منذ أيام ناقش قسم النقد الموسيقي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون رسالة الدكتوراه التي تقدم بها الباحث الفلسطيني ساهر أحمد ياسين خليل حول تأثير الأحداث السياسية في الأغنية الوطنية الفلسطينية من عام 1987 2007 تحت إشراف د. زين نصار الأستاذ بقسم النقد الموسيقي مشرفا أساسيا والدكتورة ياسمين فراج المدرس بقسم النقد الموسيقي مشرفا مساعدا. يقول الباحث في مقدمة رسالته العلمية: إن الأغنية الوطنية الفلسطينية لعبت دورا مهما ومتميزا في مختلف جوانب الحياة الفلسطينية، حيث عبرت بصدق وأمانة عن نبض المجتمع وعن آماله وأفراحه، وكان لها الدور التاريخي في التصدي والمواجهة والتحريض ودفع الجماهير إلي النضال والثورة. الكفاح ولقد جسدت الأغنية الوطنية الفلسطينية صور الكفاح التي مر بها الإنسان الفلسطيني والذي ارتبط بأرضه ارتباطا وثيقا، وأرخت الأحداث السياسية التي مر بها الشعب الفلسطيني بكل تفصيل ودقة، انطلاقا من أن الأغنية الوطنية أصدق مترجم وأفصح معبر عن أحاسيس الأمة وغضبها من أجل حريتها، ومادام توجت الأمم والشعوب انتصاراتها بالأناشيد الوطنية، هذه الأناشيد والأغاني الذي كانت ومازالت سلاحا من أسلحة المعارك الوطنية ضد أعداء الوطن. ويضيف الباحث الفلسطيني ساهر ياسين: مشكلة هذه الدراسة تمثلت في عدم وجود دراسات وأبحاث علمية سابقة تناولت الأحداث السياسية علي الأغنية الوطنية الفلسطينية خلال ثلاث مراحل سياسية مختلفة عاشها الشعب الفلسطيني وهي مرحلة الانتفاضة الأولي «انتفاضة الحجارة» ومرحلة أوسلوالسلطة الوطنية الفلسطينية ومرحلة الانتفاضة الثانية «انتفاضة الأقصي» وتهدف هذه الدراسة إلي: 1 جمع وتحليل عينة من الأغاني الوطنية الفلسطينية التي برزت منذ الانتفاضة الأولي مرورا بمرحلة السلطة الوطنية الفلسطينية «مرحلة أوسلو» وانتهاء بمرحلة الانتفاضة الثانية «انتفاضة الأقصي». 2 التعرف علي الأعمال الشعرية والألحان الموسيقية للشعراء والموسيقيين الفلسطينيين خلال الفترة المحددة سابقا. هذا وقد اتبع الباحث لتحقيق أهداف البحث المنهج الوصفي «تحليل المحتوي» ومن أجل ذلك استعان الباحث بالأدوات البحثية التالية: 1 المدونات الموسيقية. 2 التسجيلات الصوتية الخاصة بعينة البحث. 3 المقابلات الشخصية مع بعض الملحنين والشعراء الفلسطينيين. وذلك من خلال ثلاثة فصول تناول في أولها: تاريخ فلسطين والأحداث السياسية حيث استعرض الباحث الظروف والأحداث التي عاشها الشعب الفلسطيني بدءا من الانتداب البريطاني وما تبعه من ثورات وطنية عديدة، مرورا بأحداث النكبة عام 1948 والتي بموجبها تم تقسيم فلسطين إلي دولتين عربية ويهودية واحتلت إسرائيل مدن عكا وحيفا ويافا وبئر السبع وعسقلان. وما صاحب هذا القرار من تشتت وتشريد وتدمير مدن وارتكاب مجازر بشعة بحق الشعب الفلسطيني، إضافة إلي مرحلة سيطرة الكيان الصهيوني من خلال احتلاله لجميع مدن الضفة الغربية وغزة وهوما عرف باسم «النكسة 1967» وهي فترة تشتت الفلسطينيين وتقسيم البلاد بين الأردن ومصر. وتوالت الأحداث السياسية علي الأرض الفلسطينية بانطلاق الانتفاضة الأولي «انتفاضة الحجارة» عام 1987، حيث تميزت هذه الانتفاضة بالعصيان المدني والمظاهرات الشعبية ضد قوات الاحتلال واستمرت لمدة 4 سنوات، ومع ذلك استمر الاحتلال الصهيوني بالتوسع الاستيطاني واغتيال عدد من القادة مما أدي إلي اندلاع الانتفاضة الثانية «الأقصي» عام 2000 نتيجة تدنيس الإرهابي شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك لباحات المسجد الأقصي، وهذا أدي إلي تأجيج الكفاح المسلح ضد الصهاينة مما دعا قوات الاحتلال إلي ممارسة أبشع أساليب القمع والوحشية ضد المنتفضين فاغتالت الكثير من القادة، ودمرت مقار السلطة الوطنية الفلسطينية وأبادت مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس واستشهد الآلاف من الأبطال المدافعين عن وطنهم وزج بآلاف الفلسطينيين في سجون القمع الصهيونية. التطور المبحث الثاني: تاريخ وتطور الأغنية الوطنية الفلسطينية وتناول الباحث في هذا الفصل تطور الأغنية الوطنية الفلسطينية وفق تواريخ الأحداث السياسية الذي تم تناولها في المبحث الأول، فمثلا في فترة حكم الإنجليز لفلسطين أي من عام 1917 1935 كان هناك دور للأغنية الوطنية في تاريخ الأحداث والثورات التي هبت ضد حكم الإنجليز وامتازت الأغنية الوطنية بتلك الفترة بالطابع الشعبي الذي يعبر عن المشاعر تجاه أحداث معينة والاستفادة من القوالب الغنائية في الذات الشعبي مثل «الدلعونا، جفرا، ظريف الطول، الميجا، الموال والعتابا، القصيد، الطلعة، السامر» ومن رواد الغناء والموسيقي في فلسطين آنذاك نذكر «روحي الخماشي، يحيي اللبابيدي، جورج عرنيطة، نوح إبراهيم، أبوسعود الأسدي» ويأتي الحدث الأكبر في التاريخ الفلسطيني وهونكبة 48، حيث بدأ الفلسطيني يعايش واقعا جديدا ويؤسس لحركة ثقافية جديدة منبثقة عن ذلك، وبدأت المشاعر الحزينة تظهر من خلال الأغاني بعد أن تسيدت مشاعر الغضب والثورة والحماسة علي الكلام في الفترات السابقة. الأغنية الثورية إلي أن جاءت مرحلة ما بعد نكسة 1967 والتي تعتبر مرحلة تبلور للأغنية الوطنية الفلسطينية، حيث بدأت تظهر الأغنية بمفهومها الوطني والسياسي خاصة بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، فأخذت الأغنية تتحرر من اليأس والحزن والإحباط إلي التفاؤل والأمل وظهور السلاح ولهذا طغي المضمون النضالي علي الأغنية وأصبحت تتبني اتجاها ثوريا متمثلا بالأرض والبندقية والإصرار علي التحرير والعودة. ولأهمية هذه المرحلة في الأغنية الوطنية يجب أن نشير إلي الدور البارز الذي لعبه الملحنون والشعراء الفلسطينيون الذين عاشوا في المنفي أمثال حسين نازك، مهدي سردانة، وجيه بدرخان، إبراهيم صالح وغيرهم ومن الشعراء محمد حسيب القاضي، صلاح الدين الحسيني، سعيد المزين وغيرهم أطلق علي هذه الأغاني والأناشيد أغاني الثورة الفلسطينية والذي وجد كاتبوها وملحنوها إذاعة العاصفة «صوت فلسطين» متنفسا لهم في تعبئة الجماهير ودعمهم نفسيا وذهنيا من خلال كلمات صيغت لتكون معبرة عن الطلعة الشجاعة وعن استخدام السلاح كوسيلة لتحرير فلسطين. أما فيما يتعلق بالأغنية الوطنية الفلسطينية في الانتفاضة الأولي عام 1987 فتعتبر مرحلة تطور واضح وصريح للأغنية الوطنية الفلسطينية من حيث الشكل والمضمون، فمن جهة استمرت أغاني المقاومة والأغاني الثورية الذي سبقت مرحلة الانتفاضة ومن جهة أخري ظهرت العديد من الأغاني الوطنية الفلسطينيةالجديدة والتي تهتم بأحداث الانتفاضة اليومية من مظاهرات ولجان شعبية ووحدة وطنية وغيرها، ولذلك اعتبرت قوات الاحتلال الصهيونية الأغاني الوطنية في هذه الفترة بالمواد التحريضية والمشجعة علي فعاليات الانتفاضة واعتقلت الكثير من كاتبيها وملحنيها ومنعت توزيع الكاستات في الأسواق، وداهمت محلات بيعها وأغلقت الإذاعات التي كانت تبث هذه الأغاني، لذلك اعتبرت هذه المرحلة من أكثر المراحل إنتاجا للأغاني الوطنية والأكثر لظهور الفرق الموسيقية والغنائية المتنوعة إضافة إلي بروز العديد من الملحنين والشعراء الذين يعيشون علي الأرض الفلسطينية أمثال: «مصطفي الكرد، سعيد مراد، جميل السايح، وليد عبدالسلام» وتناولت الأغاني الوطنية في هذه المرحلة موضوعات متعددة مثل الأسر والاعتقال والوحدة الوطنية والصمود والتحدي والحجارة. أغنيات أوسلو الأغنية الوطنية الفلسطينية من عام 1991 2000 «مرحلة اتفاقية أوسلو» أصبح المناخ العام مهيئا لحياة ثقافية وفنية وموسيقية أفضل، وهذه الظروف أسهمت بإبراز العديد من النشاطات الموسيقية وتأسيس الكثير من المؤسسات المتخصصة وكذلك بتبني برامج موسيقية كبيرة في العديد من الوزارات الفلسطينية كوزارة الثقافة ووزارة التربية والتعليم، مما كان له الأثر الإيجابي علي الحياة الموسيقية في المجتمع الفلسطيني والمساهمة في دعم المؤسسات والفرق الموسيقية علي اختلاف أنواعها. لكن علي مستوي الأغنية الوطنية الفلسطينية فقد تراجعت وفقدت زخمها المعهود لأن السلطة الوطنية الفلسطينية تعاملت مع الأغنية كجزء من الخطاب التعبوي، الخطاب السياسي والخطاب الثقافي، فاعتقد الموسيقيون والملحنون بعد أوسلووتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية أن إمكانيات السلام ممكنة وحقيقة، وبالتالي يجب أن نشيع ثقافة جديدة للمرحلة وأن نؤسس لمرحلة البناء للدولة الفلسطينية المستقلة ولهذا تم إنتاج بعض الأغاني الوطنية التي تتماشي مع فكرة السلام والأمل والحب والحرية، ومن بين الملحنين الذين ظهروا وتعاملوا مع هذه المرحلة نذكر منهم: «مهدي سردانة، خالد صدوق، جمال النجار» لكن لم تدم هذه المرحلة الضبابية علي الأغنية الوطنية الفلسطينية طويلا إذ جاءت انتفاضة الأقصي عام 2000 حيث شهدت الحركة الفنية بشكل عام والأغنية الوطنية وشعر المقاومة بشكل خاص عودة قوية لتحتل المساحة الأكبر من الإذاعة وأغلب الفضائيات. ضمير الشعب ولأن كلمات الأغنية تتابع الحدث الفلسطين في معارك المواجهة ضد الاحتلال عبرت الأغنية الوطنية عن ضمير الشعب واستفزت وحرضت لمواصلة النضال بكل أشكاله، فأخذ الشاعر والملحن دورهما الريادي في هذه المرحلة لتوثيق أحداثها بكل دقة متناهية وظهرت أعمال غنائية وطنية جديدة تعبر عن هذه المرحلة بكل تفاصيلها، كما هوفي أعمال الملحنين «ريم بنا، نسيم دكور، حبيب شحادة، سعيد مراد، مصطفي الكرد، وليد عبدالسلام وغيرهم». وفي الفصل الثالث تناول الباحث الدراسة التحليلية لعينة البحث والذي تم اختيارها بعد أن تم حصر ما أمكن من الأغاني الوطنية والفلسطينية ومعرفة ملحنيها وكاتبيها ومؤديها، فجاءت عينة البحث بواقع «12» عملا فنيا موزعة علي ثلاث مراحل وهي حدود البحث بحيث تم اختيار أربعة ألحان لمرحلة الانتفاضة، الأولي وأربعة أخري لمرحلة السلطة الوطنية الفلسطينية ومثلها لمرحلة انتفاضة الأقصي مع الأخذ بعين الاعتبار معايير لاختيار الأعمال تمثلت في التنوع في الملحنين التنوع في المقامات الموسيقية، التنوع في النصوص الشعرية، إضافة إلي التنوع في الآلات الموسيقية المستخدمة. مات الولد فجاءت كلمات الأغاني الوطنية معبرة عن الممارسات اليومية وبعضها الآخر يصور هذه الأحداث تصويرا واقعيا، مثل ذكر أسماء الذين استشهدوا أوذكر للحواجز العسكرية، كما هوواضح في كلمات أغنية «مات الولد» للشاعر ماجد أبوغوش والذي يصور فيها تفاصيل استشهاد الطفل محمد الدرة وهوفي حضن والده، وكذلك كلمات أغنية وصية ياسر عرفات للفنان «أبوالعرب» والذي يصور فيها حالة وفاة رمز القضية الفلسطينية القائد ياسر عرفات وذكر وصيته الذي كان يتمناه بدفنه في مدينة القدس الشريف. من ناحية أخري نري ظهور عناصر الإبداع والتجديد في كلمات الأغاني الوطنية في فلسطين وهذا ساهم في إنتاج قصائد شعرية وأناشيد معبرة عن قضايا وهموم الشعب ومتمردة علي الاحتلال الصهيوني، كما هو واضح في كلمات أغنية «ارم علي من السما» للشاعرة كفاح الغصن والذي يظهر فيها التحدي للقوات الصهيونية بأنه مهما قصفت ودمرت فإن الشعب الفلسطيني لن يركع ولن يلين وسيبقي صامدا علي أرضه ونري ذلك بوضوح في كلمات أغنية «عن إنسان» للشاعر محمود درويش التي تصور معاناة الأسير الفلسطيني داخل السجون الإسرائيلية وما يتعرض له من تعذيب إلا أنه صامد أمام الجلاد الصهيوني وأن الليل سيزول وسيبزغ فجر الحرية.