كان ميلاد هذه التجربة هو امتلاك مثير للحظة عشق مسرحي، انطلقت لتبوح وتروي عن الإنسان والوطن والحرية، فتجاوزت صمت الكائن وسكونه، واخترقت تحديات الأزمة وغياب التفاعل، وتحولت إلي حدث ثقافي شديد الدلالة، يفرض التوقف أمامه لقراءة فلسفته وطبيعة أبعاده، وكما تشير وقائع المشهد المسرحي الحالي، فإننا نعيش مواجهة ساخنة مع حالة جذر ثقافي عنيد، يرتبط بانكماش مخيف لحجم الإنتاج عبر قطاعاته المختلفة، لذلك فإن الفلسفة التي ارتكزت عليها طقاطيق جحا، تكشف عن وعي بأبعاد اللحظة الحالية، وعن رؤية متوهجة لاستراتيجية واضحة قد تعيد حرارة الحياة إلي الظاهرة المسرحية باعتبارها كتابة حية في أعماق الوجود والحرية. مخرج مسرحية طقاطيق جحا هو الفنان المثقف عبدالرحمن الشافعي.. القامة الإبداعية الشامخة ، الذي يمتلك مشروعا فكريا ثقافيا تراثيا ممتدا، يشتبك دائما مع الشمس والخصب والأرض والإنسان، تثير أعماله حالة من الجدل والتساؤلات وتأتي بصماته المسرحية مشحونة بالبريق ، والرغبة في مساءلة الكائن بحثا عما يجب أن يكون وفي السياق نفسه، فإن هذا الكيان الفني اللامع يمتلك مسارا واضحا في اتجاه التجديد عبر اشتبكاته مع تيارات الحداثة، التي تشاغب التراث والأصول والجذور ، لتأخذنا إلي عالم شديد الثراء، مسكون بالدهشة والصدمة والمعرفة وجدل الصراعات بين تناقضات واقع مخيف .. تتحول بشاعته وعذاباته إلي إبداع شرس، يموج بالبساطة الظاهرية المراوغة .. بينما تغلي أعماقه بتيارات التمرد الجامحة. هذه التجربة من إنتاج المسرح الكوميدي، وهي من تأليف أحمد هاشم، الذي يمتلك رؤية ثائرة وخيالا خصبا ووجهة نظر واضحة، اشتبك ببساطة مع الثورة والسياسة والاقتصاد.. مع وقائع السقوط وعذابات الناس في واقع ضبابي مزيف، وبعث توترا مثيرا عبر كتابة درامية مفتوحة ترتكز علي الفعل الذي ينمو في اتجاهات عديدة تجتمع في النهاية لتأخذنا إلي منطقة ذهبية مشحونة بالرغبة في التمرد بحثا عن امتلاك الذات والكيان، ويذكر أن المؤلف كان مدركا لأن العالم من حولنا قد أعلن موت الإنسان، وادعي الخرس أمام تراجيديا المآسي والانتهاكات، لذلك استطاع أن يتجاوز المفاهيم التقليدية للزمن والحدوتة والحوار، لنصبح أمام موجات من التكوينات المشاغبة بصريا وفكريا ودلاليا. يأتي اختيار مكان العرض كمفارقة جمالية شديدة البلاغة، تكشف عن معني الفن والوعي والإرادة وتؤكد أن مثقفي مصر يدركون خطورة الردة الفكرية، وعلاقة المسرح بالحرية والديمقراطية لذلك لم يكن إغلاق دار عرض المسرح العائم - للصيانة- مبررا لتوقف نشاطه ، حيث اتجهت رؤية المخرج والقائمين علي الإدارة، إلي ما هو أبعد من اشكاليات الكائن ، وشهدت حديقة المسرح العائم ميلاد هذا العرض الجميل.. وهكذا تضافرت حرارة المكان مع جرآة الطرح الفني لنصبح أمام حالة مسرحية استثنائية تجاوزت حدود الجمال المألوف. تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي يجمع بين الليل وهمس الأشواق، النيل وسحر الأشجار، النجوم والضوء والنقاء ، ولمسات الفنان «فادي فوكيه» الذي بعث بتصوراته الخصبة ملامح شخصية مصر عبر الأرابيسك والمآذن والكنائس، روح الماضي وتناقضات الحاضر واندفاعات النفي والغياب والسياسة والاقتصاد. كانت شجرة العمق الحنونة الساحرة تمتد برشاقة لتعانق الأحلام وتساءل الأيام، الفرقة الموسيقية تواجهنا بنغمات الحياة وبرتكيلات اليمين والمنتصف واليسار تمنح الحركة مزيدا من السلاسة والهارومونية، وتظل علاقة التواصل بين مساحة التمثيل والجمهور مسكونة بالدفء والتفاعل، حيث تغيب الفواصل والارتفاعات وتضمنا الدوائر والمشاعر والأحلام. تنطلق موجات البساطة المدهشة، وتظل حاضرة بقوة في قلب الحالة المسرحية ، بصمات الكبير عبدالرحمن الشافعي تكشف عن امتلاكه أقصي درجات الوعي والحرية حيث تتمزق كل الأقنعة ونكتشف معا وقائع وجود شرس يستلب وجود الإنسان تلك الحالة التي تتبلور جماليا عبر جموح الجروتسك، وبساطة لغة الإخراج الي أخذتنا إلي ذلك البيت الفقير المسكون بالمشاعر والحركة وجدل الواقع والتراث والتاريخ لنلتقي بجحا وزوجته وحماته، ونصبح جزءاً من ذلك الماضي البعيد الذي فارق الكتب والحكايات وامتلك حياة جديدة علي خشبة المسرح. كانت ملامح الزوجة تشتبك بحرارة مع طبيعة المرأة المصرية ، حيث الدفء والحب والاندفاعات والمشاغبات الشقية، صوتها المرتفع يسبق انفعالاتها تدفع زوجها إلي معانقة الحياة.. لكن جحا يشعر أنه هان علي الناس، راح مع الزمن اللي راح، بعد أن غاب من يقرءون ومن يسمعون، وعبر تقاطعات الغناء الجميل مع مفردات التراث تؤكد الكلمات أن هذا الكيان يعيش في ضمير الناس وتظل خطوط الحركة تبعث وهجا ثريا، يتجول معه المشهد إلي طاقات حيوية يلمس معها المتلقي ميلاد نص آخر مواز يتجه بقوة نحو عذابات حاضرنا الشرس، حيث تطلب الزوجة من جحا أن يذهب إلي الوسعاية، يخطب في الناس ويرفع الشعارات وقد تأتيه رصاصة فيصبح شهيدا، وقد يكون وزيرا أو رئيس وزراء، ويذكر أن إيقاعات الموسيقي وجماليات الغناء ولغة الجروتسك الساخرة قد بعثت تيارات من النقد السياسي الكاشف لأبعاد ثورة 25 يناير ، وجاء ذلك بأسلوب شديد التباعد عن المباشرة والتكرار الذي سيطر علي عروض المسرح. أثار مشهد جحا مع حماره تيارات من النقد والجدل، العلاقة بينهما تسكن عقول اجيال وأجيال ، والتوظيف الجمالي لعروسة الجوانتي يشتبك مع رشاقة الحركة والأداء ، وعبر تقاطعات الموسيقي والغناء نعلم أن جحا، سوف يسافر إلي الزمن القادم ومعه الحمار، وتظل الحالة المسرحية متدفقة بالاشتباكات السياسية التي تضعنا أمام بشاعة الحقيقة وزيف الماضي والحاضر، وهكذا سيذهب جحا ليبحث طويلا عن الشرفاء أصحاب القضية، لأن الوسعاية فيها الأرزقي والبلطجي والثورجي وبتاع النسوان.. ويرتفع صوته شي يا حمار ، بينما تبكي زوجته التي سيؤرقها الغياب. يأخذنا تقاطع الاظلام والضوء إلي مصر حيث يصل الحكيم إلي الوسعاية التي توحي بالميدان المزروع بالبشر، رغم أنها فارغة تماما المونولوج يكشف عن صدمة الرجل بموجات الحزن والكآبة والشراسة المرسومة علي وجوه الناس يتذكر أن مصر كانت قطعة من الجنة، وناسها كانوا طيبين وحين تراه المذيعة التي ترصد رأي الناس في الشارع تتوقف أمامه لتسأله .. فيلقي عليها نوادره وتتفتح المسارات أمام طرح رشيق لقضايا واقعنا المتأزم ، حيث النيل الملوث والكهرباء والإضرابات والاعتصامات والفقر والغلاء، ويدخل جحا دوامة الصدمة ويتحول وجوده في هذا الواقع المغاير إلي مفارقة درامية كبري تدين غياب المعني وصعود القهر والفوضي، وتكتمل الدلالة عندما نعلم أن حماره قد هرب منه، هاج وماج مع حشيش الوسعاية وتاه في المليونية. أدرك جحا كما يشير حواره أن الثوار ضربوا ضربتهم بقوة وجسارة، لكن ياخسارة ناس تانية ركبوها ، تلك الرؤية التي تتجسد تفاصيلها مسرحيا منذ البدايات الأولي في الميدان، وحتي لحظة كتابة دستور مصر البديعة وفقا لمنظور أحادي يتجه بقوة نحو الفكر الوهابي المغلق، هكذا يتضافر الضوء مع الموسيقي وتأخذنا الحركة إلي مجموعة من الرجال الملتحين، يرتدون الجلاليب البيضاء ويجلسون في العمق، الغناء يتقاطع مع الألحان ، والكلمات تشتبك بجرأة مع انتخابات المجلس والحرية والعدالة والأغلبية البرلمانية ، إيقاعات الذكر تثير الوهج، وتستدعي من الأعماق تواصلا غيبيا، جحا يتمايل ويغني ويبعث حرارة «وجدلا» بينما تتحول الكورتوجرافيا الثابتة إلي موجات ضمنية من الحركة الهادرة، وتظل تعليقات جحا تكشف عن الرغبة في هبرة من الفتة، وحتة من التورتة وتؤكد ضرورة فصل بتوع الفتة من السلطة لأن التكالب من سوء الفهم ، وحين يمتد بينهما الحوار يعلنون أنهم صبروا طويلا ونالوا وأصبحوا والحمدلله مسيطرين. كان التوظيف الجمالي للعرائس هو حالة من الدهشة والفكر والفرجة ، اللاعبون المتميزون الذين نراهم أمامنا علي اليسار بعد سقوط الحائط الرادع يبعثون إيقاعات الوعي والنقد والبهجة، وتفاصيل المشهد تأخذنا إلي جلسة من جلسات المجلس المنحل الغناء يتضافر مع حركة الأعضاء والعضوات، والحركة المتوترة تشتبك مع الحوار الباحث عن ضرورة قطع الطريق علي الثورة القادمة، وفي هذا الإطار يجلس جحا بجانب الأعضاء يتأمل الحوارات الفارغة العقيمة عن الأكل والمحشي، وقانون حق الأزواج في مباشرة العلاقة الجنسية بعد الوفاة، الحالة تدفعه إلي دوامات الحزن ويدرك أنهم ينظرون من خرم أبرة ضيقة يتركون الأصل وقضايا الناس ليغيبوا في العبث والضياع، لذلك يقيموا عليه الحد ويقرروا شنقه في الوسعاية. عبر الانتقالات السريعة تأخذنا لغة الإخراج إلي بيت جحا في ماضيه البعيد، زوجته تشعر بكابوس مخيف ، تري كل ما يحدث له ويؤرقها الغياب، وتظل لغة المسرح تختصر الزمان وتسيطر علي المكان، فنري الحكيم العاقل يجلس علي اليسار، ليصبح الماضي في مواجهة الحاضر، ويمتد تيار المشاعر ليتحدث الزوجان، رغم كل ما يفصلهما من أزمنة وسنوات يخبرها أن حماره الطيب هرب أو تاه مع البني آدمين التايهين، ويظل يبكي علي الثورة المسروقة والفكر المغتال، وعبر النداءات الحارة يقرر الرحيل وفي هذا السياق يأخذنا الضوء إلي مزيد من الكشف عن اهتراء الواقع حيث البلطجية يهاجمون جحا، يرفعون في وجهه الأسلحة، وينزعون ملابسه والطرطور، ورغم طول المشهد إلا أنه جاء كاشفا عن انهيارات المعني وسقوط الإنسان. تمتد التقاطعات وتتصاعد الإيقاعات ويعود جحا إلي ماضيه، حيث البيت وزوجته ومشاغبات حماته، ومشاعره المثقلة بالأحزان علي أهل مصر الذين اسودت وجوههم وضاعت ضحكة زمنهم فتوحشوا وظهر أسوأ ما فيهم وتظل الموسيقي وحرارة الغناء تطرح التساؤلات عن أم الهرم والنيل والأزهر وكاترين، وتنطلق خطابات العرض الجميل وتتجه رسائله إلي الناس الذين هم الحقيقة والحلم والمسار، وتأتي النهاية حيث الاحتفال بالحياة عبر الضوء والحركة والغناء، الباحث عن الوعي والأشواق ، وتظل التساؤلات باقية، تحذرنا من النفي والغياب وتدفعنا إلي امتلاك المسار والمصير. شارك في المسرحية فريق عمل متميز فكان الفنان الجميل محمد دسوقي هو قطعة من الوهج والوعي والبريق جاء أداؤه كاشفا عن موهبة خصبة وحضور لافت وإدراك لأسرار الفن وجماليات التواصل، أما الجميلة فاطمة محمد علي فقد بعثت بصوتها وأدائها حالة من التدفق والبهجة وانطلقت إلي آفاق الفن الجميل، ولعبت دورا سيفتح أمامها مسارات صاعدة، وتأتي مشاركة مديحة أنور ورشا فؤاد لتبعث موجات من الحيوية والدفء وتضيف أبعادا لافتة للحالة المسرحية، وقد شارك في العرض أيضا الفنانون المتميزون مجدي عبدالحليم، عادل طلبة، كرم عز الرجال، وعبدالسلام عبدالعزيز، وكانت لهم بصمات ولمسات جمالية مدهشة، ويذكر أن لاعبي العرائس كانوا نجوما لامعة حيث اشترك سيد إبراهيم ، حسام الشربيني، أحمد إبراهيم، هاني وهيثم، في تكثيف موجات الفرحة والإبهار. كان الديكور للفنان فادي فوكيه صاحب الرؤية الخصبة والفكر الثري والجمال الأثير، أما موسيقي أحمد خلف فهي منظومة من السحر والوعي والثراء، وكذلك كانت اشعار محمد الشاعر كاشفة عن عمق تجربته وخصوصية لغته ومفرداته.