الثقافة.. كلمة تتردد كثيرا علي ألسنة المفكرين والمستنيرين وأصحاب الرؤي المستقبلية.. ولكنها لا تعني شيئا عند المهمشين والعاطلين والجائعين.. فالنخبة المثقفة تنظر إليها علي أنها أحد مقومات التقدم, في حين يري البعض أنها ترف لا مجال له في الدول النامية التي يعاني معظم سكانها من الفقر والقهر.. مفكرنا الكبير الراحل د. ثروت عكاشة كان يدرك جيدا ما يدور في الأذهان تجاه الثقافة.. لذلك طرح في كتابه السياسة الثقافية هذا السؤال: هل ننتظر حتي يتحقق التطور ثم نقدم خدمات الثقافة للناس؟.. وأجاب عن سؤاله قائلا: إن الانتظار ليس حلا.. وليس عدلا كذلك,, فتأكد حق الجماهير في الثقافة يصحح مفهومها الخاطئ بأنها ترف مقصور علي أصحاب الحياة العريضة.. كما يخرجها من نطاق الصفوة الي رحاب الشعب باعتبارها كيانا له مقوماته التي تميزه عن التعليم من ناحية, وعن الإعلام من ناحية أخري.. فليس حق الجماهير مقصورا علي مجرد تلقي الفنون والآداب والتأهيل لتذوقها بل من حق الجماهير أيضا النزوع الي إبداعها. مفكرنا الكبير الراحل د. ثروت عكاشة كانت لديه اجابات عن أسئلة قد تطرح هذه الأيام.. ففي ظل الظروف الصعبة الحالية.. وضياع الأمن.. وتدهور الحالة الاقتصادية.. سيسمع كل من يتكلم عن الثقافة عبارة: ثقافة إيه اللي انت جاي تتكلم عليها أو عبارة: هل هذا وقته.. وهي نفس العبارة التي قيلت عام1969 أيام حرب الاستنزاف.. كاتبنا يقول في كتابه: علينا أن نؤمن بأننا بدون الثقافة سنفقد الروح العالية التي تحرك النفوس نحو الكرامة والاعتزاز بقيمة الإنسان الحر. إيمانه العميق بدور الثقافة في بناء شخصية الإنسان وفي رقي الأمم جعله يقول: لعل أغنية ما قد يكون لها من السحر ما تستطيع به أن تهز المجتمع.. ولعل لوحة واحدة يرسمها فنان تدخل سجل الخلود حين تضيف الي الذوق العام عنصرا رائدا في الشعور بالجمال.. ولهذه الأسباب لا عجب أن نري بعض الدول تتجه الي المدرسة لإرساء قواعد الثقافة وتعمل علي إدخال الفنون في مناهج التعليم الإجباري.. كذلك لا عجب اذا وجدنا اتجاها للإفادة من أجهزة الإعلام في توصيل برامج الثقافة الي الناس. نترك كتاب السياسة الثقافية.. ونتناول الطبعة الخامسة من كتابه إعصار من الشرق.. جنكيز خان والذي أهداه الي الأديب رجاء النقاش.. اذا راودك عزيزي القارئ كما راودني سؤال عن سبب اختيار د. عكاشة لجنكيز خان ليكتب عنه, في حين تمتلئ كتب التاريخ بسير عظماء انقذوا أوطانهم في لحظات حالكة السواد وفتحوا بوابات الحرية والعدل أمام شعوبهم.. ستجد الإجابة عن سؤالك في مقدمة الكتاب التي أطلق عليها عنوان كلمة أولي.. إذ يقول د. عكاشة: قرأت تاريخ المغول فهالني هذا التاريخ ولاسيما تاريخ المؤسس الأول لدولتهم جنكيز خان, رأيت فيه صورة من القسوة العارمة التي لا تأبه للشدائد.. والعنف الصاخب الذي يستهين بالمصاعب.. والإقدام الجريء الذي يشق طريقه وسط العقبات.. رأيت هذا كله فأعجبت به.. لم تعنني صورته التي وقع عليها.. وانما عنتني الصورة التي حفزت إليه. كان د. عكاشة يريد أن يبين للأمة العربية ضرورة الاتجاه صوب وحدة شاملة لتقوي من شأنها وتجعلها صامدة أمام الزحف الصهيوني الذي ظهر في الأفق وكاد أن يفعل بها ما فعله جنكيز خان.. ولن ينفعها أمام هذا العدوان الغاشم غير أن تكون علي قلب رجل واحد.. حكومات وشعوب.. فالتاريخ يقول لنا إن قبائل المغول الهمجية المتخلفة التي امتلكت الجرأة والاقدام استطاعت أن تصرع بفضل وحدتها شعوبا ذوات حضارات قديمة تعاني من الانقسام الذي جرهم إليه الترف الضال.. والشهوات العابثة.. والخلاف القاتل.. والنفاق البغيض.. هكذا يبين لنا د. عكاشة أن الأمراض التي عانت منها الحضارات القديمة وأدت الي انهيارها.. هي نفسها الأمراض التي تعاني منها الأمة العربية الآن.. فأراد كما ذكر في كتابه أن يدلنا علي مواطن الضعف حين نختلف ونتفرق.. وبواعث القوة حين نتحد ونتجمع. وأنت تطوي صفحات هذا الكتاب.. ستجد دون وعي منك أن هناك اسم قد قفز الي ذهنك بعد أن تفرغ من قراءة الفقرة الأخيرة فيه والتي يقول فيها د. عكاشة: هنا تفترق سيرة عن سيرة.. ويختلف الحكم علي الأشخاص في صفحات التاريخ.. فأما الذين يعجزون عن مقاومة أهوائهم فإن مكانهم في هذه الصفحات هو مكان جنكيز خان.. وأما الذين يقدرون علي مكافحة أهوائهم فهؤلاء هم عمد التقدم الحضاري الإنساني في تاريخ البشر. القوة الوحيدة ننتقل الي كتاب آخر من مجموعة الكتب الكثيرة التي ترجمها د. عكاشة وعنوانه العودة الي الإيمان للدكتور هنري لنك.. وهو واحد من رجال علم النفس التجريبي المعروفين في أمريكا.. وفي الوقت الذي عكف فيه د. عكاشة علي ترجمة هذا الكتاب كانت طبعته الثامنة والأربعون تصدر في الولاياتالمتحدةالأمريكية.. يقول المؤلف إن الدين هو القوة الوحيدة التي يمكنها أن تعين الإنسان علي حل مشكلاته.. ولن تجد في هذا العالم المضطرب الذي لا نمضي فيه فترة حتي يثور الناس علي السلطة القائمة محاولين تغييرها, غير الله وحده هو الحي الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل. ضم الكتاب معلومات ستكتشف من خلالها عزيزي القارئ أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان.. لا فرق بين انسان يقيم في دولة متقدمة وانسان يعيش في دولة متخلفة.. ففي دراسة عن أزمة البطالة قام بها فريق مكون من خمسين عالما من علماء النفس أجريت علي أفراد من الشعب في خمسين مدينة من مدن الولاياتالمتحدةالأمريكية, تم طرح السؤال التالي: أيهم تعتقد يكون المسئول عن إنهاء أزمة البطالة.. هل هي بلدية مدينتك.. أم حكومة الولاية.. أم حكومة الولاياتالمتحدة كلها؟.. وحين ظهرت نتائج الدراسة تبين أن أغلبية المشاركين قالوا إن القضاء علي البطالة واجب ومسئولية حكومة الولاياتالأمريكية كلها. ويري المؤلف أن الاعتقاد بفكرة قيام الغير بتحسين حالنا لا يعني إلا شيئا واحدا هو انعدام ثقة الأفراد بأنفسهم وافتقارهم الي الشعور بواجباتهم والتزاماتهم.. فتري الكل وهو يأمل أن يلقي المسئولية علي عاتق غيره.. فالناس يفضلون الطريق السهل المعبد ليسلكوه فتراهم يفرون أمام حقائق الحياة ويحاولون جهدهم الابتعاد عن كل ما يتعبهم أو يؤلمهم. في الكتاب دراسة أخري أجريت علي ألفين وخمسمائة من البنين والبنات في سن الرابعة عشر في مدارس نيويورك الإعدادية.. حيث قام فريق الباحثين بإجراء اختبارات نفسية علي هؤلاء التلاميذ ثم مضوا يتابعون مشكلاتهم داخل المدرسة وخارجها طيلة عشر سنوات.. اتضح بعدها أن نظام التعليم لا يفرق بين أشد التلاميذ غباء وأشدهم ذكاء.. وأنه لا علاقة بين قدرات هؤلاء التلاميذ وبين نوع التعليم الذي يتلقونه أو مقداره.. كما اتضح أن مثل هذا النوع من التعليم يولد عادات الخمول ولا يشجع علي التفوق والابتكار. تماثيل الحرية نغلق هذا الكتاب ونفتح كتاب دعوة البطولة.. المقاومة الشعبية.. أجمل ما فيه المقدمة التي تشع بولاء عظيم للوطن.. فنحن أمام عاشق لمصر متيم بحبها.. يقول د. عكاشة: يا سماء بلادي.. يتعاقب عليك الليل والنهار.. وأنت تشهدين بعيون نجومك وشموسك.. أن شعبنا الذي أنشأ أقدم الحضارات.. وقف دائما يبني تماثيل الحرية في محاريب التاريخ الإنساني.. ويلقن الحياة.. أن أروع الحياة هي أن يعيش بنو الحياة شجعانا أبطالا أحرارا.. وهم يحملون في أيديهم المشاعل المقدسة.. يقتحمون بها ظلمات القهر والجهل والذل ويمضون علي أضوائها يشيدون مستقبل الإنسان المشرق. وأخيرا عزيزي القارئ.. ألا تذكرك الجملة الأخيرة من كلمات د. عكاشة بمشهد المصريين وهم يقتحمون ظلمات القهر والجهل والذل في ميادين مصر في يناير من العام الماضي من أجل مستقبل أفضل لشعب أنشأ أقدم الحضارات.