وهويستطيع دائما أن يصبغ أعماله بروحه وأسلوبيته مهما تنوعت موضوعاته أو اختلفت حكاياته . وفي اعتقادي أنه فنان قادر علي أن يطبع شخصياته وأعماله بجوانب من شخصه وروحه وأن يحقق فيها قدرا من أحلامه وأفكاره . إنه يمارس عمله كسينمائي طبقا لنظرية الروائي الحر . فهويعمل علي توظيف خياله وفكره ووسائله الخاصة في الإبداع متجنبا الرضوخ للتقاليد والقواعد البالية اجتماعية كانت أو فنية، وثائرا عليها كلما وجدها حائلا بينه وبين الاضطلاع بعمله ، وهوتصوير الحياة وكشف حقيقة النفس الإنسانية واعيا بقدسية عمله الفني الجاد . وساعيا إلي نقل رؤية صادقة وأمينة للعالم المحيط به وكشف الحقيقة كما يراها أو كما تبدوله . وذلك عن طريق المحاولة الدائبة لتطوير فنه واستخدام جميع إمكانياته الفنية لنقل هذه الرؤيا علي أكمل وجه . طبيب وصياد بطل داود هذه المرة هو يحي - آسر ياسين - خريج الطب الذي هجر مهنته بسبب علة في لسانه تجعله يتلعثم فيثير شفقة مرضاه وسخرية زملائه . يخرج إلي العالم بعد سنوات من الانغلاق والانكفاء علي الذات دون أن يفقد ابتسامته ومحبته للحياة واحترامه للآخرين . بعد رحيل الأب يتحرر من كل قيوده ولكنه يصبح وحيدا. في مقدمة طويلة يحكي لنا الكثير عن حياته وذكرياته . فداود يسعي دائما إلي عقد ألفة ومعرفة كاملة بيننا وبين البطل ولكن المقدمة هنا تحديدا كانت في حاجة إلي قليل من الاختزال .. إنها مشاهد فوق طاقة وإمكانيات المجتهد آسر ياسين . فيصعب أن تتحمل كل هذه المساحات من الحوار والوصف والحركة والانتقال من مكان إلي مكان مع استمرار صورة نفس الممثل وصوته كراو وكطرف في الحوار. يخرج يحي من قصره الكبير الذي ضاق به ولم يعد بإمكانه الإنفاق عليه . ويسافر ليقيم في شقته بالإسكندرية . وهناك سرعان ما يلبي نداء البحر ويقع في غرامه ويصبح وسيلته للرزق بما يمن عليه به . وسوف يتحول يحي من طبيب عاطل إلي صياد سمك ، ليتمكن من تدبير نفقات حياته القليلة . كما سيلقي له البحر أيضا بزجاجة داخلها رسالة بلغة غريبة سوف يظل منشغلا بترجمتها . يحي ليس لديه هدفا واضحا في الحياة ولكنه فقط يريد أن يعيش دون أن يحتاج للآخرين أو يستغلهم أو يأخذ منهم شيئا بلا مقابل . وهوما يبدوواضحا في سلوكه مع نورا - بسمة - التي تصحبه إلي بيته وتشاركه فراشه فيعتقد أنها عاهرة . وهويتقبل في رضا القدر اليسير من المتع الممكنة ، ولوبالإنصات لصوت عزف موسيقي صادر من شرفة إحدي الفيلل . كما يهنأ أيضا بجيرة العجوز الإيطالية فرانشيسكا - نبيهه لطفي - وحفيدتها كارلا . طعم البيوت من المشاهد الخارجية المنفتحة علي الحياة والعالم الواسع ، والمشبعة بماء البحر ومذاقه والمتغزلة في ألوانه وأضوائه بكاميرا أحمد مرسي . . ننتقل إلي جماليات الإضاءة الداخلية لنكشف عن إبداع المتمكن أنسي أبوسيف مهندسا للديكور ومديرا فنيا لنستشعر مذاق البيوت بطابعها الحضاري ولمساتها وتفاصيلها المعبرة عن شخصياتها وأجوائها وخاصة بيت هذه الأسرة الإيطالية الأصل السكندرية الإقامة والهوي . ولا يعكر صفوهذه الأجواء علي يحي وجيرانه سوي إصرار صاحب البيت الجديد الحاج هاشم - صلاح عبد الله - علي إخراجهم وسعيه إلي ذلك بشتي الطرق . وربما يفكر يحي في أن يوصل ما انقطع مع كارلا من مشروع غرام في الصبا مرت عليه سنوات طوال . ولكن كارلا تنخرط فجأة في علاقة شاذة . تتيح الظروف ليحي أن يكشف الستار عن سر هجر كارلا له حين يراها مع رفيقتها في فراش وحوار حميمين .. يحرص المخرج الفنان علي أن يتجنب الأكليشيهات التقليدية في تصوير هذه العلاقات والتعامل معها بمنطق أفلام البورنو. ولكن حرص داود البالغ علي جماليات وخصوصية فنه لا يوازيه قدرة الممثلتين علي التعبير . فيبدو أداؤهما خاليا من الروح والإحساس والتلوين والإيحاء بأي شيء . ويبدو ولأول مرة في أفلام داود تفاوتا في الأداء التمثيلي من ممثل لآخر فهناك مسافة كبيرة بين وجوه تنفذ المطلوب كأمر عسكري وفنانين آخرين علي قدر من التمكن يصبغون مشاهدهم بحالة من الحياة والتألق ، ويصنعون لجملهم وقعا وتأثيرا . فلا يمكن أن تنسي نظرة صلاح عبد الله الماكرة ولا أدائه الرائع وهويهدد يحي بخبث ليترك الشقة " اللي النهاردة مش بيقول آه بكره حيقول آآآه " . أو وهويدعوه بهدوء لوجبة سمك من الذي يجمعه رجاله بعد تفجير الديناميت في البحر . وكذلك محمد لطفي في دور صاحب يحي البودي جارد قابيل بحضوره الطاغي وإحساسه الدفين بالألم والخوف والقلق الذي قد يتواري في بعض المواقف ولكنه لا يختفي أبدا .. والذي سوف يصل إلي الذروة مع اكتشافه التعيس بأنه محكوم عليه بالاختيار بين أن يموت أو أن تجري له جراحة في المخ يفقد علي إثرها الذاكرة .. أسرار تنكشف سوف تنفرج أسرار قابيل بالنسبة ليحي ويكشف له عن سبب قراره بألا يضرب أحدا ، فيصارحه بالذكري المؤلمه ونظرات قتيله التي تطارده بلا رحمة . ولكن يحيي لن يتمكن من قراءة الرسالة التي وجدها في زجاجة البحر مهما اطلع وبحث وسأل . وهولن يتمكن أيضا من معرفة حقيقة حبيبته نورا التي سوف يظل يعتقد أنها مومس محترفة . وهي لن تبوح له بالواقع لأنها أحبته لصفاء نفسه التي مكنته من التغلغل إلي أعماقها والنظر إليها كما تنظر لذاتها. فزواجها من رجل الأعمال بالنسبة لها ليس سوي غطاء لعلاقة عاهرة مع رجل لا يأتيها إلا ليضاجعها ويعطيها نقودا . ولن يعرف يحي أيضا أن عازفة الموسيقي الرائعة التي يتصنت علي عزفها الرائع كل ليلة لتشجي قلبه وقلوبنا ليست إلا حبيبته نورا . نحن فقط سوف نعرف لان داود سينتقل بنا بمنتهي الجرأة إلي رواية نورا . قد يراها البعض تشتيتا في الرؤي ولكن هذا هو داود الباحث دائما عن زاوية كاشفة ومضيئة . والذي يدرك جيدا كحكاء بارع متي يخفي تفاصيله الغالية ومتي وكيف يكشف عنها . سوف يتمكن يحي بعد طول عناد من أن يستجيب لنصيحة العجوز فرانشيسكا ويتقبل الحياة كما هي والآخرون كما هم . وسيتقبل ايضا نصيحة نورا له بأن يكف عن التفكير في سر الرسالة وأن يكتفي بأن يعرف أنها موجهة له طالما أنها وصلت إليه . ولكن الحاج هاشم لن يتركه في حاله وسيبعث رجاله ليقتحموا شقته ليضبطوا نورا معه كذريعة لطرده من الشقة . سيستقل يحي ونورا قاربا لينعما بقليل من السكون لبعض الوقت . ولكن الأسماك التي قتلها ديناميت الحاج وهدان سوف تحيط بقاربهما من كل جانب حتي في قلب البحر . هذه ليست سوي مجرد محاولة للاقتراب وقراءة من المشاهدة الأولي لهذا الفيلم الثري والذي تحتمل كل تفاصيله قراءات مختلفة.. والذي يستحق كل كادر من كادراته التأمل كتعبير عن ثقافة تشكيلية رفيعة .. تماما كموسيقاه الرائعة التي صاغها راجح داود في عمل فجر طاقته الإبداعية من جديد بدراما متعددة المستويات كنسيج أوركسترالي تتلاقي فيه الحكايات وتتناغم وتتكامل وتسلم بعضها البعض . فرسائل البحر في رأيي هو ذروة فنية جديدة يصل إليها مبدع متمكن ومصمم علي توصيل رسالته التي لم يبعث بها إلينا إلا بعد قراءة عميقة ومتأنية للواقع ومن خلال بناء درامي وسينمائي بليغ . وهويعبر ببلاغته الهادئه عن الواقع الملوث والبيئة الفاسدة الخانقة المحيطة بكل ذوي النفوس الجميلة والأرواح الطيبة والعقول المستنيرة . بعد سنوات من الغياب ، يعود فيلم داود ليؤكد لرفاقه وأحبائه وأصدقائه الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم أن قلبه مازال ينبض بالإبداع . . قد لا نفهم بعض تفاصيل الرسالة بنفس القدر وقد تبدولغتها مختلفة أو غريبة علي البعض منا ، وقد نختلف حول تفسيرها . ولكن يكفينا أنها موجهة إلينا وتعبر عن همومنا وأوجاعنا . ولا تدعونا إلا لمزيد من التواصل مع البعض ومواصلة الحياة .. ففي ظل هذه الحياة القاسية الجافة القاحلة لا بد أن نتواصل ونتبادل الرسائل . رسائل داود لو تأملتها ستجدها قطعة من قلب حياتنا وأحلامنا وواقعنا بكل ما يمور به من هموم وأزمات وأفراح صغيرة وأحزان كبيرة .. إنها قطعة كاملة وغير منقوصة ..مكثفة ومختزلة وممتلئة عن آخرها .. وأجمل مافيها أنها صادقة ومتحققة بمهارة لا تبدوفيها أي صنعة وعبر حكايات جديدة وشيقة.