البعض من نقاد الأدب الحقيقيين، أغلق بابه عليه واكتفي من الغنيمة بالإياب، واهتم بعمله أو بمحاضرته في الجامعة- البعض الآخر من نقاد الأدب اهتم بالتنظير لا بالنقد التطبيقي.. البعض الثالث اهتم بحضور ومناقشة الندوات وما أكثرها.. هذا النوع الثالث يحضر ندوة ما، حاملا في جيبه «فيش» بكسر الفاء وفتح الياء.. أي أوراق صغيرة جدا، مدونا فيها عدة عناصر أو عناوين عن الرواية أو الديوان المنقود، غالبا تكون عباراته مدحا للنص وصاحبه دون ذكر الجوانب الإيجابية والسلبية، فالإيجابية وحدها تكفي من وجهة نظره، لأن المهم الحصول علي المكافأة، أما الموضوعية والحيدة العلمية فلا تكفي، وكانت النتيجة اختلاط الحابل بالنابل وشيوع ظاهرة الكلام المرسل علي السجية، إلي حد ضياع الدلالات اللفظية في أحكامه، من هنا كانت الشللية وتبادل المنافع وبالتالي ضياع الحقيقة، فأصبح الأدب في حالة تشبه أو تقترب من المستوي المتردي في أحيان كثيرة أو قليلة، ليس مهما، بدليل أن الحياة الأدبية خلت من مستوي مثل يوسف إدريس أو نجيب محفوظ، أو من السابقين أمثال طه حسين والحكيم والعقاد وغيرهم - لست أقصد إعادة استنساخ مثل هذه الأسماء، وإنما الموهبة الكبيرة تنجح في البحث عن الجديد والأجد، وقد حدث العكس في أن أحدهم أعاد صياغة رواية أجنبية بأسلوبه هو وبأدواته، ثم قامت الأجهزة الإعلامية بالتهويل للرواية ومؤلفها دون ذكر الرواية المقتبس عنها المترجمة، إن التهويل يمكن به صنع المسابقات والجوائز، إنها أزمة مجتمع فيه الأبيض والأسود وبقية الألوان السبعة للطيف، إنها ظاهرة الرجبية نسبة إلي الكاتب أحمد رجب الساخر القدير، الذي ظهر بسبب مروره علي عدد من النقاد كان منهم د.لويس عوض، حاملا قصة اسمها: الهواء الأسود، علي أنها من تأليف دور ينمات.. فقالوا كثيرا من الاستبطان الداخلي وغيره من مصطلحات ذلك الزمان، في النهاية كشف عن أنها نكتة، لأن قصة الهواء الأسود هي في الحقيقة من تأليفه هو، ربما تكون من هذه الحادثة انتشرت ظاهرة الادعاء والمدعين والدعاة الجدد، مما سبب في ظهور كوميديا الفارس. انفتاح استهلاكي إنها ظاهرة الانفتاح الاستهلاكي وإعلانات تقول عن عرض مسرحي ما من العروض إن فيها 387 ضحكة - ألا يوجد من يمسك بمصباح ديوجينيس، لا ليبحث عن إنسان وإنما ليظهر الجيد والممتاز في وسط هذا الركام وليكشف الأدعياء؟.. إنها فعلا أزمة مجتمع لا تسود فيه حرية العقل. أعود للفيش حيث النقد انطباعي متهافت تختلط فيه المصطلحات الزائفة، ويصل التدني إلي عدم نشر «نقد الفيش» في الصحف، نقد أحيانا يمارسونه روائيون أو شعراء أو كتاب مسرح أي كتابات علي السريع، مثلما يحدث في مصانع بير السلم. في هذا الزخم أو الدفع قرأت عدة مرات في الصحف أخبارا عما يقرب من عشرين كتابا تحت عنوان: إصدارات جديدة.. هل مجرد نشر الأخبار يفيد المبدعين أو أن المسئولية تقع علي النقاد الحقيقيين؟ ماذا يفعل الشباب من الروائيين والشعراء وبقية الأنواع الأدبية والفنية؟.. ذات مرة قرأت نقدا لكاتبة مغربية عن عمل لأديب مصري في الأهرام.. لماذا؟.. هل نضب النقد العربي في مصر، حتي أن نفس هذا الأديب لم يكتب عنه ناقد واحد؟.. الأديب هو المبدع محمد العشري. ماذا يفعل الشباب ماذا يفعل الشباب إن كان فيهم من ينشرون علي حسابهم هربا من الوقوع في فخ حفظ كتبهم في الأدراج عدة سنوات.. هربا من أخطبوط البيروقراطية.. ألا يمكن اعطاء الكتاب المطلوب فحصه للجنة قراءة بعد تسجيل رقم علي الكتاب دون وجود رسم المؤلف الذي يسلم له نفس الرقم ثم يعرض الكتاب للفحص؟.. أملي كبير في مؤتمر المثقفين وفي الأستاذ حلمي النمنم وغيره من المستنيرين، وفي تعاون الكتاب مع الهيئات من أجل النهوض بالثقافة العربية عامة، إنها مهمة ثقيلة، لكن يكون لهم شرف المحاولة من أجل رفع مستوي الإبدع، فالمسابقات والجوائز والتهليل كلها لا تكفي.. وإنما من الضروري أن يكون المناخ العام متهديا للإرهاب بدعاوي الحسبة والاستجوابات في البرلمان حتي نستطيع القضاء علي العسكري المعشش في رءوس الخائفين، ولنجعل فكرة النهوض هدفا من أجل اقتحام المستقبل: فكرة حقيقية.