أثناء مشاهدة فيلم "المصلحة"، للمخرجة ساندرا نشأت، ظل سؤال قديم يلح علي: لماذا لا نصنع سينما جيدة عندما تتوفر الإمكانيات التقنية والمادية ويتواجد الممثلون البارعون؟ سؤال قديم طرحته من قبل عدة مرات، لكنه يعود دائما ليفرض نفسه لأنه لا يجد الإجابة الشافية، لا من صناع السينما المصرية ولا من المسئولين عنها، ولأن قضيته تحولت إلي حقيقة مؤسفة لا نستطيع الفكاك منها ولا نسعي لتغييرها لأسباب فنية واجتماعية كثيرة، معظمها مادي وتجاري للأسف. توفر لساندرا كل شيء عن طريق إنتاج سخي لو كانت طلبت منه لبن العصفور للبي الطلب، فقد سخّر لها الهليكوبتر واللنشات و"البيتش باجي" وجميع أنواع السيارات والمواصلات، وجعلها تصور في أي مكان تريد داخل وخارج مصر، وتستعمل ما شاءت من أحدث الكاميرات والمعدات والخدع والمؤثرات، وتتعاون مع مجموعة من الفنيين الأكفاء في التصوير والمونتاج والمكساج والموسيقي والديكور. مبادرة مشكورة والأهم أنه توفر لها وللفيلم مجموعة من الممثلين الجيدين في مقدمتهم نجما الشباك أحمد عز وأحمد السقا.. وفي هذا الصدد لابد من الإشادة بتلك الخطوة أو المبادرة التي جمعت بين نجمين كان كل منهما حريصا علي أن يكون البطل المطلق لأفلامه، وكانت آليات الصناعة تسمح لهما - بل تشجعهما - علي ذلك.. أما الآن، فإن تجمع النجوم في أفلام قوية يسهل تسويقها وجني أرباحها، يعد من أهم الحلول لمواجهة الأزمة الحادة التي تضرب السينما المصرية منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008، والتي ما إن بدأت تنفرج حتي قامت ثورة 25 يناير 2011، بكل ما تبعها من أحداث وهزات عمقت من جراح وخسائر السينما المصرية.. أي أن ما قدمته الشركة المنتجة ل"المصلحة"، يستحق التحية من حيث الشكل والتركيبة، لكن المستوي الفني للفيلم شيء آخر. وأعود إلي السؤال: لماذا لم تصنع ساندرا نشأت فيلما متميزا رغم توفر كل الإمكانيات والظروف المناسبة؟ الإجابة المباشرة في رأيي هي: ضعف السيناريو الذي كتبه وائل عبد الله، لكنه لا يتحمل مسئوليته وحده، بل تتحملها معه المخرجة التي وافقت علي تنفيذ الفيلم بهذا السيناريو غير المتماسك، ولم تعمل بجدية علي تحسينه، ولم تطلب تعديلات ليصبح أكثر تماسكا ومصداقية.. وتلك هي دائما مشكلة هذه النوعية من الأفلام، فقد كانت الدراما هي مشكلة فيلم "الجزيرة"، الذي يتشابه كثيرا مع فيلمنا، حيث يدور الاثنان حول المواجهة بين قوات الداخلية وأباطرة المخدرات والسلاح، ويتمتع الاثنان بضخامة الإنتاج، وفي كليهما اهتم المخرجان - شريف عرفة وساندرا - بالإبهار البصري، من دون أي مناسبة أحيانا، علي حساب الدراما. ما لم يره أحد وكما فعل عرفة في "الجزيرة"، انشغلت ساندرا في "المصلحة" بمحاولة تقديم ال"جاميه فو"، أو ما لم يره أحد من قبل (في مصر بالطبع)، علي حساب مصداقية الدراما.. انشغلت بالطائرات الهليكوبتر واللنشات ومطاردات السيارات وقوة التفجيرات، وقدمت ما لم نشاهده بالفعل من قبل، لكنه للأسف يثير الشفقة والضحك وليس الإعجاب.. فقد ضحكت من قلبي عندما شق بطل الفيلم الضابط "حمزة" (أحمد السقا) صفحة مياه النيل ممتطيا "البيتش باجي" في محاولة فاشلة لضبط شحنة مخدرات، فلم أكن أعرف أن الشرطة المصرية تستخدم ما يستخدمه الشباب علي الشواطئ لمطاردة المجرمين.. ولم أكن أعرف أيضا أن في مصر من يربون الأسود ويقدمون أعداءهم ومن يخرجون علي طاعتهم طعاما لها، وقد كان مشهد الأسد وهو يلتهم أحد هؤلاء (محمود البزاوي) مثيرا للضحك بدوره رغم انه صنع بغرض بث الر عب، وذلك لأنه ليس صادقا، وضعيف تقنيا. وبدلا من ذلك كله، كان علي صناع الفيلم أن يهتموا أكثر بالدراما ورسم الشخصيات، التي بدت - فيما عدا استثناءات قليلة - كأنها قطفت من فوق الأشجار، دون محاولة لتعميقها وإعطائها الخلفيات الدرامية المطلوبة وما تستحقه من اعتناء برسم الملامح.. وعلي سبيل المثال، كانت شخصية "شادية" (زينة) لغزا يستعصي علي الحل طوال الفيلم، حيث تم وضعها في ثالوث درامي مع إمبراطور المخدرات "سالم" (أحمد عز) وشقيقه "سليمان" (محمد فراج)، لكن بطريقة ملتبسة للغاية لا تمكنك من معرفة المشاعر الحقيقية لأي منهم طوال الفيلم.. وشخصية الأخ نفسها جاءت مليئة بالتناقضات، حيث تم تقديمه لنا في البداية في صورة المعارض لشقيقه الساعي للخلاص من سيطرته عليه، وبمرور الوقت تحول إلي شخصية هشة تعتمد بالكامل علي هذا الشقيق ولا تخطو خطوة واحدة إلا بأمره. ورغم ذلك، كان هذا الأخ أكثر حظا من شخصيات أخري اختفت في ظروف غامضة في منتصف الفيلم، وبمعني آخر: خرجت ولم تعد، مثل شخصية "نجوي" (ياسمين رئيس) زوجة الضابط الشهيد "يحيي" (أحمد السعدني)، والتي كان آخر عهدنا بها جنازته، حيث لم يعد لها الفيلم مطلقا، لا ليبين لنا مصيرها ولا لاستغلالها فيما تبقي من دراما، رغم أن وفاة زوجها كانت نقطة التحول في الفيلم. أين نحن؟ وعن المصداقية حدث ولا حرج، فقد ظللت - طوال فترة العرض - أسأل نفسي ما إذا كانت الأحداث تدور في مصر فعلا، فعندما تتابع المعارك ومطاردات السيارات وأنواع المواصلات الأخري تظن نفسك في شيكاغو، وعندما تري الأسود تقطع بأنك في أدغال أفريقيا.. وإزاء إصرار صناع الفيلم علي أننا في مصر، ينتقل المشاهد إلي سؤال آخر: أي مكان في مصر بالضبط؟ فالفيلم يتنقل بسرعة "الفيمتو ثانية" بين جنوبسيناء والقاهرة ومدن أخري.. وقد يكون ذلك مقبولا فيما يخص الأحداث، لكنه غريب بعض الشيء بالنسبة للشخصيات، فالشخصية التي تطمئن إلي وجودها في مدينة بعينها، تفاجأ بها - دون أي مبرر أو تمهيد أو سبب - في مدينة أخري تفعل شيئا يمكن الاستغناء عنه بكل سهولة في دراما الفيلم.. ولإتمام تلك الأحداث غير المنطقية، يحفل "المصلحة" بكم غير طبيعي من الصدف والتلفيق الدرامي غير المسبوق، ولا مشكلة، طالما أن الإبهار البصري موجود! وليس الفيلم غريبا في أحداثه وبنائه فقط، بل فيما أثاره من جدل وردود فعل أيضا، فقد اختطف مسلحون مجهولون الأسبوع الماضي سائحين أمريكيين من مدينة نويبع في جنوبسيناء، حيث أجبروهما علي النزول من سيارة سياحية كانت تقلهما من مدينة دهب إلي منطقة رأس شيطان بوادي وتير بين نويبع وطابا.. والعجيب أن مطالب الخاطفين، والتي تمثلت في الإفراج عن أقارب لهم في قضية مخدرات، أضيف لها مطلب وقف عرض فيلم "المصلحة"، الذي رأي الخاطفون أنه يسيء إساءة بالغة إلي أهالي سيناء، ويلخصهم في أنهم تجار مخدرات، وكذلك الإفراج الفوري عن السجناء من أبناء سيناء في السجون المصرية، خاصة السجينات وعددهن 12 .. صحيح أن القوات المسلحة نجحت في إطلاق سراح السائحين، دون أي شروط، إلا أن الموسوعات ستسجل للفيلم أنه الأول في تاريخ السينما الذي يختطف سائحون أجانب لوقف عرضه. كما عقدت 18 من قبائل سيناء اجتماعا حضره مشايخ وعواقل البدو بمدينة نويبع لاستنكار ما ظهر في الفيلم من "تشويه" لصورة البدوي ووصفه بتاجر المخدرات.. وقدم محمد فراج، نائب الشعب عن حزب النور، بيانًا عاجلا في مجلس الشعب لإهانة الفيلم بدو سيناء، علي حد قوله. تلميع ودعاية وأشار الشيخ أحمد حسين قريش، أحد مشايخ البدو المشاركين في اجتماع القبائل، إلي أن الفيلم شوه صورة البدوي، وقام بتلميع ضباط الشرطة والدعاية لهم بعد ثورة 25 يناير، وشوه أيضا عادات وتقاليد البدو ولم يظهرهم بصورة حقيقية معتمدًا علي ملفات وزارة الداخلية! وتنظر محكمة الأمور المستعجلة في 23 يونيو الجاري الدعوي المقامة من محمد سيد أبوزيد المحامي ضد الشركة المنتجة ومؤلف الفيلم ومدير عام هيئة الرقابة علي المصنفات الفنية ووزير الثقافة، ويطالب فيها بمنع عرض "المصلحة" والتحفظ علي أشرطته ومنع نسخها أو تصديرها إلي خارج البلاد لخطورة الفيلم علي المجتمع المصري! وأرفض بالطبع مقاضاة أي عمل إبداعي أو المطالبة بوقف عرضه، فحرية التعبير والإبداع عندي مقدسة، لكن ذلك لا يمنع أن الفيلم ضعيف وخاو فنيا، وأهدر فرصة ذهبية لاستغلال الإمكانيات الهائلة المتاحة، وانتهاز فرصة الجمع بين عز والسقا في عمل واحد.. خسارة.