بالطائرة.. الرئيس السيسي يتفقد مشروع مستقبل مصر للتنمية المستدامة    سيارات بايك الصينية تعود إلى مصر عبر بوابة وكيل جديد    جيش الاحتلال: إصابة 19 عسكريًا خلال ال24 ساعة الماضية    "لاعب كارثة والحكم أنفذهم".. تعليق ناري من رضا عبدالعال على خسارة الزمالك أمام بركان    انطلاق فعاليات المُلتقى التوظيفي الأول بجامعة طيبة التكنولوجية    وزير الصحة يبحث مع نظيره اليوناني فرص التعاون في تطوير وإنشاء مرافق السياحة العلاجية    "قنديل" يستقبل وفدا من إيبارشية حلوان والمعصرة وتوابعهما    سفير واشنطن لدى إسرائيل ينفي تغير العلاقة بين الجانبين    وزيرة خارجية سلوفينيا: ما يحدث في رفح الفلسطينية انتهاك للقانون الإنساني الدولي    برلماني: السياسات المالية والضريبية تُسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه الروماني    السجن المشدد 6 سنوات ل " سمكري سيارات " يتاجر بالمخدرات بكفر الشيخ    ضبط سيدتين و 4 رجال بتهمة إطلاق النيران في قنا    حجز إعادة محاكمة المتهم بتزوير أوراق لتسفير عناصر الإرهاب للخارج للحكم    تفاصيل دور محمد ثروث في «محو أمنية»    السيسي يوجه رسالة عاجلة للمصريين بشأن المياه    بالصور.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي السينما المستقلة بالقاهرة    مدير التأمين الصحي بالشرقية يعقد اجتماعا لمكافحة العدوى    لماذا سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم؟.. الأزهر للفتوى يوضح    «التعليم» تنبه على الطلاب المصريين في الخارج بسرعة تحميل ملفات التقييم    وزير الرى: احتياجات مصر المائية تبلغ 114 مليار متر مكعب سنويا    وزيرة التضامن تشارك في أعمال المنتدى الدولي لريادة الأعمال ومبادرة العيش باستقلالية بالبحرين    روسيا: مقتل15 شخصا على الأقل في هجوم على مجمع سكني في بيلجورود    ما هو موعد عيد الاضحى 2024 في الجزائر؟    تقديم معهد معاوني الأمن 2024.. الشروط ورابط التقديم    تعليم البحيرة: 196 ألف طالب وطالبة يؤدون امتحانات الشهادة الإعدادية وأولى وثانية ثانوي    هل ويست هام قادر على إيقاف مانشستر سيتي؟ رد ساخر من ديفيد مويس    تصفيات المونديال.. حكم كيني لمباراة مصر وبوركينا فاسو وسوداني لمواجهة غينيا بيساو    مناظرة بين إسلام بحيري وعبد الله رشدي يديرها عمرو أديب.. قريبا    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. الإفتاء توضح    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد كلية طب الأسنان (صور)    الرعاية الصحية: لدينا 13 ألف كادر تمريضي بمحافظات التأمين الصحي الشامل    ختام ناجح لبطولة كأس مصر فرق للشطرنج بعدد قياسي من المشاركين    الرئيس السيسي يوجه بتعديل اسم محطة "الحمام" لتحلية المياه    خلال 12 يوم عرض بالسينمات.. فيلم السرب يتجاوز ال24 مليون جنيه    توقعات برج العقرب من يوم 13 إلى 18 مايو 2024: أرباح مالية غير متوقعة    وزير الثقافة الفلسطيني السابق: موشي ديان هو أكبر سارق آثار في التاريخ    مصر تُبلغ "رسالة" لوسطاء مفاوضات غزة.. مصدر رفيع المستوى يكشفها    جامعة طيبة التكنولوجية تنظم المُلتقى التوظيفي الأول بمشاركة 50 شركة ومؤسسة صناعية    بدءا من 10 يونيو.. السكة الحديد تشغل قطارات إضافية استعدادا لعيد الأضحى    مد فترة التقديم على وظائف المدارس التطبيقية الدولية حتى 20 مايو الجاري    تشمل 13 وزيرًا.. تعرف على تشكيل الحكومة الجديدة في الكويت    التحليل الفني لمؤشرات البورصة المصرية اليوم الاثنين 13 مايو 2024    شعبة الأدوية توجه نداء عاجلا لمجلس الوزراء: نقص غير مسبوق في الأدوية وزيادة المهربة    موقف السولية وعبد القادر من المشاركة في نهائي إفريقيا    عاشور: جار إنشاء 17 جامعة تكنولوجية جديدة بجميع أنحاء الجمهورية    إنشاء مراكز تميز لأمراض القلب والأورام ومكتبة قومية للأمراض    رئيس الغرفة التجارية: سوق ليبيا واعد ونسعى لتسهيل حركة الاستثمار    محافظ القليوبية: تطوير مداخل مدينة بنها وتحويلها إلى حدائق ومتنزهات    تداول 15 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة و806 شاحنات بموانئ البحر الأحمر    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروع سد «جوليوس نيريري» الكهرومائية بتنزانيا    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية في ديرمواس ضمن «حياة كريمة»    تعرف على الحالة المرورية بالقاهرة والجيزة    الافتاء توضح حكم ارتداء المرأة الحجاب عند قراءة القرآن    أرتيتا يثني على لاعبي أرسنال    فضل الأشهر الحرم في الإسلام: مواسم العبادة والتقرب إلى الله    سيناتور أمريكي مقرب من ترامب يطالب بضرب غزة وإيران بسلاح نووي    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهو ده اللي صار.. معني اغتيال الوطن
نشر في القاهرة يوم 28 - 02 - 2012

عندما تأتي تجارب الفن كالوشم الناري علي ذاكرة الوطن، وتتحول وقائع الزيف والاستلاب إلي موجات جروتسك ساخر تبوح وتكشف وتمزق كل الأقنعة، فإننا نصبح أمام مواجهة ساخنة لتيارات القهر والاستبداد ومعني اغتيال الوطن. تجارب ساخنة في هذا السياق يقدم مركز الهناجر للفنون مسرحية «أهو ده إللي صار» التي يعود بها إلي الحياة الثقافية بعد تجديده ليشاغبها بتجاربه الساخنة، فهو من الكيانات الفنية التي بعثت تيارات عارمة في مسار الواقع المسرحي عبر فلسفة واضحة تبنتها رئيسة المركز الدكتورة هدي وصفي، القامة الفكرية الشامخة والكيان الثقافي والإنساني المبهر التي تمتلك وهجاً ساحراً يدفعها إلي معانقة الحياة وجموح الفن. مؤلف المسرحية هو الكاتب المتميز محمد الرفاعي الذي يعشق مصر يذوب حباً في ناسها ونيلها وشوارعها وحواريها يمتلك وعيا إنسانياً رحباً وحساً شعبياً ثائراً له قاموسه الخاص ومفرداته الحارة ولغته البسيطة الثائرة كتب نصا مدهشاً حدايثا تجريبياً مغايراً يبوح بأسرار العذاب ورائحة الوطن، جاء مسكوناً بسحر الروح وحرارة اليقين فأثار الجدل والتساؤلات وأعلن العصيان علي زمننا العبثي الشرس وفي نفس السياق تظل الكتابة هي ابنة شرعية للفن الجميل ترتكز علي مقوماتها الدرامية من حيث الرؤية والتصاعد والإيقاع والفعل الدرامي المتوهج بجماليات الجروتسك وجرأة الكاريكاتير وحرارة الكوميديا. تناول المخرج المثقف الفنان محسن حلمي هذه التجربة ليضعنا أمام مفارقات الدهشة والجمال الأخاذ، بعث حالة مسرحية تموج بالحب والوعي والنضج والجموح، جاءت بصماته واثقة ومفرادته ثرية متميزة وكشفت تفاصيل صورة المشهد المسرحي من الخصب والتنوع والانتماء لذلك امتدت موجات الإيحاء بأننا أمام خشبة مسرح ثلاثية الأبعاد تجمع بين إبهار السينما وسحر المسرح وصخب الإيقاع وفي هذا السياق اشتبك منظور الإخراج مع السياسة والاقتصاد وقضايا الإنسان واتجهت الرؤي الكاشفة إلي ملامسة جمرات القهر والتسلط والاستبداد وكانت إيقاعات الكوميديا وسخونة الجروتسك هما الأكثر حضوراً في قلب الحالة المسرحية ويذكر أن تصورات المخرج محسن حلمي قد اتجهت نحو اختراق الصمت وتفجير الزيف ونزع الأقنعة، تلك الحالة التي امتلك بها حق الاختلاف والإبداع والمواجهة وكان للعرض قانونه الخاص وإطاره المتميز وعلي مستوي آخر يكشف اختيار المخرج لفريق العمل عن حرفية عالية وحساسية بالغة، وإدراك لأهمية مفاهيم الهارمونية والاتساق حيث تحول الفريق إلي طاقة من الوهج والنبض والحياة وتجاوز حضور النجم الفنان «لطفي لبيب» حدود البريق اللافت والكاريزما المشعة ليصبح كياناً عارماً يشتبك مع شخصية مصر، يشاغب الصعايدة والفلاحين وأولاد البلد ويأتي أداؤه وعياً وحباً وعشقاً وضميراً جمعياً. احتفال مدهش تأخذنا اللحظات الأولي إلي احتفال مدهش بالحياة الضوء يعانق الألحان يشاغب فرقة الموسيقي الشعبية في العمق البعيد وأناقة التشكيل تبعث فيضاً من دلالات الاشتباك مع أصالة الأرض وحرارة الشمس ومعاني الانتماء وعبر جماليات الإيقاع والحركة تواجهنا لغة الإخراج بتضافرات شديدة الدلالة بين ملامح التجريب والتجديد حيث الرقص والاستعراضات وإيقاعات الجسد والتكثيف البليغ لمؤشرات ذلك العالم الذي يموج بمراوغات السياسة والجنس والتزييف. في بيت العمدة كان التشكيل السينوغرافي شديد البساطة يتجه إلي الإيحاء والتجريد ويرتكز بشكل أساسي علي طبيعة الحركة وتيار المشاعر وردود الفعل، فالعمدة مسكون بكبرياء السلطة واندفاعات العنف، صوته المرتفع وأوامراه تهز أعماق الغفير والحوار يكشف عن فساده واستبداده وقلقه من الأصوات التي امتلكت مقدرة البوح والمكاشفة والعصيان، هكذا يتبلور مسار صراع ناري بين السلطة والشعب تتضح أبعاده عبر لقائه الساخر بالأستاذ هيثم وزوجته مصراوية، تلك الحالة التي تضعنا أمام مفارقة شديدة البلاغة، تموج بالبراءة الظاهرية المراوغة، بينما تتفجر الأعماق بغليان البحث عن معني الإنسان فالعمدة يسرق والناس تائهون وليل القرية مسكون بهواجس الجنس وأفلام البورنو ومصراوية تتنبأ بسقوط العمدة وتجريسه، بينما يحاول هو الدفاع عن عالمه الذهبي بتزييف الوعي واستبعاد المعارضين. تأخذنا لغة الفن إلي إيقاعات الذكر والزار وغموض الوهم وعذاب الأحلام، وتشتبك موجات الضوء لنعايش استعارة جمالية حركية تدور علي المستوي الدرامي والنفسي للعرض حيث ينجح العمدة في إقناع مصراوية أن ابنها طالب الطب يعيش أزمة خانقة هناك في مصر وأن أولياء الله ينادونها للزيارة وعليها أن تذهب هي وأبوه للبحث عن الفتي وانقاذه، وفي هذا السياق تشهد خشبة المسرح جموحاً حركياً متميزاً ويتضافر الضوء والموسيقي مع الرقص والاستعراض ودلالات التوظيف الجميل لخيال الظل، الذي يتجه إلي الزاوية الحرجة حيث الجدل بين مفاهيم التآمر وميلاد تيار الوعي وتمتد إيقاعات كوميديا الموقف، ونضحك طويلاً مع هيثم وزوجته حين ركبا القطار للمرة الأولي وتبلورت المفارقة الصادمة عندما وقعت جريمة إنسانية معتادة في بلادنا، فقد احترق القطار ومات الركاب. الايقاعات متدفقة تميزت لغة المخرج محسن حلمي بإيقاعاتها المتدفقة وقطاعاتها السريعة، وتقنياتها البسيطة المدهشة فحين عرف العمدة نبأ موت هيثم ومصراوية، عاش أبعاد أفراحه الكبري التي تبلورت مسرحياً بأسلوب الكاريكاتير الشرس لتشتبك برشاقة مع اهتراءات السياسة وعنف السلطة وجموح الجنس وزيف المشاعر.. وعبر الحوار والاستعراض وإيقاعات لغة الجسد تتكشف أعماق الزيف في العزاء الذي يقيمه العمدة ليصبح مجالاً ثرياً للتساؤلات والتناقضات ومسارات السياسة الغائبة دوماً عن مشاعر الناس. يأخذنا الانتقال الضوئي السريع إلي المستشفي في عنبر الحروق ونصبح أمام تشكيل سينوغرافي بسيط ودال حيث الأجساد الملقاة والآهات المخيفة والعذابات المشتعلة ومصراوية وزوجها هثيم اللذين أنقذهما القدر، وفي هذا الإطار تشتبك التفاصيل الغزيرة مع تيار المهانة الإنسانية ومفاهيم استلاب الروح والجسد والتزييف الإعلامي لوقائع الموت والغرق وتناقضات عشق الغلابة لمصر في واقع عنيف مستبد، تتبلور أبعاده عبر تيارات الكوميديا السوداء الجامحة حين يأتي البوليس للتحقيق ويوجه لهثيم وزوجته اتهاماً ملفقاً بحرق القطار والإساءة لسمعة مصر، وهكذا تمتد الإيقاعات السريعة ويأمر الضابط ببراءة الرجل، واعتبار الموضوع قضاء وقدر. توتر ووهج تظل شخصية هيثم مثاراً للإعجاب والتوتر والوهج، فيه الشهامة والذكاء والإدراك والعشق العارم لتراب الوطن يري مصر أغني دول العالم لأنها تُسرق منذ سبعة آلاف عام ولم تُفلس يتحدث مع الناس عن الحكومة النزيهة والإعانات والتعويضات الرخيصة ويثير تواصلاً حاراً مع الجمهور عبر امتلاكه لمعني الفن ومصداقية التفاعل وفي هذا السياق تمتد الرحلة وتفتح ستارة العمق لتنطلق موجات سحر القاهرة عبر البانوراما المدهشة لماسبيرو الخارجية القلعة والبرج والنيل والسماء والبيوت والضوء ويأتي منظور الإخراج ليحول خشبة المسرح إلي مجال مدهش للتناقضات والمشاعر والحركة فنري هيثم ومصراوية في مواجهة واقع نقيض مختلف تحاصرهما عذابات المدينة الكبيرة الساهرة، الدلالات تثير اشتباكات مع وقائع الحاضر، حيث السلفيين والإسلاميين والتقدميين واتهامات الكفر والعربدة والمظاهرات والهتافات والموالد والشباب وهيثم الذي اندفع إلي العمق ليحمله الناس علي الأعناق ويذهب معهم إلي السفارة الأمريكية ليدين العدوان علي العراق. اتجهت بصمات الإخراج إلي تقنيات كسر الإيهام فارتبطت الموسيقي الراقصة بأحداث سياسية ساخنة واندفع الزوجان إلي اقتحام السفارة وانتقلنا معهما عبر الضوء واستعراض العسكر إلي عذابات أمن الدولة بعد اتهامهما بمحاولة حرق السفارة، وهناك جاءت المواجهة الساخنة لتكشف عن شراسة الضابط الجزار وبراءة هيثم أمام اتهامه بالانتماء لتنظيم القاعدة الذي لم يسمع عنه من قبل، لذلك بعثت موجات الكويمديا المتدفقة حالة من الوعي المثير للتساؤلات وضحك الجمهور طويلاً عندما أمر الباشا الكبير بخروج الزوجين وتضافرت إيقاعات صخب الموسيقي الشعبية مع فكرة التجريد الموحي للسيارة التي تأخذهما إلي بيتهما الموهوم في شوارع القاهرة كانت الصدمة مروعة ظلا يناديان الناس يسألان عن ابنهما عن عبده الطالب في كلية طب الأسنان وتفجرت في الأعماق مأساة الاغتراب وموت التواصل واهتراء العلاقات وفي هذا السياق كان الاشتباك ساخناً مع الشباب والفقر والبطالة والتناقضات وعندما رأي فتاة العربة الفارهة وهي تصدم شاباً وتتركه بلا مبالاة لتهرب أصابه الهلع المجنون واندفع لانقاذ الفتي. عبر جماليات حالة مسرحية ساخنة تثير جمرات الوعي وتيارات الأحزان وترسم أبعادا مفارقة اغتيال الإنسان لم يجد هيثم إلا عربة روبابيكيا وضع عليها الشاب ودفعه إلي المستشفي وحين خرج الطبيب من غرفة العمليات أعلن أن العملية نجحت لكن المريض مات.. ورفضوا تسليم جثته لحين دفع آلاف الجنيهات. وعي وتمرد كان أداء بطل العرض لطفي لبيب هو ثورة عارمة ووعي وتمرد وعصيان فقد أعلن بتلقائيته المدهشة أن مصر يجب أن تتغير تسترد وجودها وإنسانيتها وتمزق أقنعة الزيف والتشوه والغياب لذلك اتخذت ردود فعل هيثم مساراً مدهشاً حين أجبر إدارة المستشفي علي دفع ثمن الإهمال والموت ودفن الشاب وإقامة سرادق عزاء فخم له تلك الحالة التي نشاهدها علي المسرح لتصبح مساراً للانطلاق إلي صدمة الوعي ودهشة الفن الجميل حيث بلغت رؤية المخرج محسن حلمي مراحل أخاذة من النضج والاكتمال في إدراك التناقضات وتكثيف معني الوجود والعدم ومؤشرات الخلل والعبث وأصبحنا في مواجهة عارمة للمسرح حين يكون فناً وفكراً ونقداً وإبهاراً وثقافة وجمالا، وقد اتجهت تقنياته نحو لغة المونتاج والقطع السريع وتفجرت دلالات التوازي والتوالي عبر الصخب المجنون حيث العزاء والحزن والناس والشيوخ علي يمين المسرح، بينما اليسار يشهد فرحاً من أفراح الشوارع فيه الراقصات والمطرب والغناء الرخيص، الزجاجات والأقراص والدخان البلطجية والمزز وأوهام الليل الطويل، وعبر منظومة الضوء الدرامي وحرارة التقاطعات نعايش صراعاً عنيداً ومخيفاً بين الموت والحياة ويتألق نجوم تكاتك شبرا بالرقص والعنف والغناء الهابط بالمطاوي والسنج والإيحاءات الساخنة. وفي هذا السياق نلمس حرارة رغبة الناس في ترك العزاء واندفاعهم القوي إلي الفرح والغناء والراقصات ويحاول هيثم أن يقاوم لكنه يندفع أخيراً ليرقص بقوة مع الراقصة البيضاء الشقية ويتسع الكادر لتصبح خشبة المسرح كلها مسكونة بإيقاعات الليل والسهر والغناء. تمتد إيقاعات التصاعد فلايزال هيثم ومصراوية يبحثان عن ابنهما في الشوارع، الموسيقي تتضافر مع الضوء لتكشف تفاصيل البانوراما الثرية في الخلفية والطرقات تشهد العديد من الوقائع والتناقضات حيث المزج المدهش بين الشرطة والبلطجية وتزوير الانتخابات وتظل دهشة الزوجين تمثل علامات استفهام حائرة، لكنها ثائرة فالناس في بلادنا أرهقهم القهر واستلب منهم الروح والجسد، أصابهم الاكتئاب والشيزوفرينيا، تلك الرؤي التي تبلورت عبر الحركة والموسيقي والضوء الذي يكشف رجال الشرطة في الخلفية، بينما تجار المخدرات والبلطجية يمارسون عملهم في تلقائية. كان ليل القاهرة ساحراً وفجرها بريئًا فرحاً وعارماً، لكن التشكيل الجمالي لقهر الأحزان قد دفع بأعضاء فريق العمل إلي الاستلقاء علي خشبة المسرح في استسلام وضياع خطوط الحركة ولغة الجسد تشتبك مع وقائع اللحظة وخطورتها، هيثم ومصراوية يوجهان التساؤلات للجمهور لتتفجر موجات إدانة الفساد والاستبداد، الفقر والقهر والتغييب، الأمراض والسرقات والسرطانات، وفي هذا السياق تمتد إيقاعات الوهج وتصبح شراسة الواقع المصري الآن هي ذروة هذه التجربة الجميلة وعبر تضافر خطوط الحركة وموجات الضوء تشتبك رؤي السلفيين مع الإخوان والتقدميين والليبراليين، الشيعة والسُنة والاشتراكيين، ويرتفع صوت هيثم مؤكداً أن الناس في مصر نائمة، مقتولة بالفقر، فهل جاءت التوهة؟ وتأتي التقاطعات الدالة مع صوت مصراوية وهي تنادي الناس تبحث في وجوههم عن ابنها الغائب، تناديه من أعماق قلبها نداء يرتبط بالضوء القوي والأجساد الشابة والهتافات العارمة بالسقوط والرحيل. هكذا تموج خشبة المسرح بالحياة، ويقفز الزمن إلي قلب اللحظة حيث صراع
التوجهات السياسية وتظل مصراوية في المقدمة تنادي وطنا يكاد يتمزق وتأتي كلمات سيد درويش تؤكد أن مصر لنا جميعاً وتدعو للوحدة والحرية والأمل القادم. روح الثورة هذا العرض تهديه الدكتورة هدي وصفي إلي روح الثورة التي نفضت عنا غبار سنوات الاستبداد ويهديه الخرج محسن حلمي إلي أرواح شهداء ثورة 25 يناير، وقد شارك فيه فريق عمل ضخم شديد التميز وكان النجم لطفي لبيب هو طاقة مشعة من الجمال والوعي والوهج والخصب والتواصل، تفاعل بحرارة مع الشباب وكتبوا معاً وثيقة حية في حب مصر، أما الجميلة مني حسين مصرية الأعماق والملامح فقد انطلقت إلي آفاق الفن عبر حضورها المتدفق وأدائها المدهش لشخصية مركبة تبعث فيضاً من الدلالات، ويأتي الفنان أحمد الحلواني الذي لعب أكثر من شخصية ليكشف عن موهبة متجددة وحضور لافت وعن طاقات وتيارات ومشاعر وامتلاك لأدوات التمثيل وفلسفة التواصل ويذكر أن الفنان هشام عطوة قد كشف عن إيقاعات الثراء والخصب والتنوع عبر أدائه المغاير للعديد من الشخصيات وكانت لمحاته الكوميدية ولمساته المأساوية كاشفة عن وعيه لأساليب الأداء الحداثية اللافتة وفي سياق متصل أثار الفنان هاني عبدالمعتمد إعجاب الجمهور بإدراكه لجماليات الفن والبساطة والتلقائية، يذكر أن الشاب الواعد محمود الجابري قد أثار حالة من الوهج تؤكد انطلاقه القادم إلي آفاق واسعة. شارك في العرض أيضاً محمد فوزي، عمرو شريف، رضا طلبة، حازم مدبولي، مينا نادر، طارق هاشم، وسام العربي، مريم خطاب، عبدالعزيز محمود، محمد خليفة وشهد شوقي. كان الديكور الرشيق المبهر للفنان الجميل فادي فوكيه، الموسيقي لمحمد باهر وكذلك كان الحضور الأنيق لفرقة الموسيقي الشعبية هو إضافة جمالية للمسرحية.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.