فجأة وبدون سابق إنذار .. وبينما المارة يعبرون ميدان الرمل بالإسكندرية - في وقت الذروة - سمع صوت سيدة عبر مكبر للصوت.. في البداية لم تشغل من وقت المارة والجالسين في حديقة سعد زغلول سوي نظرة خاطفة للتعرف والاطمئنان، لكن ما كانت تقوله أسفل قاعدة تمثال سعد زغلول ظل ينساب ببطء عبر الحديقة والميدان وطريق الكورنيش .. لقد كانت تقول: لقد كانت حياتنا أفضل وأجمل قبل الثورة.. لماذا تركنا ذلك الأمن والاستقرار وارتفاع أسعار البورصة لنقع في هذا المستنقع من الفوضي.. هل كنا غاضبين من الشرطة؟ من مبارك وابنه؟ من الفساد؟ هل يكفي كل ذلك لكي نخسر استثماراتنا؟ انجذبت الأنظار ببطء وبدأ بعض المارة وبعض الجالسين في الحديقة في متابعة تلك السيدة التي كانت تقف في هدوء لتقول لهم: إن أهم شيء أن نكون مقتنعين من داخلنا بما فعلناه وما نفعله. هنا أفجر الموقف واندفع رجل عجوز مطالبا إياها بأن تخبره هي إن كانت هي مقتنعة بما تقوله؟ مدت له الميكروفون وقالت: أخبرنا أنت بما جعلك تؤيد الثورة؟ ندوة سياسية انطلق العجوز يتكلم ويحكي تاريخه الشخصي مع النظام السابق .. وبعد قليل كان هناك خليط ما بين الندوة السياسية وجلسة الحكي.. لقد تحول الميدان إلي مكان مسرحي وتحول المارة والجالسون في الحديقة إلي مشاركين في احتفالية أقامها الشعر والحكي المشترك بين الحضور عن تجاربهم مع الثورة ومواقفهم منها. عرض آخر بشوارع مدينة الإسكندرية .. انه عرض «بيوجع!!» للمخرج السكندري أحمد شوقي. يبدأ العرض بشاب يقوم بتوزيع منشور يحمل صورة للفتاة التي تمت تعريتها «بموقعة شارع مجلس الوزراء» علي الواقفين بمحطة الأوتوبيس .. وفجأة يدخل رجل مكتمل الرجولة لكنه يرتدي خمارا «حجابا نسائيا» ويبدأ في الحديث عن أن تلك الفتاة هي المخطئة.. وأنها تتحمل نتيجة فعلها .. إلخ . مشهد صادم جعل كل من يمسك بصورة الفتاة يدقق النظر إليها للحظة قبلما ينتقل بعينيه لذلك الرجل المحجب!! إن تلك التجارب ربما تبدو مختلفة بعض الشيء عما يمكن أن يتركه مصطلح مسرح الشارع في أذهاننا من انطباع .. فلقد اختفي المتفرج وحل محله المشارك في الفعل المسرحي بصورته الأكثر شفافية، لم يعد هناك مجموعة من المؤدين يقومون بالتمثيل والرقص والغناء بالشارع أمام جمهور عفوي يتجمع ليشاهد تلك التجربة الفريدة التي ندر لأزمنة طويلة ولأسباب مختلفة - أكثرها أمني - أن يراها خارج حدود قاعة العرض. مسرح متآكل كذلك فإن فن المسرح نفسه يبدو متآكلا هنا ومختلطا وملوثا بأشكال أخري .. الأمر الذي قد يقلق الكثير من محترفي المسرح ونقاده الذين أفنوا أعمارهم في البحث عما يميز التجربة المسرحية عن سواها، والبحث فيما هو أكثر مسرحية، ونفي ما هو غير مسرحي واطلاق تعبيرات اصطلاحية من قبيل «شبه مسرحي، ظواهر قبل مسرحية، ظواهر أدائية.. إلخ» .. إنه نوع مختلف من المسرح يمتد ليخترق الحاجز الوهمي بين الواقع والخيال .. وليدمج ما هو مفرط في واقعيته بما هو مسرحي وأدائي. وأخيرا فإننا هنا أمام تجارب ذات طبيعة تحريضية واضحة ومحددة التوجه السياسي .. تجارب تنطلق من استخدام خطاب القوي المعارضة للثورة في الشارع بشكل صادم وفي إطار تغريبي ينتزعها من الإطار الذي تقدم فيه والذي يهبها شرعيتها ومصداقيتها.. إنها تجارب تقوم بإلقاء الخطاب المضاد للثورة في عرض الطريق بعدما تعريه وتجعله هدفا سهلا وقابلا للتمزيق .. وقبل كل شيء فإننا أمام أفعال مسرحية لا تستحي من استخدام لغة الشارع وأخلاقياته ومنطلقاته الثقافية ولا تخشي من مناقضتها في الوقت ذاته - كما هو الحال في عرض «بيوجع!!» الذي جعل من الحجاب إشارة إلي انتفاء الرجولة.. لكنه جعله أيضا علامة علي الرجعية . بالتأكيد فإن ذلك النوع من العروض ليس هو الجسم الحقيقي لمسرح الشارع الذي يزدهر حاليا «مع حالة التفاؤل الثوري التي تجتاح بعض المسرحيين والمثقفين المؤمنين بإمكانية الخروج للشارع» لكنه مؤشر قوي علي محاولة إعادة إنماء العلاقات المبتورة بين المسرح والمجتمع عبر تفعيله ودفعه للقيام بأدوار ذات صبغة سياسية بعيدا عن الأجواء الاحتفالية التي تصاحب العروض المسرحية التي تعد خصيصا للتقديم بالشارع كما هو الحال في عروض الهيئة العامة لقصور الثقافة التي تقدم بالميادين .. أو بعض التجارب المستقلة. إننا أمام نوع من مسرح الشارع لا يهتم بالتصفيق أو نظرات السعادة علي وجوه المتفرجين أو كلمات التشجيع لفريق العمل.. بل هو علي العكس مسرح ولد من رحم المظاهرة والاعتصام ومنصات الخطابة بالميادين والمتظاهرين الذي يحتجون بشكل أدائي عبر الملابس أو الأداء الصوتي ... إلخ، إنه الوليد الشرعي لتلك الأشكال الأدائية كما أنه يرتبط بصلة قرابة مع بعض المحاولات العالمية كما هو الحال مع تجارب المخرج أجستوبوال. مسرح معزول بالمجمل إن مسرح الشارع فضح للمسرح المصري المعزول داخل قاعات العرض الفارغة والغارق في اغترابه عن المجتمع فلقد كشف عبر حيويته وسخونته واندفاعه نحو المتلقي عن وجود مساحة فارغة في الشارع يمكن للمسرح أن يدخلها بعيدا عن الحركة البطيئة والمتعثرة التي تعانيها الفرق المسرحية التقليدية التي لم تستطع بعد استيعاب المتغيرات ومواكبة التطور السريع للأحداث، وهو ما يوحي بدخول مسرح الشارع كشريك - قوي وراديكالي - في مستقبل المسرح المصري.