في مقدمته الكاملة المتكاملة للطبعة الخامسة لترجمته لكتاب العودة إلي الإيمان للدكتور (هنري لنك) الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب يقول د. ثروت عكاشة إنه وقع حال شروعه في ترجمة هذا العمل بين منطقتين غاية في الجذب والروعة وربما يصور حالته الأولي قول نيتشه:إن الفن العظيم هو التوفيق بين الإلهين الإغريقيين ( أبوللو) إله التصميم والإحكام ومُلْهم المعمار والشِّعر و( ديونيسوس) إله النشوة والرقص والخمر والصخب.إن الفن والإبداع حسبما يري د.عكاشة توفيق بين التصميم والإلهام وبين العقل والجسد وىُوردُ د.عكاشة مقولة صلاح عبد الصبور:إن العقل يجب أن ىَسْبق الإلهام غير أن ساعة الإلهام نفسها مقدسة..تلقائية..عفوية زاخرة بالبهجة والعذاب معاً. من الشك إلي الإيمان كما ىُقدم د.عكاشة في مقدمته وصْفة فنية بديعة لىُعَرِّفَ القارئ أن المُترْجِمَ ىُعيد خَلْقَ النَّصِّ ويدوّنه بقلبه وينتشي لحظة العمل بالجانب الإلهامي الممنوح من الخالق تبارك وتعالي.كما يؤكد أن الإلهام الذي اعتمد عليه في ترجمته لهذا الكتاب كي يحقق باعثاً إيمانياً أراد تحقيقه وغرسه استلزم منه جهداً وتنظيماً وصياغة وأداءً ونشاطاً إرادياً لازمَ كل ذلك التوفيق والفتح وحسن التيسير من ربه.كذلك يؤكد د.عكاشة أن هذا الكتاب سوف ينقل القارئ من حالة الشك والارتياب إلي حالة الإيمان والتسليم واليقين مثلما يشهد بأن هذا الكتاب يستحق أن يقرأ بحق. ولا ينسي د.عكاشة أنْ يؤكد كذلك أنه لا وسيلة لتحقيق سعادتنا وتوازن وجودنا إلا بالعودة إلي إيماننا القديم..هذا بلا شائبة من شك أو هزة من قلق أو نزعة من جموح. حينئذٍ نستطيع أنْ نواجه الحياة مستمتعين بما تنطوي عليه من حق وفضيلة وجمال. حينئذٍ أيضاً نستطيع أن نتصل بالمجتمع مستمتعين بما يزخر به من روح الجماعة وما تسبغه هذه الروح علي الأفراد من هناء وطمأنينة واستقرار. ويقتبس د. عكاشة قول ابن عطاء السكندري أحد متصوفي القرن الثامن الهجري:إذا فتح لك الله وجهة من التعرف إليه فلا تبال معه إن قَلَّ عملك .. فإنه ما فتحه لك إلا وهو يريد أن يتعرف عليك .. أو لمْ تعلم أنَّ التعرف هو مُوْرده عليك وأن الأعمال أنت مُهديها إليه ؟ وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ العلوم الطبيعية ثم يرجع د. عكاشه لحظات القلق وهزة الشك التي تنتاب الإنسان إلي أثر العلوم الطبيعية وطغيانها الجارف الذي أحدث في بعض النفوس تصدعاً وانشقاقاً وربما أحدثتْ هذه العلوم أيضاً انهياراً في آلية التصديق والتيقن وعليه انطلقت النفوس لتُجابه نفسها بسؤالٍ غاية في التطرف وسوء التجاوز عندما نتساءل عن ماهية هذه الأديان التي يعتنقها الناس ويؤمنون بها ويقفون عند حدودها وأوامرها ونواهيها.ثم يأتي تساؤل البعض عن حقيقة الله وما هي وماذا تكون وتلك للأسف والرأي لد.عكاشة حالة من الإسراف والتخبط وفساد الاعتقاد. في ظل كل ما حدث تعرَّض الدين والإيمان بالله لموجة عاتية من الشك والارتياب.غير أننا سنجد في كتاب هنري لنك هذا الدليل المادي الماثل لأثر الدين في الحياة وما يقدمه من معطيات تطورتْ بها حياة البشر. د.هنري لنك أما عن مؤلف الكتاب فيقول المترجم:إنه أحد فرسان ميدان علم النفس التجريبي وكان لتجاربه في هذا الميدان أثر كبير في عودة الناس لحظيرة الإيمان.يروي هذه التجارب التي شاء الرجل أن يحكيها فجاءت في صورة لدغات النحل الشافية..حيث لاقي الكتاب نجاحاً منقطع النظير في أوروبا وأمريكا وقد قُدّر عدد قرائه بالملايين وتجاوزت عدد طبعاته السبع وأربعين طبعة كان أولها في العام 1936 وآخرها في العام 2007 بأمريكا. في هذا الكتاب يروي هنري لنك قصة انحرافه هو عن الدين وعن الإيمان به وكيف أنه أخذ يلمس بنفسه تأثير الدين في نفسية مرضاه..وكيف كان للإيمان فعل السحر في علاجهم عندما كانت تُخفق ألوان العلاج الأخري..فكان لا يجد وسيلة يعالج بها آلاف الحالات التي عُرضتْ له إلا أن يعيد إليها توازنها الاجتماعي بالدين والإيمان والنشاط الاجتماعي في مختلف الميادين. لكن رحلة الطبيب النفساني من شكه في المعطيات الدينية والإيمانية لم تكن لتؤتي ثمارها الإيجابية وهي الإيمان المطلق بأثر الدين لولا التجارب العلمية التي مارسها في عيادته علي المرضي.لقد انبري هنري لنك يصف لمرضاه الدواء الناجع في اتباع الدين والتمسك بالقيم والتقاليد الإيجابية النافعة حيث وجد أنه لا مناص للإنسان من أن يستظل براية الإيمان..تلك الراية التي تفرد هالة من الراحة والاطمئنان والسكينة والهدوء النفسي الأدني ناصحاً إياهم بإيمان حقيقي.وبوجهة نظر أكاديمية يعرض د.هنري لنك في هذا الكتاب وسائل التربية وأثرها في تكوين شخصية الإنسان المنضبطة وكيف يمكن أن يتوفر التوازن العاطفي والفكري والديني والاجتماعي والفني في كل شخصية وذلك من أجل أن تتوافر عوامل النجاح وتتيسر سُبل السعادة وصولاً إلي وجود يخدم صِلاتها بالمجتمع الإنساني الذي نعيش فيه. كما يصف د.عكاشة هذا الكتاب بأنه نقطة تحول واضحة في نظرة هذا الجيل إلي الإيمان حيث يرجع له الفضل في توضيح ما للإيمان من أثر في حياة الأفراد والجماعات والأمم والجماعة الإنسانية.كما يري أن الإيمان هو الحل الحاسم والسريع لكل مشكلات المجتمع وذلك عندما يشيع في المجتمع وبين الأفراد. ثم يختتم د.عكاشة مقدمته هذه بما ورد في سفر أرميا..الإصحاح السادس:قفوا علي الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة..أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه تجدوا راحة لنفوسكم. أثر علم النفس أما هنري لنك فىُرجع إملاء هذا الكتاب أي تأليفه إلي نتيجة الإيمان بأثر علم النفس في معالجة القضايا المجتمعية والشخصية الحادثة إضافة إلي الأثر الإيحائي الذي أحدثه هذا العلم فيه هو ودوره في رجعته إلي الإيمان التي لم تكن لأسباب وقعت له اضطرته عندها إلي العودة إلي دنيا الإيمان والتفويض.إنه يؤكد أن عودته إلي الإيمان لم تكن وليدة الضائقة المالية التي اكتسحت العالم وقتاً ما..ولا هي نتيجة لتقدمه في السن فهو في الخامسة والأربعين آنذاك موفور الصحة قوي البنية قادر علي الانحناء عشر مرات متواليات وسباحة ميل كامل والتهام كل ما يشتهي من طعام دون خشية أية عواقب. لا يرجع عودته إلي الإيمان إلي تدهور صحته ولا إلي ما قاسي من آلام ولم تأتِ في أعقاب كارثة من كوارث الحياة ومشاكلها بل بالعكس جاءت بعد أن قضي ستة عشر عاماً وهو ينعم بحياة زوجية هانئة ويحرز من النجاح أكثر مما كان يصبو إليه ويربو إيراده علي حاجته ومطالب أسرته. التناقض لقد أتاه الهُدي وئيداً حتي أنه لم يتبينه في نفسه خلال مراحله الأولي وما كان مرجع هذا التغيير إلا تلك التجارب المتواصلة التي صادفته أثناء ممارساته لمهنته كطبيب نفساني.ويستطرد د.هنري لنك قائلاً :كما كنتُ قديما مؤمناً بدور العلوم الطبيعية وأهميتها في الحياة ورفع قدرها علي كل شيء ومن ثَمَّ رفض المعطيات الدينية علي إطلاقها وجدتني الآن أبدأ من العلم أيضاً في رحلتي إلي التصديق والإيمان المطلق بدور الدين وتعاليمه في الحياة فكما جرفني العلم قديماً بعيداً عن الدين كانت عودتي إليه أيضاً عن طريقه وهنا كان التناقض. وفي موضع آخر يقول:اتضح لي سذاجة موقفي وسوء ظني وتفاهة رأيي عندما رأيت الناس يقصدونني وهم يظنون أني الإله الذي يوفر لهم سُبل السعادة ويقيم لهم صرح الهناء..والحق أن ذلك هو الشعور الحقيقي الذي يدور بخلد كل رجال علم النفس والدين والأطباء عندما يجدون الناس مقبلين علي التردد عليهم راغبين في حل المشكلات ودنيا التصافي فإذا بالغرور يغشاهم ويظن البعض منهم أنهم حقاً آلهة. ما الدين ومن الله؟ ثم يتساءل د.هنري لنك ما الدين ويجيب :الدين هو الإيمان بوجود قوة ما كمصدر للحياة ..هذه القوة هي قوة الله مدبر الكون وخالق السماوات وهو الاقتناع بالدستور الخلقي الإلهي الذي سنَّه الله في كتبه المتعاقبة. الدين ليس ملجأ للضعفاء ..الدين سلاح الأقوياء ..الدين وسيلة الحياة الباسلة التي تنهض بالإنسان ليصير سيد بيئته المسيطر عليها لا فريستها وعبدها الخانع.وفي موضع آخر يقول:لقد قيل إن الدين ملجأ العقول الضعيفة لكن الضعف يكمن في عجز قلوبنا عن إدراك ضعفها وعن كُنْه هذا الدين لأننا بَعْدُ لم نعش الدين واقعاً حياتياً ملموساً ولم نعتمل بما يأمر به. أما عن سؤاله من الله القادر الفاعل الواجد لكل شيء فيجيب قائلاً:الله كلمة مدلولها قوة وأساسها يقين وظاهر فعلها خارق وباطنها مجهول هي قوة منتجة لكن إنتاجها أعلي وأسمي وأكثر من مجموع إنتاج مجموعة القوي الحسية الدنيوية المركبة بفعل العقل واليد البشرية.الله تعني طلاقة القدرة.ويكمل هذه الفكرة فيقول:إن الإيمان بقدرة العقل لهو شيء ضروري ومهم لكن شريطة أن يقف هذا العقل عند حدود قدراته حتي ولو تباينت هذه القدرات من عقل لآخر..لكن معيار التحكم هو أن يقف هذا العقل عند مستوي عطائه الخلقي.إننا إذا نَصَّبْنا من العقل إلهاً نعبده وندين به نكون قد انحرفنا عن طريق الله السوي ولا عجب فقد بتنا عبيداً للسببية..تُخدّرنا الحقائق العلمية أحياناً وتسخر منا القيم الدينية دائماً وصدق ألدوس هكسلي حين قال:لا شك أنكم بالغو الحقيقة يوماً..لكن الحقيقة ستجعل منكم يوماً مجانين. طريق السعادة كذلك يري د.هنري لنك أن الاعتقاد بأن مجرد التردد علي بيوت الله هو الحل العملي لمشكلات الحياة وبه يستكمل المرء كأس سعادته قد أصبح بإجماع الآراء فكرة بالية وعتيقة ويرجع ذلك إلي سببين ..أولهما :أن العبادات التي يؤديها المرء ما هي إلا وجه واحد من فرائض الدين المتعددة ..أما ثانيهما فيكمن في الاتجاه الذي أصبح سائداً الآن في دوائر علم النفس الحديث الذي يؤكد أنه ليس هناك طريق للسعادة غير العمل والكد والنشاط.