أعرق الفنون في تاريخ البشرية هو فن الفخار ومكمله فن الخزف، لأنه ارتبط بوعي الإنسان بالتطور علي وجه الأرض، ولأنه أقدس الفنون.. كونه من الطين الذي خلق منه الإنسان، ولأنه أطهرها.. كونه يستوي في النار في أعلي درجات الحرارة داخل الأفران، وهو أقربها للإنسان في حياته وبعد مماته عبر أواني مأكله ومشربه وعطره وزيته وزهوره وزينته، وهو حافظ أشياءه المقدسة وأحشاءه المحنطة في رحلة الخلود بعد الموت.. وهو أخيرًا فن الفقير حد الإملاق والغني حد الإثراء.. لذلك كله يكتنز التاريخ الحضاري- في مكانة عالية- أروع إبداعات الفخار والخزف، متضمنة أرفع القيم الجمالية والتشكيلية، ويأتي التاريخ المصري في المقدمة من إبداعات الحضارة الإنسانية. والفنان محمد مندور من سلالة أحفاد الفنانين المصريين القدماء ومن تلاهم من حضارات لاحقة، هكذا يضرب بجذوره في تلك الحقب، من خلال ارتباطه بفن الآنية الذي هجره أغلب فناني الخزف خلال العقود الأخيرة، متجهين إلي النحت الخزفي والتشكيلات الحرة وإلي التلاعب بالخامة بغير هدف إلا الإثارة الغرائبية، شأن أكثر الاتجاهات الفنية المعاصرة.. وهو أكثرهم انتماء إلي ثقافة حرفة الفخار بجذورها الشعبية، كونه تربي طفلاً وصبياً في ورش الفخار بمنطقة مصر القديمة، منغمسًا في «معاجن» الطين من أخمص قدميه إلي وسطه، يعجنه ويصفيه من الشوائب، ويلعب بأشكاله بمهارة فوق الدولاب الدوار، محققًا بالتآزر الحركي والشعوري بين أصابع يديه وقدميه وبين إحساسه- حالة من التوازن المرهف، ليتحقق اللحن الطيني بين أصابعه كما يتحقق اللحن الصوتي علي آلة الموسيقي، وكبر هذا اللحن وتفتح مع نمو المعرفة والثقافة والوعي المبكر لديه بعصامية نادرة، فقد علم نفسه بنفسه، ثم شق طريقة شابًا وسط الكبار من فناني الخزف في الستينات من أبناء عدة أجيال: سعيد الصدر، نبيل درويش، حسين هجرس، صفية حسين، جمال عبود، متنقلاً بين الفسطاط وحلوان والجيزة، فكأن هؤلاء هم أصحاب مدرسته وجامعته، وحضور نجوميته في حياتهم وبرعايتهم كذلك، حيث كان الزمن آنذاك يحترم الموهبة والكفاءة ولا يضن السابقون بالخبرة علي اللاحقين، بغض النظر عن المنصب والشهادة كما أصبح الحال الآن.. وبعد رحيل تلك النجوم الزاهرة الواحد تلو الآخر- فيما عدا صفية أمد الله في عمرها- لم يبق في الساحة إلا حفنة معدودة في مقدمتها مندور. وها هو يقيم آخر معارضه بمركز الجزيرة للفنون الذي افتتح في فبراير الحالي، وكانت أغلب معروضاته من قطع الآنية ضخمة الحجم، وأقلها من الأطباق الحائطية المسطحة، وتتنوع أشكال أوانيه بين الأجسام النحيلة السامقة متصاعدة كالنبات نحو ضوء الشمس، محززة بحزوز عرضية متوازية تنم عن درجات تصاعدها المنتظم، وبين الأجسام الكروية المكتنزة المفتوحة باتساع يستوعب الكون، وبين ذات الرقبة الطويلة كعنق البجعة، بفتحة مثل فم الطائر، وبين ذات الرقبة القصيرة بأذنين شبيهتين بأذني الإلهة حتحور، وبين شكل القدرة المنطوية في حذر علي مكنون سر الدار، وشكل الطشت الذي يذكرنا بالعصر الأموي.. لكنها- بكل أشكالها- تبدو رابضة - في غير زمانها- بمهابة وغموض سحري وسط الضوء الصناعي المسلط عليها، وكل منها متوحد مع ذاته ومتكامل في ذات الوقت مع شقيقاته من القطع في قاعة العرض. وعلي عكس أغلب الفنانين المشتغلين بفن الآنية الخزفية، يتسم مندور بزهد شديد في استخدام ألوان الجليز ذات البريق المعدني، مفضلاً ألوان الطين المحروق بلونه الوردي أو بدرجاته الجنزارية الصدئة والفيرانية المكتومة والجرانيتية المحببة بنقاط سوداء ويحصل عليها جميعًا بتعريض الطينة الأسوانية أثناء الحريق لأنواع من الأكاسيد ودرجات الحرارة المختلفة تؤدي إلي اختزال الماء والألوان وإلي إيجاد ملامس متنوعة فوق السطح الفخاري، بما يضفي علي القطع طابع الآثار المكتشفة بداخل المقابر الفرعونية أو الحفائر الرومانية أو الإسلامية، واتساقًا مع هذا الزهد في الشكل الاجمالي فإنه يفضل ألا يضيف علي القطع الأسطوانية رسومًا وزخارف سواء من عناصر آدمية أو حيوانية أو نباتية أو هندسية إلا نادرًا، علي الأخص في هذا المعرض الأخير. وعلي العكس من ذلك نجده في أطباقه الحائطية يعتمد علي مثل تلك الأشكال من رسوم وزخارف، وأكثرها مستمد من الفنون الإسلامية والشعبية، مثل رسوم الطيور المحلقة والغزلان الراكضة، يرسمها ويلونها في رشاقة وانسيابية بالغة العذوبة والابهار. وقد يلتبس الأمر بالنسبة لمن ينظرون إلي التجديد والحداثة كانقلابات شكلية، فيظنون أن مندور يكرر نفسه منذ سنوات بعيدة، والحقيقة أن فهم هذا النوع من الإبداع يتطلب بصيرة شديدة اليقظة والحساسية، كي يتبين المتابع له التغيرات الدقيقة في أعماله، بما يشبه تغيرات الزهرة بين المساء والصباح، حيث تبزغ من داخلها بتلات ووريقات جديدة.. وهذا هو الميلاد الحقيقي للإبداع، وليس الانقلابات الشكلية المستعارة من فكر الآخرين. وتبقي خلاصة تجربة محمد مندور الإبداعية متمثلة في تلك الروح الصوفية التي تختزل الكون في شكل أسطواني من الفخار، مترع بالإنسانية والمهابة والسمو الروحاني، ممتلئ بالأسرار المنعكسة من روح شاعرة مشبعة بالحنين إلي التراث باحثة عن معني للوجود وعن تواصل عميق بين البشر.