تابعنا عبر العديد من وسائل الإعلام عقب أحداث نجع حمادي انتشار أجواء داعمة لحلم النخبة وأهل الرأي والفكر في دعواتهم المتكررة للمطالبة بالعمل الجاد في اتجاه إرساء قواعد وأساسات دولة مدنية قابلة للبقاء والثبات كنموذج حي في العقول والأفئدة فكراً ونسقاً حراً ، وقبل أن تتجسد كبناء يتم تشييده عبر مؤسسات مستقلة كأنظمة عمل وإدارة إبداعية طموح تذهب وتدفع شعبنا نحو مناطق الابتكار والتطوير والعمل المنتج ، ونحو تفعيل منصات الانطلاق لتحقيق طفرات دون عثرات معوقة قد تذهب بمسيرة الشعوب إلي الخلف عبر تعميد أفكار ذات مرجعية جامدة ، وقيم وثقافات غادرت أبجدياتها كل نظم العالم المتقدم ، أو من خلال التمسح بقشور التدين الشكلي في قراءة طائفية مذهبية قاصرة للواقع ومعطياته.. إن حلم كل العقلاء في بلادي بالذهاب إلي إعمال نظم وقوانين الدولة المدنية يعد طوق نجاة وبداية ناجزة لقطع الطريق علي أصحاب دعوات تديين السياسة بفزاعات التكفير والتجهيل والتخوين.. ولكن يبدو أن من بيننا من يتقدم الصفوف ليعتلي منصات الخطابة والتنظير، ليشدو مغرداً بأجمل ترانيم العتق والحرية من رق الجمود والتبعية الفكرية السلفية ، ثم يتم مباغتتنا في الكثير من الأحيان ببعض هؤلاء وقد تلبستهم حلة ازدواجية في الموقف والتوجه تذكرنا بشخصية بطل ثلاثية نجيب محفوظ التي تحمل العديد من المتناقضات في سبل تعاملاتها داخل البيت عنها في المجتمع الخارجي .. قيم تتبدل وقناعات تتغير تدفع لقرارات ومواقف صادمة لا نجد لها تفسيراً أو اتساقاً مع تقديم عنتريات خطابية لزوم التأكيد علي سمات الزعامة والقيادة .. انطباعات ومشاعر قليني عقب أحداث نجع حمادي وفور انطلاق تصريحات د. جورجيت قليني نائبة مجلس الشعب وعضو لجنة تقصي الحقائق التي شكلها المجلس القومي لحقوق الإنسان والتي لم تخرج فيها عن دورها في نقل انطباعات ومشاعر أهل نجع حمادي بشكل عام وأسر الضحايا بشكل خاص ، ولصراحة وبساطة النائبة الوطنية قامت الدنيا ولم تقعد وسقطت أقنعة العديد من أصحاب بوتيكات المتاجرة بالكلمة والتصريحات الزاعقة ، والقابعون دوماً خلف أبواب استوديوهات الفضائيات فإذا ما تم فتحها وجدناهم علي مقاعد برامجها يفرضون بتشدد وجهات نظرهم وتغييب الآخر وعبر جاهزية الحضور الأتوماتيكية المتكررة الباهتة المنفرة.. إنه لشيء محزن أن تتعدد أقنعة البعض من النخبة في مواجهة حدث ما ، والأكثر إيلاماً أن يتعلق الحدث بأزمة من أزمات الوطن التي كان يجب أن نتعامل معها علي الأقل من جانب من ننتظر منهم الحكمة عبر إعمال العقل ، وتقديم مصالح الوطن والمواطن قبل أي اعتبارات مهما بلغت من أهمية.. أيضاً تابعنا موقف الأسقف الذي سبق ونصبه أبناء كنيسته زعيماً نادوا ببقائه في موقعه في ظاهرة فريدة وضد رغبة الراعي الأكبر قداسة البابا شنودة !!..لقد كانت التصريحات المنشورة لنيافته عقب الأحداث هجومية ضد النائبة متناسياً الأثر السلبي البالغ علي مصداقيته كزعيم روحي ( و سياسي بحكم مواقفه ) ، وهو صاحب الدعوات البطولية للدفاع عن كنيسته كما يردد الناس في الكنيسة !! إن أقنعة الوطنية التي تتغير وتتبدل حتي علي وجوه رموز وأصحاب هامات لبشر لهم أدوار إصلاحية وفكرية وريادية لا ينكرها لهم الوطن بات أمراً غريباً يستدعي أهمية التوقف عندها .. وأري أن هذه الظاهرة تتكرر في تاريخ الشعوب ، ولا يرتبط الأمر بعصور الازدهار أو الانحطاط .. إنها الازدواجية في التركيبة الشخصية التي قد تعود إلي تراكمات وتبديلات اجتماعية في عناصر ومفردات الثقافة العامة لشعب ما كان لها انعكاس في تشكيل السمات الشخصية لأصحاب التوجهات المتناقضة واقترب من نموذج رائع في التاريخ المصري الحديث ، ولنقترب علي سبيل المثال من خطاب الزعيم مصطفي كامل عبر الاطلاع علي ما كتب وقال في أوراقه التاريخية .. يقول المؤرخ الدكتور يواقيم رزق مرقص .." لقد اعتبر مصطفي كامل التثقيف والدعاية للآراء الوطنية وسيلة أخري للنضال من أجل استقلال مصر ، وأولي اهتماماً خاصاً لهذه الوسيلة بعد ما تبين له أن أسلوب استغلال التناقضات الأنجلو فرنسية عديمة الجدوي ، وجلبت له العمليات في فاشودة خيبة أمل عميقة ، وكتب مصطفي كامل بعدها إلي أحد أصدقائه الفرنسيين بأن أمله قد خاب في فرنسا التي فضلت المساومة مع انجلترا عوضاً عن الدفاع عن استقلال مصر ..وفي الداخل اتخذت دعوته شكل الخطابة والكتابة ، فكتب الكثير من المقالات الوطنية في جريدتي الأهرام والمؤيد .. إلا أنها ضاقت بموهبته وبآماله الكبار ، وحاول أن يكون له متسعاً يعرض فيه آراءه ، ويظهر فيه توجهاته الوطنية ، فكان أن أصدر " اللواء " في يناير 1900 مما يعتبر إنشاؤه علامة في صحافة مصر الوطنية آنذاك ، فقد حمل علم الجهاد وحده تقريباً ، في إيمان الواثق بحقه ، المؤمن بعقيدته ، ومن ثم أصبح لسان حال الحزب الوطني عند تأسيسه ..وقد فسر هو بنفسه في العدد الأول منه سبب التسمية بقوله " لما كان اللواء في كل أمة حية هو إشارة الوطن والوطنية وممثل أساسي لعواطف الإنسانية ، حيث يري فيه الإنسان الأمة والوطن والعقيدة مجتمعة ، وكان مقامه عند الأمم القديمة المقام الأول .. أحببنا أن نسمي جريدتنا باسم ( اللواء ) أملاً في وجه الكريم .. " خدمة الوطن والإسلام ويذكر يواقيم أن خطة الجريدة كما قال مصطفي كامل " هي خدمة الوطن والإسلام بأشرف السبل وأنفعها ، خطة الحكمة والاعتدال والحكم علي الأشياء حكماً صادقاً ، والسعي وراء الاتحاد والاتفاق بين المصريين وبعضهم من جهة وبين كل المسلمين من جهة أخري ، وتربية أبناء مصر أحسن تربية وطنية " يقول مصطفي كامل تحت عنوان "الدين والسياسة " في العدد 37 بجريدة اللواء بتاريخ 12 فبراير 1900 : أوضحنا في مقالات متعددة أن الدين والسياسة توأمان لا يفترقان بالبراهين المحسوسة والدلائل القوية أن الدول الأوروبية لم تنل من المدنية والمجد والسلطة ما نالت إلا باعتمادها علي مبادئ الدين في سياستها حتي صح أن تسمي السياسة الأوروبية بالساسة المسيحية لكونها ترقي دائماً إلي رفع شأن الدين المسيحي علي غيره من الأديان وتجعل رجاله آلة قوية في الشرق الأدني والأقصي لبلوغ غاياتها السياسية ومآربها المختلفة .. ومن يتصفح تاريخ الدولة العلية ويمعن النظر في أحوالها من أول يوم وضع فيه أساسها إلي هذا اليوم يجد أن أوروبا لم تحاربها إلا بسبب الدين ولم تتداخل في شئونها الداخلية إلا بدعوي نصرة الدين ولم تعادها إلا لأنها دولة إسلامية .. وكأن الدول الأوروبية علمت أننا إذا تمسكنا بالدين استرجعنا قوتنا وعظمتنا فتراها تعمل ما في وسعها لإبعادنا عن مبادئ ديننا ، وصنائع أوروبا في الشرق لا يكرهون شيئاً مثل مقام خطباء الإسلام وكتابه بدعوة المسلمين إلي التمسك بدينهم الكريم والعمل لإحياء مبادئه الشريفة الظاهرة التي قهرناها بجهلنا واستسلامنا للأجانب والأعداء .. ويسأل مصطفي كامل هل بعد إعلان كتاب أوروبا وخطبائها وساستها لأفكارهم بشأن ارتباط السياسة بالدين هذا الارتباط المكين (من وجهة نظره ) يستطيع أحد أن ينكر علينا وجود هذا الارتباط؟ إلي هنا ينتهي الاقتباس من جريدة اللواء وحديث مصطفي كامل إلي الغرب وإلي مواطنيه علي أرض المحروسة ، والتي نري فيها الجانب المتناقض من شخصية الزعيم وهو صاحب الأدوار التنويرية والوطنية الرائعة .. من منا يمكن أن ينسي دوره في إنشاء أول جامعة في مصر وغيرها عبر المشاركة في اتخاذ المواقف والقرارت الحضارية غير المسبوقة والداعمة لنشر الحرية والمساواة والعدالة والاستفادة بإنجازات الغرب ! إسلاموفوبيا أمر غريب تفسير الزعيم للأحداث السياسية العالمية فقط عبر رؤية دينية تجعله يصل إلي حد القبول باستعمار الأتراك لأنهم في النهاية دولة مسلمة ، وفي المقابل رفض الاستعمار البريطاني لأنهم دولة مسيحية!! يحدث ذلك من زعيم حزب وطني قبل أن نسمع بانتشار ظاهرة الإسلامو فوبيا في الغرب بأكثر من قرن من الزمان عقب أحداث 11 سبتمبر والتي ساد بعدها ذلك الخطاب الأوروبي المتشدد تجاه الشرق ، فلماذا كانت تلك القراءة الغريبة للأحداث عبر خلط الأوراق والتأكيد علي نظرية المؤامرة علي الدين ، والحديث عن دولة لايعيش فيها غير المسلمين ،وربط الدين بالسياسة والاعتقاد الجازم أنه لاتقدم يمكن أن يتحقق علي أرض المحروسة دون تحقيق هذا الربط إلي حد قوله " أن الدين والسياسة توأمان لا يفترقان بالبراهين المحسوسة والدلائل القوية أن الدول الأوروبية لم تنل من المدنية والمجد والسلطة ما نالت إلا باعتمادها علي مبادئ الدين في سياستها حتي صح أن تسمي السياسة الأوروبية بالساسة المسيحية لكونها ترقي دائماً إلي رفع شأن الدين المسيحي علي غيره من الأديان وتجعل رجاله آلة قوية في الشرق الأدني والأقصي لبلوغ غاياتها السياسية ومآربها المختلفة .." الطريف أنه وبعد قرن من الزمان علي رسالة مصطفي كامل يظهر مهووس مصري يترأس منظمة في بلاد الفرنجة يدعي أنه المدافع الأول عن حقوق أقباط مصريرفع شعار نفس الرسالة ونفس التوجه عبر ربط السياسة بالدين ، ويسأل لماذا لم يقل الناس عن مصطفي كامل أنه كان يستقوي بالخارج مثلما يتهموننا الآن؟!.