كثير من نجوم الكوميديا خرجوا من رحم فن المونولوج والإسكتش اشهرهم في مصر الراحل اسماعيل يس وأشهرهم في امريكا إيدي ميرفي. وعلي الرغم من أن محمد هنيدي لم يمارس هذا الفن علي الإطلاق إلا أن إخلاصه لهذا النوع يبدو الأشد في جميع أعماله. لم يكن هنيدي يفعل في أدواره القصيرة في بداياته بالمسرح والسينما أكثر من إلقاء النكت والدخول في حوار ارتجالي مع زملائه يوظف فيه خفة دمه وحضور بديهيته وقدرته العالية علي السخرية وصنع الإفيه. كان بإمكان هذا الفنان الشاب في ذلك الحين أن يصنع الروح ويضفي حالة من الحيوية والبهجة علي أي لقطة سينمائية أو أي مشهد مسرحي يظهر فيه فيكسر حالة الركود الي تصنعها النصوص الضعيفة محدودة الأحداث أو الإخراج الرديء بإيقاعه الفاتر وخياله المحدد. ومن الصفوف الخلفية وبنفس الأدوات صعد هنيدي إلي عرش النجومية في مفاجأة أذهلت الجميع. وبعد نجاحه الساحق في فيلم اسماعيلية رايح جاي كشريك متميز جدا في البطولة إنتقل مباشرة إلي البطولة المطلقة في صعيدي في الجامعة الأمريكية، محققا إيرادات غير مسبوقة في تاريخ السينما وقائدا لأغرب انقلاب سلمي في بورصة النجوم أزاح جيلا بأكمله ليحل محلهم وجوه شابة معظمهم من فناني الكوميديا الذين سارو علي درب قائدهم ولونوا السينما غالبا بلون الكوميديا الفارس علي غراره. ولم تستفق السينما وتعود الي تنوعها الا بعد سنوات طويلة من انفراد وطغيان وسيطرة نجوم الكوميديا. وفي ظل حركة التغيير تراجعت اسهم هنيدي ومن بعده محمد سعد اهم رموزي تلك المرحلة. طغاة بلا نهاية وكأي طغاة لا يستسلمون بسهولة ويسعون دائما لاسترداد عروشهم سعي هنيدي للعودة بقوة وأمكنه بعد فترات قصيرة من الغياب والكمون أن يحقق نجاحات من حين لآخر وأن يسترد عافيته ويتألق من جديد مستغلا موهبته الكبيرة في الاضحاك وقدرته علي تحقيق قدر من التجديد والتطوير في أعماله عبر التعاون مع فنانين متميزين في مجالات الإخراج والتأليف وغيرها من فروع العمل السينمائي .. وهو ما تحقق بشكل واضح علي وجه التحديد مع فيلمه الأسبق رمضان مبروك ابو العلمين. وهو الفيلم الذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا وانتصارا جديدا لكوميديا الفارس او التهريج والمبالغات علي الرغم من أن طبيعة الموضوع كانت أقرب لاتجاه آخر. فقد أوحت بداياته بكوميديا سياسية تتعلق بفساد التعليم والمسئولين وأبنائهم في بلدنا التي أصبحت بلدهم وحدهم. ولكن الموضوع يأخذ منحي في غاية الهزلية ويطيح باللمحات الساخرة من واقعنا السياسي والاجتماعي الرديء عندما يكتشف الأستاذ رمضان أن سبب فساد الأولاد ينحصر فقط في تعلقهم بالمطربة المشهورة نجلاء وجدي فيحاول إبعادهم عنها حتي يسقط في غرامها بعد سلسلة من المواقف المليئة بالتهريج والتي لا تهدف الا لإثارة الضحك علي غرار اللون الغالب لكوميديا هنيدي الذي لم يحد عنه إلا في تجارب نادرة ربما يأتي من أهمها جاءنا البيان التالي وهمام في أمستردام حيث امتزجت الكوميديا ببعض ملامح النقد الاجتماعي والسياسي بمقادير محسوبة ووعي فني. اختفاء سامح المدخل الجاد والموحي بطبيعة مختلفة يتكرر من مبروك ابو العلمين الي فيلمهما السابق وائل احسان مع فيلم امير البحار الذي كان فرصة رائعة لمشروع كبير عن فكرة رائعة وبالغة الدلالة عن اختطاف البحارة المصريين من قراصنة هواة مرتزقة يثيرون الشفقة اكثر مما يثيرون الخوف ويستحقون العطف اكثر من الكراهية ولكنهم في الحقيقة كانوا يثيرون عطفنا وشفقتنا اكثرعلي انفسنا وبلدنا التي هانت علي حكامنا. يعود مجددا هنيدي في فيلمه الجديد تيتا رهيبة مع نفس المؤلف يوسف معاطي وإن كان المخرج هنا هو سامح عبد العزيز في أول تعاون مع الثنائي وبديلا عن وائل احسان الذي شاركهما الفيلمان السابقان. ولكنك لن تجد بكل اسف اي وجود لسامح عبد العزيز الذي رأيناه يتألق في كباريه ثم الفرح لأنه يتحول هنا إلي منفذ مخلص لرؤية النجم التي صاغها المؤلف بنفس أسلوب الفيلم السابق. في بداية تيتا رهيبة نعتقد اننا سوف نتابع عملا من الترجيكوميك او مزيجا بين الكوميديا والتراجيدية تفرضه الطبيعة السيكولوجية للموضوع عن شاب معقد ربته جدته بأسلوب صارم وحازم وتحكمت فيه وفي حياته الخاصة وأنشأته علي مفاهيم وعادات وتقاليد عتيقة مما كاد يؤدي إلي إضراب الشاب عن الزواج. وتتوالي محاولاته في الإفلات من سيطرة الجدة وتحكماتها ولكنها تبوء بالفشل. ولكن هذا الشاب يجد فرصته في استرداد حريته والزواج بالفتاة التي يحبها - ايمي سمير غانم- حين تسافر الجدة لألمانيا. ولكنه يصطدم بطاغية جديد وهو شقيق الفتاة البلطجي- باسم السمرة- هذه هي فقط الخطوط التي يمكن أن تلتقطها أو تسردها في قصة طغت عليها العشوائية وتجمدت احداثها في كل مشهد ومرحلة درامية لتطلق العنان لهنيدي لإطلاق إفيهاته التي كان يضحك عليها اطفال وصبية العيد متواصلين كجيل سبقهم مع هذا الفنان القادر علي صنع الافيه بجدة وطرافة ومعتمدا علي موهبته وحضوره وحدهما بعد أن عجز نص يوسف معاطي عن رسم اي مواقف كوميدية أو صياغة حوار يصنع حالة من السخونة والتصاعد وهي المهام التي تكفلت بها مونولوجات هنيدي وصولاته وجولاته وحركته الدائبة القادرة علي إضفاء حيالة وروح علي أي كادر ساكن . النجم الأوحد في فيلم تيتا رهيبة لم يزاحم هنيدي في الكوميديا أي نجم ولم يجرؤ أي أحد أن يكشف عن وجوده ولو للحظة في حضرة الأستاذ البطل. وفي هذا السياق لا فرق بين باسم السمرة وايمي سمير غانم فكلاهما في حالة من النمطية والاداء الروتيني بل إن إيمي خسرت كثيرا بمبالغتها في مشهد الولادة بلا أي داع ولا ضرورة. وربما لم يفلت من هذه المذبحة سوي الوجه الصاعد الواعد محمد فراج الذي يستطيع ان يصنع لنفسه وجودا مهما تقلصت المساحات او ضعفت الفرص. فهو ممثل من طراز فريد يشكل الشخصية بدأب وبحرص علي منحها ملامح بارزة وواضحة عبر تفاصيل صغيرة وبسيطة. الغريب أن الفيلم يسخر من طغيان الجدة مع أنه في شكله وأسلوب بنائه وتنفيذه يتيح لبطله أن يلجأ إلي أساليب الطغاة.. الجديد في الأمر هو الأسلوب العصري الشيك للطغاة الذي يعتمده اهل السياسة والفن منهم فالمظهر الديمقراطي بل والاشتراكي مهم جدا. فأفيش الفيلم يزدحم بصور مجموعة من الممثلين يحيطون بهنيدي الذي لا تكاد تلمحه من بينهم. وتتبدي العناصر الشكلية أيضا في اللوك الذي يظهر به هنيدي الذي يبدو غريبا وإن كان معبرا جدا عن صورة لشاب معقد. ولكن هذا المظهر الشكلي في الاشتراك في بطولة الفيلم لن تجد له أي أثر علي الشاشة فهنيدي هو وحده صاحب الوجه الذي سيطالعك من أول لقطة لآخر لقطة..أما اللوك الخارجي للشخصية فلا ينعكس ابدا علي مظهرها او سلوكها او طريقتها في الالقاء او التفكير او التعامل مع الآخرين. وفي سياق الاهتمام بالشكل سوف تجد أن الصورة في الفيلم من افضل عناصره وخاصة في مشاهد الليل التي تمت السيطرة فيها علي الأضواء والظلال بدرجة احترافية عالية. وبصرف النظر عن غياب الدراما التي تصنع للصورة قيمتها ودلالتها وتمنحها الفرصة للكشف عن مناطق تعبيرية أو تأثيرية في المواقف والشخصيات إلا أن الصورة ومن منظور جمالي وتقني بحت تبدو في أفضل حالاتها. ويتضافر مع الصورة عنصر المونتاج الذي يبررها ويظهر جمالياتها عبر انتقالات بارعة لا أعرف كيف أمكن تحقيقها رغم ترهل الدراما وثرثرة الحوار ولكني أعود لأتذكر أن سامح عبد العزيز في الأصل مونتير. الهزلية لن تغيب يعتقد البعض أن إثارة الضحك هو غاية المراد في الفيلم الكوميدي . . ويعتقد آخرون أنه مادام الضحك بلا ابتذال، فالفيلم أصبح بذلك ينتمي للكوميديا الراقية . وأنا لا أنكر أن كل هذه الأمور مهمة في هذا النوع من الفن، لكن قبل كل هذا لا بد أن يكون هناك فن أصلا وأن تكون هناك دراما أساسا. أي ببساطة لابد أن يكون هناك بناء متسق وكيان له ملامح ومعني وصراع محدد واضح، بالإضافة إلي تفاصيل تخدم المضمون والشكل العام، وإلا أصبح الفيلم مجرد شريط معبأ بالنكت . استسلم المؤلف تماما لشروط النجم وواصل خضوعه لأسلوبية الممثل التي تعتمد علي قدرة هنيدي البارعة علي مسخرة كل شيء والتي لا تعبأ بدراما الموضوع بأي قدر. فكوميديا تيتا رهيبة هي كوميديا من المفترض أن تكون اجتماعية بالدرجة الأولي لأنها تتناول العلاقات داخل أسرة وتركز بشكل محدد علي علاقة حفيد بجدته. وهي في بعد آخر لا يقل أهمية من المفترض أن تكون ذات جانب نفسي نتيجة للحالة المرضية التي أدت إليها علاقة القهر بين الجدة والحفيد . لكن من الواضح أن هنيدي أرادها هزلية خالصة كعادته. وهي الآفة التي سيطرت علي الفيلم المصري لسنوات طوال بعد نجاح فيلم (إسماعيلية رايح جاي) وهو إحدي علامات هنيدي التي لا تنمحي. وهو الذي حدد الدرب الوحيد الذي يفضله هنيدي سبيلا للنجاح. وكأنه لا يدرك أن هناك واقعا متغيرا وجمهورا يتغير وفنا في حاجة حقيقية للتغيير. ولكن هذا التغيير لا يمكن أن يتحقق علي أيدي طغاة الفن الذين اعتادوا علي أن تخضع السينما لهم بكل آلاتها وأدواتها وعتادها ورجالها وكأنها خلقت فقط لإبقائهم علي عرش نجوميتهم التي في سبيلها يسقط كل شيء. في اعتقادي ان هنيدي وغيره من النجوم في حاجة حقيقية للتخلي عن ديكتاتوريتهم وطغيانهم علي الشاشة تماما كما يطغي اهل السياسة علي الساحة. وعلي الرغم من أن هنيدي أضحكني وأضحك جمهوره وحقق أعلي الإيرادات في العيد بجدارة إلا أني أعود واقولها في المقال الثاني علي التوالي " يسقط يسقط حكم النجوم علي السينما المصرية".