عاش أيمن طاهر.. وقد «جلي» عن روحه «جلباب أبيه الفنان صلاح طاهر.. ولم يجلوه من قلبه.. لم يكن تمردًا بالمعني المفهوم.. ولكنه فكر.. وحلل بعد دراسته للفنون الجميلة.. واقتنع بممارسة فنون أخري لا تقل أهمية.. بل تفوق في الاختيار الحدثي العصري.. والغوص في صلب الفعل المزمع تبينه.. والخوض في أعماقه. إذ كان اختياره الإرادي.. أن يصبح متفرجًا.. ومتذوقًا.. وراصدًا لأعمال أبيه الفنية.. وشهرته الواسعة.. إذ كان صلاح طاهر نجمًا من نجوم النخبة المثقفة في مصر. ورسامًا يشار إليه بالبنان. في هذه العائلة نجد أن «الثلاثة» أيمن طاهر مختلفًا في توجهه الفني عن أبيه «صلاح طاهر» وكذلك عن حفيده «صلاح طاهر» الصغير. ثلاثة أجيال سلكوا طريقًا مختلفًا ونهجًا منطلقًا في آفاق فنية متباينة.. إذ إن ثلاثتهم فنانون تشكيليون بالمولد.. والموهبة الكامنة ثم بالجينات.. والوراثة. وقد أقيم معرض ثلاثتهم منذ ثلاث سنوات تذبذبت فيه موهبة «الأب» التي أمتعتنا بمراحلها المتعددة من الرسوم الأكاديمية ومراحله المختلفة حتي المرحلة «التجريدية- التأثيرية» الأخيرة.. ثم، لرسوم الأب التي تحمل نبض الحداثة الممتزجة بزخم حياة وتجارب عاشها أما الحفيد فهي قمة التجريد الذي يعتمد علي اللون في حسه الطازج. استدارات واضحة أيمن طاهر يحمل ملامح طفل في الستين.. وجسم ملاكم هوي هذه الرياضة ومارسها لسنوات طويلة.. وحاز فيها البطولات.. وهذا يبدو واضحًا في لوحاته التي تتوخي الدقة في التشريح.. وقد استقاها مزدوجة.. بين دروس التشريح في الفنون الجميلة.. ورسوم الموديل العاري بين رجال ونساء «إذ كان الموديل لا يقتصر علي النساء فقط في الفنون الجميلة» ومن جهة أخري اهتمامه الشخصي.. وهو «ملاكم» بملاحظة استدارة تلك العضلات ونموها.. لذا نجد رسومه في المعرض الحالي يولي فيها اهتمامًا بتلك الاستدارات الواضحة التي قد تصل إلي حد الكرة فهو يمقت الزوايا الحادة.. ولكن هذه الاستدارات المتداخلة تحترم حدود الرسم والفورم الذي يبتغيه في فضاء اللوحة كما في لوحة «صراع»- زيت 89سم* 75سم- والأهم استيعابه السهل الممتنع لحركة المتصارعين المعقدة إلي حد التلاحم.. حتي يصل إلي تلك الحداثة في التصميم- والذي ينقلب إلي كتلة متوازنة محافظة ومحترمة ومستوعبة لجميع العناصر التشكيلية في تلك الخطوط السوداء المتمكنة.. واللون الزيتي الأحمر الذي تحول إلي تلك الشفافية المائية.. في هوادة لتبدو عضلات المتصارعين في مكانها الدقيق.. وانسيابها ومرونتها.. ودقة واقعيتها التشريحية. التكوين أيمن طاهر، ابن صلاح طاهر والسيدة عايدة طاهر.. كان طفلاً وحيدًا لأبويه ولكنه لم يشعر بذلك التملق الذي يحدث للطفل الأوحد بل كان هو الذي يتملق حولهم لينغمس في تلك الحياة الاجتماعية الثرية التي كانت تأتيه طواعية.. فمن أطلق عليه اسم «أيمن» صديق والده الكاتب الكبير «عباس العقاد»، ومن كانوا من الزائرين الدائمين، الكاتب توفيق الحكيم، والحائز علي نوبل نجيب محفوظ، والملحن زكريا أحمد والشاعر بيرم التونسي وأم كلثوم.. والمهندس الكبير حسن فتحي صاحب فكرة قرية القرفة والبناء في الصحراء.. أما الفنان والخزاف حامد سعيد فكان صلاح طاهر يصطحب ابنه كل يوم جمعة للجلوس مع الفنان حامد سعيد بين دولاب الطين والأفران.. والصنعة الفنية التي تتم أمامه في الهواء الطلق.. وحين يعود إلي البيت.. كان متفرجًا علي أعمال أبيه محاطًا برائحة الزيت والترابنتينا وزخم الألوان في باليتة أبيه وحين كان صغيرًا كانت والدته تصحبه في كثير من الأحيان لتأمل الغروب وذلك العرس اليومي لزفاف الشمس إلي الجهة الأخري من الأرض هكذا قالت.. كانت تجعله يتأمل.. الورود والزهور في تؤدة.. علمته تقدير الجمال.. وفي سن الثانية عشرة وبعد ممارسة «الملاحظة» للتدفق الفني لوالده اتجه الفتي الصغير اتجاهًا مضادًا.. إلي ما بعد الحداثة في طفرة فنية مباغتة من طفل أذهلت فنانًا إنجليزيًا «مارولد لانك» وقام بأعمال تركيبية من ألواح من الألمنيوم ولم يكن هذا الاتجاه معروفًا بعد.. وأصر الفنان أن يقيم لأيمن معرضًا وهو في هذه السن الصغيرة. وبالطبع التحق بالفنون الجميلة.. كان يمارس الرسم يوميًا ولكن بجانب اهتمامات أخري.. إذ كانت قناعته إيجاد عمل دائم «للقمة العيش».. وهذا لا يتعارض مع الفن.. اتجه أولاً للعمل في مصنع نسيج لمدة 6 سنوات وفي رحلة إلي البحر الأحمر.. اكتشف عالمًا جديدًا طالما أحبه وتعلقت روحه بتلك الطبيعة الربانية بحر أزرق، ما إن ارتدي بدلة الغطس وولج إلي الأعماق حتي أصبح وجهًا لوجه أمام ذلك العالم الخلاب بألوانه المتدفقة.. عالم اتحد مع روحه. وهناك افتتح مدرسة للغطس وكان الرقم القياسي الذي حققه بعدد 6000 غطسة.. بدأ الاصطياد بالبندقية.. ثم أحب المخلوقات البحرية ومع حالة تدفق الحنان استبدل البندقية بالكاميرا.. أقام الكثير من المعارض للتصوير الفوتوغرافي الذي أجاد فيه وحصد الجوائز المحلية والعالمية. هذا ولم يتوقف عن الرسم. إذ حين تتوقف الكاميرا يبدأ الرسم.. واستكمل المسيرة بهواية اتفق فيها مع زوجته «سهي» التي تشاركه تلك الرحلات الصعبة.. في الصحراء والبلاد النائية وغاباتها.. في المكسيك.. كوبًا.. الإسكيمو.. التبت.. الصحراء الكبري.. وغيرها.. وقاده تجواله إلي هوايات أخري.. اقتناء «الحفريات» الأركيولوجي، الراقدة منذ ملايين السنين.. د.«أوجين كلارك» أستاذ البيولوجي البحري.. وأصدر كتابين الأول سيناء بالإنجليزية سنة 1992 ثم كتابه التاريخ سنة 1996 نال عن الأول جائزة عالمية والثاني جائزة من إيطاليا سنة 1997. دون تحايل هوي أيمن ملامس تلك الحفريات خاصة الأسماك المتحجرة.. ولكن لوحاته ملساء.. إذ عالمه التشكيلي يحمل ملامح ومواضيع في ذاكرته هو وخبرته الحياتية.. هو وحده.. وأطلق علي لوحاته أسماء حين نتلقاها نجد أنها للوهلة الأولي فقط لا تتلاءم مع ما يقدمه من خطوط حداثية، تحمل الكثير من الدفق اللحظي.. مثل «ودودة» «بصنعة لطافة»، «شوشرة» موسم التزاوج- علي كارت الدعوة- شوشرة.. نواعم.. أنا جدع.. لن تعدلوا.. إلي آخر تلك المنظومة المصرية الخالصة. وحين التأمل.. نجد خطوطاً متمكنة وصادقة. وموحية في لوحة سلطنة ألوان مائية 67* 54 بخطوط سوداء مختصرة.. وصلة ودودة بين المطرب والميكروفون في لوحاته لم يقدم عالمه السحري تحت الماء.. وفوق الصحراء.. بل قدم أعمالاً تتسم بالمينيماليزم إذا جاز التعبير- باختصار وتلقائية لحظية.. فهو يملك التقنين العالية.. والسيطرة علي المسطح.. وتوازن الفور، أيا كان الموضوع موشحاً قد يستخدم لونًا واحدًا أو اثنين علي الأكثر والأبيض والأسود هما الشكل الديناميكي الذي يحرك عالمه التشكيلي تعامله مع الخامة ينم عن إبراز حلقة اتصال بينه وبين المتلقي دون «التحايل» بضربات الفرشاة المحملة بالخامة.. إذ مسرحه ليس استعراضًا لقدرة لونية فذة.. بل تغلب عليها طبيعته البسيطة المباشرة وتتألق في وش دائري داخل الفورم. أيمن يهم باللوحة «ويعفقها» بالبلدي إذ يتمها في يومين خاصة في لوحاته الزيتية التي تبرز تمكنه في ضربات مختصرة من «التشريح المتقن». فهناك ذلك الحبل السري الذي يربط أيمن بطبيعة الوجود الفعلي لكائن صغير هو- الإنسان- في صحراء شاسعة قاحلة وسماء ونجوم منثورة وقمر.. أي تألق للجمال.. يدنيه عن تلك الذروة التي بعدها يرتع الفنان في عملية خلق تتجلي بشكل فوري تلقائي.