ازدهرت الثقافة المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بفضل أعداد كبيرة من الكتاب والنقاد والباحثين لمعت أسماء بعضهم بما يتناسب أولا يتناسب مع قيمتهم الحقيقية، وتوارت في الظل أسماء أخري قد تكون أولي بالمعرفة والتقدير والشهرة من هذه الأسماء اللامعة. ومن الأسماء التي لم تعرف إلا في أضيق نطاق بالرغم من عطائها الغزير المتنوع الدكتور عطية عامر الذي حال دون استقراره في وطنه الواقع السياسي المضطرب منذ الخمسينات، الذي وصفه في إحدي مقالاته بالإرهاب. وتختصر كلمة الإرهاب المناخ الذي عاشته مصر وفقدت فيه القدرة علي تنقيته وكان وراء خروج هذا الرجل من مصر إدراكا منه بأنه لا مستقبل له في هذا المناخ. ولولا المقال الوحيد الذي كتبه عنه جابر عصفور في عدد مايو 2012 من مجلة «العربي» الكويتية، لظل هذا الاسم مجهولا لا يعرفه أحد. وسوف يصدر خلال الشهر القادم عن مكتبة مدبولي كتاب «وثائق من كواليس الأدباء يرويها الدكتور عطية عامر» من إعداد الدكتور وحيد موافي يجمع بين السيرة الأدبية والسيرة الذاتية، غير أن مقال جابر عصفور اقتصر علي الحديث عن شخصية عطية عامر وعن علاقته الحميمة به أثناء عمله معه في كلية الآداب جامعة القاهرة أستاذا للأدب المقارن في وسط علمي لا يرحب به، مما دفع عطية عامر في 1976 بعد سنتين فقط من العمل في هذه الجامعة إلي الاستقالة والهجرة من مصر. ولأن سيئ الحظ يلقي العظم في الكرشة فإن الفساد الذي عاينه عطية عامر في الجامعات الأوروبية وبالذات في جامعة استكهولم في السويد التي التحق بها أستاذ اللغة العربية لم يكن أهون أو أقل من الفساد الذي خلفه في جامعة القاهرة إن لم يكن أسوأ. ومن يقرأ الفصل الطويل الذي كتبه عطية عامر عن الديمقراطية الأوروبية في كتابه «خرافة الحضارة الأوروبية» مكتبة الأنجلو المصرية 1990، يجد أن الموبقات في السويد لم تكن تقتصر علي الجامعة، لكن يرتكب نظيرها أيضا في الصحافة والأحزاب ودولاب العمل الحكومي والمؤسسات العامة ولاشك أن الذين ضاقوا به في كلية الآداب جامعة القاهرة في هذا التاريخ كانوا من أصحاب الوجود الهش الذين يستعلون علي خريجي دار العلوم التي حصل عطية عامر علي شهادتها بعد الثانوية الأزهرية لا الثانوية العامة. لم يتطرق جابر عصفور في مقاله عن عطية عامر بكلمة واحدة إلي أعماله العلمية والأدبية، كأنه ليس كاتبا محترفا وليس أستاذا في جامعات الغرب له منهجه في تحقيق التراث كان في بلاده قبل الهجرة منخرطاً في حركتها الثقافية علي صلة قوية بناقدها محمد مندور ولويس عوض وزكي مبارك، يلتقي بتوفيق الحكيم وطه حسين وصالح الشرنوبي وغيرهم من أدباء القاهرة في قاعات المحاضرات وعلي مقهي الفيشاوي بالحسين وله من التأليف ما يقرب من عشرين كتابا نشرت جميعها في القاهرة فيما عدا كتاب واحد عنوانه «النقد المسرحي عند اليونان» طبع في بيروت 1964 وكان عطية عامر يحرص علي أن يتوجه بها إلي كل المستويات الثقافية العامة والخاصة. أما أستاذيته في جامعات الغرب فأهم أحداثها الكلمات التي كتبها للأكاديمية السويدية، يزكي ويرشح نجيب محفوظ لجائزة نوبل، بعد عشر سنين من تدريس أدبه في جامعة استكهولم وتزويد مكتبتها بمؤلفاته المترجمة إلي اللغات الأجنبية ولست أظن أن الجانب الشخصي البحت لمثل هذه الشخصية التي ولدت في إحدي قري الوجه البحري في 1922 ورحل هذه السنة في سن التسعين يمكن ان يغني بحال من الأحوال عن التعريف بتكوينه وثقافته وانتاجه لأننا مع عطية عامر إزاء باحث وناقد وروائي وقصاص ومترجم ومحقق، ضرب بتمكن في تراثنا القديم والحديث خاصة التراث الفرعوني واستخرج منه من المعاني والدلالات والأحكام ما يستحق الدراسة مثلما ضرب بالتمكن نفسه في الآداب الأوروبية القديمة والحديثة بالإضافة إلي تحقيق عدة كتب لأبي بكر السراج والأنباري وغيرهما. العلم والخلق ان أهم ما يتعين ذكره عن مثل هذه الشخصية هو امكانياتها الخاصة وما قدمه في كتبه وليس خصاله ودماثة خلقه دون تقليل بالطبع من هذا الجانب إذا اتضح منه ماذا فعل به التراث القومي وماذا فعلت به أوروبا؟ وليس بوسع أحد حصر القضايا التي شغلت عطية عامر في كتبه ولكن من الواضح أنه كان مهموما بتأصيل مفهوم الأدب المصري وإدراجه في السياق العالمي في مرحلة شاع فيها وصف الأدب المصري بالأدب العربي مع ارتفاع الدعوة للقومية العربية ورأي عطية عامر أن الأوان قد حان لتصحيح هذا الخطأ المناقض للعلم والموضوعية ووجهة نظر عطية عامر ان إنتاج المصريين أيا كانت اللغة التي كتب بها ولو كانت لغة ميتة فهو إنتاج مصري يصور المجتمع الذي أنجبه، لأن الأدب ينتمي إلي أمته لا إلي اللغة التي كتب بها كما يذهب كثير من الباحثين الذين ينسبون الأدب إلي اللغة التي نشأ فيها لا إلي الأمة التي ينتمي إليها. وهذا المفهوم ينطبق بحذافيره علي الشخصيات التي ترد في النصوص لأن ما يخلقه الكاتب المصري من شخصيات فانها شخصيات مصرية، مهما كانت جنسيتها كما أن كل ما يخلقه الكاتب الانجليزي من شخصيات فانها ليست سوي شخصيات انجليزية حتي لو كانت في النصوص من جنسيات أخري.. وردا علي ما يقال من أن العقلية العربية لم تعرف المسرح، فان عطية عامر يذكر في كتابه «دراسات في الأدب المصري القديم والحديث» مكتبة الأنجلو المصرية، 2000، انه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وليس القرن التاسع عشر كانت الفرق المسرحية تجوب أحياء القاهرة تقدم عروضها في الميادين والمقاهي العامة وأفنية البيوت وقصور الأثرياء ومصر لم تكن الاستثناء في هذا النشاط لأن مثل هذه الفرق الشعبية التي لا تتقيد بمعيار مسرحي كانت شائعة في كل البلاد، بحكم تشابه الطبيعة البشرية بل انه في موضع آخر من مؤلفاته عن الأدب الفرعوني يرد الظاهرة المسرحية إلي مصر الفرعونية التي عرفت هذا الفن تأليفا وتمثيلاً وعطية عامر ككل كتاب النهضة والتحديث في تاريخنا مع التمدن الحقيقي، أي أنه مع القانون الوضعي، ومع فصل الدين عن الدولة ومع التعليم والترجمة والفنون وكل ما يتصل بالروح. وفي تقديره ان النهضة الأدبية بما تشتمل عليه من خصوبة فكرية ليست هدفا في ذاتها، ان الهدف الأصلي منها هو التمهيد للتحديث، وحضارة المجتمع. وهذه الحضارة التي تقوم علي العلم والعدل تشترك الإنسانية في صنعها. ومن ناحية مقابلة فإن عطية عامر يدرك جيدا ما في الحضارة الأوروبية من الخرافة وافتقاد العدالة والاستغلال والظلم. ان الأنانية ووزن الإنسان بما يملك لا بعقله والتقليد أو الجمود وغيره مما يستحق الدفع بعض هذه العيوب التي تؤدي مع كثير غيرها إلي فقد الكيان والانهيار في كل المجالات. والعبقرية عند عطية عامر لا تنفصل عن بيئتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية وليست ظاهرة منبتة الصلة بعالمها، وارتباط هذه العبقرية بما يحيط بها وبما تتلقاه من مؤثرات خارجية لا يحط أو يقلل من شأنها. التحليل الداخلي للنصوص وعن الدراسات الأدبية المقارنة التي يعد عطية عامر من أعلامها نعيب علي الباحثين في مصر الأكل من فتات موائد الغرب بنقل المصطلحات الغربية نقلاً حرفيا وتطبيقها علي أدبنا بدلا من أن يستخصلوا من تاريخنا وقضايانا التعريف والمصطلحات العربية ويهتدوا إلي طريقة معالجتها التي تعمق تجربتنا الوطنية وتقاليدنا الأدبية، وذلك بالتحليل الداخلي للأعمال التي تكشف مصادره في ترتيبها الزمني ولا تقف فقط عند الصلات الخارجية فيها والتحليل الداخلي يعني النقد الأدبي الذي يتناول المضمون والعناصر الجمالية واللغة. ويؤكد عطية عامر في أكثر من كتاب أن معارف رفاعة رافع الطهطاوي الدينية واللغوية التي حصلها في دراسته في الأزهر قبل أن يرحل إلي فرنسا في البعثة لم تكن كافية قط لبناء ثقافة تحقق النهضة أو تشييد حضارة ولم يكن هناك معد له عن المعارف والآداب الأوروبية الجديدة التي منحته فهما أعمق للنهضة والحضارة ساعده علي استيعابها بالضرورة مراقبته للحياة في باريس. والحضارة عند عطية عامر ليست الآلة وغزارة الإنتاج المادي الذي يفوق الحاجة ويدفع إلي العنف والتطاحن من أجل الثروة والجاه، وإنما الحضارة الحقة هي الفلسفات والأيديولوجيات الملتزمة التي لا تفرق بين البشر وتمنح الإنسان الصفات الإنسانية التي تحتفي بالقيم العليا، ولا تحيل الفرد إلي رقم أو إلي سلعة. أما الثقافة فإن لم تهدف إلي تحرير الفرد من العبودية والاستغلال والتعصب والعزلة وتزيد من وعيه السياسي وارتباطه بالمجتمع والعالم فانها لا تعتبر ثقافة ولو حمل المرء أعلي الشهادات الدراسية وحفظ المراجع عن ظهر قلب وتبوأ أرفع المناصب وكراسي الحكم! وإذا كانت غاية كل تقدم التغيير والثورة فان هدف الرجعية وأد التفكير والنقد وهو ما حاول عطية عامر ان يتصدي له بما قدمه من كتب أرجو أن تلتفت إليها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتعيد طبع أعماله الكاملة طبعة جديدة، بعد أن أصبح العثور عليها من الأمور الصعبة إلا لمن يحالفه الحظ، ويعثر عليها في أسواق الكتب القديمة.