تأتي مسرحية وجوه كقطعة فنية مدهشة، مشحونة بالفكر والثورة والسياسة وموجات الوعي والثقافة، فهي حالة إبداعية مغايرة تكشف عن جمرات وجود ناري أعلن العصيان علي الصمت والجمود بحثا عن عناق دافئ مع الإنسان والحرية. هذه المسرحية هي لقاء عربي رفيع المستوي يشتبك مع وقائع لحظة البعث وصراعات الميلاد ليقدم قراءة سحرية في كف ثورات الربيع العربية، ونصبح أمام حالة فنية تحمل بصمات مصرية عربية، تبلورت عبر رؤي المخرج الليبي شرح البال عبدالهادي، والمؤلف الليبي أيضا فتحي القابسي، وفريق التمثيل من نجوم مصر وشبابها الواعد، ويشهد مسرح الهوسابير ميلاد هذه التجربة المتميزة التي تتبناها شركة روانا للإنتاج الفني. ترتكز مسرحية «وجوه» علي سيناريو يضم مجموعة من المشاهد المتوالية، نسج منها المؤلف عرضا مثيرا يمتلك شرعية وجوده الدرامي، حيث الفعل والتصاعد والتدفق والكشف الثائر عن مرافعات الحقيقة المفزعة، وظلت الرؤي تنساب.. تتقارب وتتباعد، تشتبك وتتعانق لتبدو كلوحة سيريالية يختلط فيها الذاتي مع الموضوعي، والخاص مع العام، وتنشطر فيها الأعماق لتتحول إلي شظايا ونبضات، وعبر سحر الأفكار وجموحها المثير تأخذنا الحالة المسرحية إلي اشتباك شديد التكثيف والدلالة مع وقائع حاضرنا العنيد حين تتضح أبعاده وأعماقه، وترقص شياطينه وتصبح اللحظات الفاصلة في تاريخ وجود الإنسان مثارًا للجدل الثائر بين الفلسفة والتاريخ والسياسة خلال مسارات السقوط والصعود والردة والانكسار. في هذا السياق نجد أن المؤلف فتحي القابسي كتب نصا حداثىًا متميزًا يذكرنا بفلسفة بيكاسو حين رسم وجوهًا تعددت فيها العيون والأفواه والأنوف ليطرح رؤيته لمعني التناقضات والزيف، ويبحث عن الحقيقة المراوغة.. هكذا أصبحنا أمام كتابة بلا مركز يميزها التنوع والثراء والتعدد، ارتبطت نقديا بفكرة سقوط المرجعيات المعرفية والاجتماعية، حيث لم يعد للعمل الفني بمفهومه الحداثي، بؤرة محددة ينطلق منها، لكنه يتشكل وينمو عبر اختلاف الرؤي وتعدد الأنماط.. فالمسرح الآن يشهد تحولاً جذريا ينتزعه بقوة من سلطة المطلق والمجرد والواقع والمحاكاة، ليندفع إلي خصوصية الذات وإيقاعات الحس والمشاعر، ونبضات الجسد، وذلك في سياق تتكسر فيه مفاهيم التتابع الزمني للحكاية والحوار والحدث، حيث تغيب الأطر والمرجعيات وينتفي مبدأ الوحدة العضوية، والاتساق الهارموني الناعم، لنصبح أمام جماليات شرسة مغايرة، يبعثها تفجير المعاني الأحادية للمشهد، وتحويلها إلي موجات من التكوينات المشاغبة بصريا وفكريا ودلاليا. رغم أن البناء الدرامي قد تبلور عبر صيغ المونو دراما، التي ترتكز فلسفتها علي الرومانسية والعزلة والنزعة الفردية، إلا أن أسلوب الكتابة قد كسر هذه المفاهيم واخترق حدودها الساكنة، ليضعنا أمام فلسفة مغايرة تموج بالواقعية الصادمة، وتمتلك مقدرة الجدل والتساؤلات، وتبعث الوعي الكاشف عن بشاعة الحقيقة، واستلاب الإنسان في زمن القهر والتسلط والغياب. خصوصية فنان جاء منظور رؤية الإخراج ليكشف عن خصوصية لغة الفنان عبدالهادي شرح البال الذي انطلق إلي ثورة جمالية صاخبة، تعلن العصيان عن الردة، تدين انتهاكات السلطة والحكام، تبحث عن المعني والهدف، تكرس لمواجهة الزيف والعذاب وتتجه إلي المستقبل لتحتفل بوجود الإنسان، وفي هذا الإطار لم تكن الوجوه التي رأيناها هي وجوه تقليدية معتادة، فقد أعلن المخرج رؤاه الرافضة لهيمنة ايديولوجيا الاستلاب، وفتح مسارات للوعي والتفاعل وكسر التابوهات ليواجهنا بتجربته التي تعددت فيها الصور واللقطات والأفكار، حين تراكمت بأسلوب جدلي في فضاء رحب، شهد أداء تمثيليا مختلفا جاء مبتعدا عن مفاهيم الايهام والتوحد، وعن لمحات الجدية وايقاعات الحس المأساوي، واتجه إلي الرؤي الضدية النقيضة المشحونة بلغة المفارقة الساخنة والسخرية المتهكمة والجروتسك الشرس. تدور الأحداث في إطار عبثي وجودي غائم، الفراغ يسيطر علي خشبة المسرح، والأحاسيس الضبابية الغائمة تعانق عذابات الإنسان أمام فراغ الكون الهائل، وتظل الخلفية البيضاء القصيرة تشاغب نظيرتها السوداء في العمق، ليشتبكا مع الأحلام المراوغة، التي تسكن أعماق بطل العرض، الشاب الباحث عن الحياة في وجود مختنق، يحيلنا ببساطة إلي الانفاس المتوهجة في مصر وتونس وليبيا، في الأردن والعراق وسوريا، في الوطن العربي كله، بل وفي كل أوطان الدنيا التي تجاوزت أحلام الإنسان ومفاهيم الحرية، وفي هذا السياق نصبح أمام تشكيل جمالي افتراضي مشحون بالوعي والحركة والانطلاق، ويظل همس الأشباح وجنونها هو صورة لوجود كابوسي غابت فيه الحدود الفاصلة بين الواقع والأوهام. تتضافر موجات الموسيقي الساحرة مع خطوط الحركة ولغة الأجساد الصامتة، وتتفجر موجات العذاب عبر مفارقة الموت والحياة، حين يصبح الوجود عدما والإنسان وهما، الملابس البيضاء الطويلة تروي عن الأحزان والأكفان وتعلم العصيان في وجه الحياة، والماسكات الشائهة المخيفة تواجهنا ببرودة القسوة ووحشية المعني وانتفاء الدلالات، وتبقي ايقاعات الصخب المجنون التي تبعثها لغة الأجساد الساكنة علي اليمين واليسار، باعثة لتيارات أحزان الإنسان، الذي افتقد الحب والدفء وتواصل العلاقات. كيان ناري تحول بطل العرض الفنان ناصر عبدالحفيظ إلي كيان ناري مسكون بجمرات الحب ووهج البحث عن الحياة، التفاصيل المخيفة تواجهه ببشاعة الحقيقة، والفراغ النفسي يكاد يدفعه إلي هاوية الجنون، تلك الحالة التي يلمسها المتلقي عبر الصياغة الجمالية للشخصية من حيث الأداء والملابس وطبيعة الحركة، والأبعاد السياسية والاجتماعية التي تفتح كتاب القهر والفقر والبطالة لنقرأ عن جرائم اغتيال النبض، وعذابات الخروج من أسر الزيف والقسوة والتردي، وفي هذا السياق كانت خشبة المسرح تموج بالحرارة والتصاعد والحيوية، واستطاعت لغة الإخراج الرشيقة والمفردات التجريبية المدهشة أن تمنحنا شعورا عارما بجدل الحالة المسرحية وصخبها المثير، وذلك رغم غياب الحوارات التقليدية، والارتكاز بشكل أساسي علي المونولوجات، وحين تحدث الفتي عن اغترابه وعذابه أخذته خطوط الحركة اللاهثة إلي الأجساد الواقفة علي اليمين واليسار، يسألها عن الدفء، عن حضن أمه وحنانها، لكنها تباعدت بقوة لتكشف عن بشاعة مستحيلة، تدفع بالشاب إلي أعماق القهر، فالتواصل مستحيل والنداءات تائهة، والعلاقات المبتورة هي المسار إلي دوامات الليل والدخان والغياب، وتظل مفارقة العذاب تتشكل عبر الحركة والضوء والموسيقي، حيث يعود الفتي إلي كياناته المتسلطة يحدثها عن البرد والجوع والطلاء والوجوه، ويأتي ردها البليغ عبر المؤثرات الصوتية المبهرة التي اختلط فيها البرق بالرعد بالمطر، واهتزت أركان الطبيعة أمام الذين استطاعوا البوح بأن الفقر يقتلهم والجوع يعذبهم، هكذا تحول الغضب الثائر إلي استعارة درامية ساخنة دفعت بالصامتين إلي الرقص، الذي تضافر مع الضوء والموسيقي والحركة المتدفقة، وظل الفتي وحيدا، يجلس أمامنا في مقدمة المسرح، يعانق وجوها تطارده علي الحوائط، يدخن بشراهة، ويسعل بجنون، لكن أحلامه لاتزال تمنحه سحر التواصل مع الحياة. همس الجنون كان النص الموسيقي الأخاذ مسكونا بهمس الجنون ومس الشياطين، ومؤامرات الأوغاد، وعذابات الجوعي والفقراء، وعبر هذه الايقاعات الدالة يندفع الصامتون لتختفي وجوههم واقنعتهم خلف الستارة القصيرة البيضاء، بينما تظل أجسامهم واضحة يراها المتلقي، ويتفاعل مع موجات الدلالات التي يبعثها الصمت والبلادة والسكون، وعبر تقاطع الوعي والأعماق مع الحقيقة والخيال، يندفع الفتي إلي الغناء، وتتجه لغة الإخراج إلي الجروتسك والنقد اللاذع وتقنيات كسر الايهام، الأغنية الشرقية الجميلة تأتي كعلامة ميتاثياترية، والتشكيل الجمالي المدهش، يؤكد وعي المخرج بطبيعة المسرح كفن وفكر وابهار، وعبر استغراق الفتي في كلمات الحب الناعمة ترتفع موجات الوهج وتتحول الأجساد الصامتة إلي كورس شديد الاحتراف يغني نفس الكلمات، ونعايش بريق الأحلام المثيرة، حين فكر الشاب الموهوب في احتراف الغناء ليعبر عن ذاته ويقاوم عذابات الحضيض، وتأخذنا رشاقة الكتابة والحركة وسرعة التقطيع وحرارة الايقاع، تأخذنا إلي الصدمة القاسية، عندما انهارت الأحلام وامتدت الانكسارات، وطلبوا من الشاب أن يغني في الجردل، لأن الواقع الحالي لا يعترف إلا بالأصوات الشاذة والكلمات الرخيصة، والأجساد المبتذلة والغناء الهابط، بعد أن أعلن أحكاما بإعدام الموهبة وسقوط القيم والجمال واتخذ قراراً بموت الإنسان والشعر والأحلام. تمتد موجات الحالة المسرحية إلي قلب الواقع لتطرح طبيعة العلاقة بين السلطة والشعب، الصياغة الجمالية تواجهنا بشراسة السادية وجرائم الاغتيال والموت، واللقاء بين الشاب والباشا المفترض كان قطعة من جحيم القهر، حيث التحرش والانتهاك والاغتصاب والعذاب، تلك الرؤي التي جاءت شديدة التكثيف والبلاغة، عبر أداء جسدي وحركي وصوتي متميز، تحولت فيه أجسام الصامتين خلف الستار الأبيض إلي رمز وحشي للسلطة، وكان غياب الضابط أكثر عنفا من حضوره، بينما اتخذت الهمهمات الصوتية المتصاعدة أبعادا درامية وجمالية شديدة العمق والدلالة، وفي هذا السياق جاء أداء بطل العرض واندفاعاته وانفعالاته وردود أفعاله، جاءت لتكشف عن موهبهة خصبة وادراك حاد لطبيعة الشخصية والحالة المسرحية. اشتباك مركب يأخذنا الضوء إلي اشتباك مركب مع الزمن والمعني وعذابات أعماق الفتي، نري الصامتين في الخلفية وأيديهم متشابكة، أصواتهم تردد تكبيرات العيد، والصيغة تنتمي إلي الفوكاليز، والدلالة تبعث فيضا من النقد والتساؤلات، وحين ينتفض الفتي بالشجن، يشاغبه الحنين إلي أمه وأبيه، إلي الفرح والوهج ودفء الروح، وتأتي كوريوجرافيا الحركة لتتضافر مع لغة الجسد وتيار المشاعر، ونصبح أمام مفارقة التمزق والسقوط، حين ذهب الفتي إلي أمه، وقابلته ببرود وتوتر، نظر طويلا إلي الرجل الجالس في حجرتها، وسألها فأخبرته أنه جارهم، وأن أبيه خرج ليصلي العيد، فيمضي وتموت أمنيات الفرح واليقين، لكن التساؤل المخيف ظل يتردد في الأعماق، عندما قال الابن: «هو مش جارنا عنده لحمة في بيته»؟ لازم يعني يأكل لحمة أبويا؟ في اشتباك مثير ومباشر مع الجمهور ينزل بطل العرض إلي الصالة وهو مشحون بتيارات الغضب والرفض والجموح، الدلالة ترتبط بعذابات ثورة لم تكتمل، وهستيريا التساؤلات تفسر اندفاع الشباب إلي الميادين، وايقاعات الحزن والقلق تبدو علي وجوه الجميع، بعد أحداث مجلس الوزراء وشارع محمد محمود واعتصامات التحرير، حيث الشهادة والموت والدم، والروح الشامخة والعيون الجميلة، والمشاهد الضبابية الغائمة المسكونة بالغاز والقنابل والطلقات، تلك الحالة التي ستظل تسكن الأعماق وتثير أحزان التساؤلات. في هذا الإطار بعث المخرج حالة من الجدل بين تقنيات كسر الايهام، وبين أساليب التوحد مع الشخصية، لنصبح أمام موجات متوترة منحت بطل العرض مجالا ثريا للاشتباك مع الناس، حين توقف أمامهم يحدثهم بحرارة، يطلب نقودا، سيجارة، ساندوتش، هدوم، يسأل من لا يعرفهم عن عدد وجوههم واقنعتهم يدفعهم بقوة ليقفوا ويتركوا الكراسي، ثم يعود إلي الاشتباك الصريح مع أحداث الميدان ليدين السياسة والوزارة والخوف والعذاب والاستبداد. تموج خشبة المسرح بالضوء، ويعود الفتي إلي العزف علي أوتار الحب والحرب والحقد، وحيتان الاقتصاد والسياسة، وعذابات الغلابة من الرعب والفلس والفقر والضياع، وعبر تضافر الحركة والموسيقي تخرج الأجساد الشبحية الصامتة من خلف الستار الأبيض القصير، الماسكات المزودجة من الأمام والخلف تفجر مفارقات الوعي والاكتشاف، وايقاعات الذكر وحركات الزار تأخذ الجميع إلي استعارات الحاضر ومخاوف الردة والغياب، ويظل الفتي يرقص معهم بعنف وهو مصلوب علي جدران الموت والعذاب، يرسم بالحركة والضوء والجسد والمشاعر والانفعالات، يرسم صراعات ميلاد عسير يبحث فيه عن الوجود والحرية. حلم المخرج تقترب النهاية، ويطرح المخرج حلمه الأثير بصعود إرادة الإنسان وامتلاك المعني والذات، تلك الحالة التي تبلورت جماليا عبر صياغة جديدة مغايرة، مسكونة بالدهشة وقوة الايحاء، حيث تتحرك الأجساد الشبحية وهي لاتزال ترتدي الأقنعة، تدفعها خطوط الحركة إلي تكوين فرقة موسيقية، يلعبون علي الكمنجات والوتريات الوهمية، لتخترق الأصوات الجميلة الوعي والقلب والأحلام، بينما نري الفتي الشاب وهو يلعب دور المايسترو ليقود الفرقة ويرسم أبعاد استعارة بليغة تؤمن بالحرية والمستقبل. هكذا تظل ايقاعات الدهشة تكشف عن سحر التجريب والتجديد والابهار، حيث تتغير الملابس البيضاء، ونعايش وهج وحرارة الألوان، لكن الأقنعة علي الوجوه لاتزال تمثل عوائق وإشكاليات، لذلك يندفع الفتي ويرفع كل الماسكات، لتبدو الوجوه الواضحة في مقدمة المسرح، يمسكون بأوراق مكتوب عليها. عفوا.. لم يعد لدينا وجوه! تنتهي التجربة الثائرة، التي شارك فيها فريق عمل شديد التميز، فكان بطل العرض النجم القادم ناصر عبدالحفيظ، كان طاقة من الوهج والثورة والمشاعر، امتلك بريقا وحضورا لافتا، وكان مدركا لمسئولية البطولة الأولي في مساره المسرحي، وقد شاركه مجموعة من الشباب الواعد هم أحمد عبدالعال، أحمد عبدالوهاب، أحمد العراقي، محمد عاشور، مني سالم، نور عبدالحكم وسماح علي. كانت الموسيقي الساحرة للفنان أحمد العراقي، والأشعار لأحمد عبدالوهاب الديكور لأسماء علي.