي يساعد علي اغتياله وتصل الأمور أخيراً إلي رأس السلطة إلي السيناتور الذي يمثل الشعب في مجلس الكونجرس والذي يبدو أنه رأس الأفعي. وبالطبع فإن هناك ضحايا كثيرة طوال مجري التحقيق .. كل من يعرف حقيقة ما أو طرفا من الحقيقة يصفي فورا «وهذا يذكرنا بشكل أو بآخر بمصرع الرئيس جون كيندي ومصرع جميع من عرف عن مؤامرة اغتياله شيئا». تراجيديا دموية الثلث الأخير من الفيلم تتراكم فيه الجثث وكأننا أمام تراجيديا دموية لشكسبير وتبدو بطولات «ميل جيبسون» الخارقة والمعتادة وقدرته علي اصطياد خصومه وملاحقتهم وإجبارهم علي الاعترافات المرة ثم تصفيتهم واحدا تلو الآخر .. بما في ذلك السيناتور نفسه قبل أن تصل المؤسسة إلي تصفيته هو شخصيا وهنا نحس أن وراء السيناتور جهازاً فاسداً آخر يتابع الأمور ويسعي إلي التمويه عليها بغية الاستمرار في نشاطها وهذا في رأيي اجرأ ما في الفيلم وأشده قسوة. الأب يموت .. ويلحق بابنته ورجال المنظمة الإجرامية الذين استطاع كشفهم يقتلون الواحد تلو الآخر .. ولكن رأس الأفعي ما زال قائما وما زال قادرا علي الاستمرار وعلي نفث سمه كما اعتاد أن ينفثه.. دون أن يجرؤ أحد حقا علي مواجهته أو محاسبته. الفيلم كما نري ليس مجرد فيلم بوليسي عادي .. بل إنه يذهب إلي أبعد من ذلك بكثير ويتماشي مع مواقف ميل جيبسون السياسية الأخيرة التي سببت له الكثير من المشاكل وأثارت ضده اللوبي اليهودي في أمريكا.. الذي أصبح لا يكف عن مطاردته بالفضائح والعنصرية محاولاً كسر الحالة البطولية التي أحاطت باسمه منذ بداية مسيرته الفنية. إنسانية شديدة في «حافة الظلام» يقدم ميل جيبسون دورا تمثيليا شديد الإنسانية وشديد القسوة إنما نراه كأب مفجوع وكإنسان وحيد وكرجل شرطة وقانون يكتشف مذهولا أنه يخدم دون أن يدري كل ما اعتاد أن يهاجمه وكل ما اعتاد أن يقضي عليه. إنه «الذبابة» المسكينة التي سقطت في شباك العنكبوت الجهنمية التي امتصت دمه وجذبته بخيوطها نحو مصيره المحتوم الذي لا يستطيع له دفعا. لقد سار «تومي» علي حافة الظلام شاعرا أن قدميه ستنهار إن عاجلا أو أجلا .. ولكن عزاءه الوحيد في رحلته القاسية هذه هي روح ابنته الطفلة التي كانت ترافقه في كل خطواته ووجه ابنته التي التقاها أخيرا دون أن يستطيع أن يسترجع معها الأيام الحلوة التي أفلتت من بين أصابعه.. ولكن ها هو هذه المرة يلقاها تقف إلي جانبه وهو يرقد طريح الفراش في مستشفي حكومي ضحية لتسمم غريب «يقول الأطباء إنهم لا يعرفون سببه» ينهض من ركدته ليمسك بيد ابنته الراحلة.. ويخرجان في ضوء ساطع يتميز عن ظلمة المكان متوجهان إلي سماء أخري سماء ما زال الأمل كبيرا في أنها قادرة علي أن تمنح الحب والغفران لإنسانية فقدت تماما بوصلة الأمان.