سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    رموز «الحوار الوطني» يتحدثون عن المبادرة الأهم بتاريخ مصر الحديث    تباين أداء مؤشرات البورصات الخليجية خلال تداولات الأسبوع    محافظ الإسكندرية: معرض ثابت كل أسبوعين لدعم الأسر المنتجة    وزير خارجية إسرائيل: سنؤجل عملية رفح الفلسطينية إذا توصلنا لاتفاق بشأن المحتجزين    شيفيلد يونايتد يودع البريميرليج بعد الخسارة أمام نيوكاسل بخماسية    أمن الجيزة يضبط تشكيل عصابي لسرقة السيارات بالطالبية    ياسمين عبد العزيز تكشف ظهورها ببرنامج «صاحبة السعادة» | صور    أبو حطب يتابع الأعمال الإنشائية بموقع مستشفى الشهداء الجديد    لمكافحة الفساد.. ختام فعاليات ورش عمل سفراء ضد الفساد بجنوب سيناء    «صلبان وقلوب وتيجان» الأقصر تتزين بزعف النخيل احتفالاً بأحد الشعانين    خبير: التصريحات الأمريكية متناقضة وضبابية منذ السابع من أكتوبر    خبير ل الحياة اليوم: موقف مصر اليوم من القضية الفلسطينية أقوى من أى دولة    توقعات عبير فؤاد لمباراة الزمالك ودريمز.. مفاجأة ل«زيزو» وتحذير ل«فتوح»    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    الرضيعة الضحية .. تفاصيل جديدة في جريمة مدينة نصر    استهداف إسرائيلي لمحيط مستشفى ميس الجبل بجنوب لبنان    المصريون يسيطرون على جوائز بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية للرجال والسيدات 2024 PSA    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    بالفيديو .. بسبب حلقة العرافة.. انهيار ميار البيبلاوي بسبب داعية إسلامي شهير اتهمها بالزنا "تفاصيل"    سؤال برلماني عن أسباب عدم إنهاء الحكومة خطة تخفيف الأحمال    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. خبير بأمن معلومات يحذر من ال"دارك ويب"    كيفية التعامل مع الضغوط الحياتية.. لقاء تثقيفي في ملتقى أهل مصر بمطروح    رامي جمال يتخطى 600 ألف مشاهد ويتصدر المركز الثاني في قائمة تريند "يوتيوب" بأغنية "بيكلموني"    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    أحمد حسام ميدو يكشف أسماء الداعمين للزمالك لحل أزمة إيقاف القيد    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    الصين: مبيعات الأسلحة من بعض الدول لتايوان تتناقض مع دعواتها للسلام والاستقرار    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    قطاع الأمن الاقتصادي يواصل حملات ضبط المخالفات والظواهر السلبية المؤثرة على مرافق مترو الأنفاق والسكة الحديد    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    إزالة 5 محلات ورفع إشغالات ب 3 مدن في أسوان    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محفوظ الذى وصل للعالمية من حوارى الجمالية
نشر في أكتوبر يوم 18 - 12 - 2011

لهذا الكتاب، كما يبدو من عنوانه، محور رئيسى، أو نواة تدور حولها مكوناته. إنه اعتراف بالجميل لصاحب فضل، كما يقال فى مصر، فاستقبال نجيب محفوظ فى إيطاليا ليس مجرد إعادة قراءة أو قراءة إضافية تستكمل النص وتضيف إليه، إنما، وهذا ما خرجنا به من بحث شاق استمر نحو العام، فى كل مرة يقدم فيها محفوظ أو تتم قراءته أو تفسيره، أو نقده، أو مجرد الاستشهاد به، فإنه يسدي، من حيث لا يدرى، وربما أيضا من حيث لم يكن من ضمن أهدافه المباشرة، خدمة كبرى وفضلا، ليس فقط لاسمه، إنما لاسم بلده مصر، ولسمعة الأدب العربى كله، وللأدباء العرب أجمعين.
فى دراسة سابقة لى، نشرت فى جامعة روما بإيطاليا وتمكن قراءتها على شبكة الإنترنت، درست الحضور الثقافى العربى فى إيطاليا فى بداية القرن الحادى والعشرين، وكان من نتائجها أن نجيب محفوظ بفوزه بجائزة نوبل فى الآداب (1988)، فتح الباب على مصراعيه لترجمة الرواية العربية فى إيطاليا وسلط الضوء على العديد من الكتاب العرب غيره، وخاصة المقيمين فى أوروبا، والذين فتحت لهم دور نشر، أرقى درجة، أعمالهم.
على أن الفضل الأكبر، والذى أضاءه محفوظ فى أوروبا كلها، بما فى ذلك إيطاليا، هو أن مصر ليست فقط منتجة لأدب «فاخر» المستوى، وليست فقط منتجة لثقافة «عملاقة» إنما هى راعية وحاضنة لكل ثقافة ولأية ثقافة. فهى لعبت دائما دورا مهمًا كمنتج للثقافة وهو ما يشهد عليه تراث ضخم من الرسم والتصوير والنحت والعمارة.
بل إن الإنتاج الأدبى المصرى القديم، وهو مجهول لكثير من النقاد، كان ضخما للغاية رغم أنه لم يستطع أن يمنع انقراض المصرية القديمة المشهورة بالهيروغليفية. واللغة التى يتحدث بها المصريون اليوم، وهى اللغة العربية، هى رابع لغة فى تاريخ المصريين، وهى أوضح دليل على خاصية التبنى الثقافى اللغوى التى تميزت بها مصر دائما.
فمن قبل تحدثت مصر بالمصرية القديمة المكتوبة بالشكل الهيروغليفى، ثم بلغة وسط اختلطت فيها المصرية القديمة باليونانية تارة واللاتينية تارة، ثم اللغة القبطية وهى تطور تاريخى لهذه الأخيرة، فاللغة العربية، لغة الفاتحين العرب والتى تبناها المصريون وأصبحت لغتهم القومية والرسمية. وبالطبع كانت هناك دائما فترات من التاريخ كانت تستخدم فيها أكثر من لغة فى نفس الوقت، وهو الأمر الذى مكن شامبليون فى القرن العشرين من فك رموز الكتابة الهيروغليفية، عندما قارن بين ثلاث لغات مكتوبة على صخرة واحدة هى حجر رشيد. ليس هناك شىء غريب.
علاوة على ذلك كان لمصر دور ثقافى فى القرن العشرين، بعد أن تحررت من الاستعمار البريطانى، وصعود زعيمها عبد الناصر، وهو الرجل الذى استطاع أن يقول «لا» للاستغلال الاستعمار لثروات العالم الثالث، وأشرك معه فى رفضه الثورى جزءا كبيرا من العالم الذى كان يتعرض لنير الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت ثورة ناصر بمساعدة حركة تنوير قوية بدأت من نهاية القرن التاسع عشر، واستمرت طيلة النصف الأول من القرن العشرين، وجعلت من القاهرة مركزا إشعاعيا ثقافيا للمنطقة العربية كلها. هذا المركز، وبالمشاركة مع مستقبلات ومرسلات ثقافية، مثل بيروت والمغرب العربى على سبيل المثال، كان يقدم النموذج، طيلة عصور التنوير. والنموذج المقدم كان يأتى عبر حركة ترجمة أسست لظاهرة المبادلة الثقافية، أو ما يسمى حاليا بالبينية الثقافية، interculture . كان هذا هو التأسيس الذى رسّخ للأجناس الأدبية التى برع فيها العرب بعد ذلك، وأقصد بها الفن الروائى والمسرح. لقد أخذ المصريون النماذج الأوروبية ومنحوها ذائقتهم الخاصة، واستزرعوها فى تربتهم، ووطنوا تقاويها حتى طرحت نبتا قويا، لتعرضه بعد ذلك على العالم، فكانت أجيالًا من الأدباء الكبار، بداية من البارودى وشوقى وحافظ، ومدرسة المهجر والعقاد وطه حسين والحكيم، ودرة العقد نجيب محفوظ، الذى وضع اللمسة الأخيرة للمنتج الثقافى العربى قبل تقديمه إلى العالم.
قبل نجيب محفوظ كان اهتمام دور النشر الإيطالية بالإنتاج الأدبى ضعيفا محدودا، علاوة على أنه كان منحازا إلى حد كبير لأساليب وأفكار بعينها، وهو انحياز مشروع، لأنه كان ينتقى ما يوافق ذائقة المتلقى، أو يحمل قيمة فريدة من وجهة نظر الناقل المترجم وهى وجهة نظر تكونت وتطورت بفعل الثقافة الأوروبية أيضا.
وها هو ذا فضل آخر لوجود نجيب محفوظ فى إيطاليا، فقد أصبح هو المعيار الذى يمكن القياس عليه، ولم تعد القوانين الأدبية الأوروبية ولا الذائقة الغربية هما الفيصل فى الانتقاء.
قبل نجيب محفوظ كان المترجم خلال خمسين سنة، من سنوات الأربعينيات،
- وهى تلك التى بدأ فيها الالتفات إلى الإنتاج الأدبى العربى فى إيطاليا - قليلا متناثرا، بواسطة قليل من المستعربين كانوا يهتمون أيضا بالمنتج الأدبى العربى بعد أن كانت جل أعمالهم السابقة لغوية وفقه لغة، ولعل قائدهم فى هذا هو فرانشيسكو جابراييلى، الذى ترجم إلى الإيطالية ألف ليلة وليلة وليلة لأول مرة كاملة وعن اللغة العربية مباشرة .
لقد أيقظ فوز نجيب محفوظ بجائزته العالمية دور النشر الإيطالية من سبات طويل، ودفعها للانتباه إلى وجود أدب راق يستحق أن يترجم هو الأدب العربى . هذا الاستيقاظ كان له أثر فعال فى الزيادة الكمية للأعمال المترجمة، ولكن كان له أيضا أثر معادل لتأثيرات سلبية محتملة لظاهرتى الهجرة والإرهاب.
كما أن ترجمة محفوظ قد أوجدت «الزبون» الذى تمكنه قراءة الأدب الروائى العربى، وهذا الزبون هو الذى شجع على ترجمة أدباء عرب آخرين، وليس فقط مصريين، وهذا فضل آخر للوجود المحفوظى فى إيطاليا.
يمكننا يقينا أن نتحدث عن عصر ما بعد محفوظ فيما يتعلق بالوجود الأدبى العربى فى إيطاليا، وهو وجود لا يقتصر على النشر وحسب، إنما أيضا على الفوز بثقة القراء، ومن ثم الحصول على الجوائز الأدبية الكبرى، والحرص على التواجد الأدبى العربى فى التظاهرات الأدبية المهمة. على أننا نلفت النظر هنا إلى ظاهرة انتشرت أيضا بعد هذه النقلة النوعية فى الاعتراف بالأدب العربى وترجمته إلى اللغات الأوروبية ومنها الإيطالية. ويتعلق هذا التغير النوعى بأسلوب الكتابة الجديدة للمؤلفين العرب، والذين ربما لم يستوعبوا درس محفوظ جيدا، محفوظ الذى وصل إلى العالمية عن طريق حوارى الجمالية وأزقتها، فبدأوا يميلون فى كتابتهم إلى تبنى الفكر الغربى شكلا ومضمونا، وفى بعض الأحيان لغويا أيضا، ظنا فى أنه يمكن إمساك «الزبون» عن طريق تقديم «الطبخة» التى يحبها، غافلين عن أن هذا الزبون الأجنبى إنما يقبل عليك لاختلافك، ولو أراد ما يوافق ذائقته لوجده بين أطراف أصابعه.
وإذا كان محفوظ قد فتح أكثر الأبواب احتراما أمام الفكر العربى، وهو الباب الأدبى، والذى يعنى بالضرورة، الباب الثقافى الحضارى، ومثل هذا النوع من الاقتراب هو ولا شك اقتراب راق، يرفع الهامات ويرغم الآخر، حبا أو كرها، على الاعتراف بجدارتك، إلا أن هناك باباً آخر فتحته الأحداث للاقتراب من الثقافة العربية، وهذه المرة كان الاقتراب بلا شك كرها لا حبا، ورغم ما له من مضاعفات إيجابية، فإنه كان جرحا ينز صديدا دائما. هذا الباب الآخر هو الباب السياسى الذى فتحه ما يسمى 9/11 وهو الاسم الحركى لسقوط برجى نيويورك تحت وطأة ضربات إرهابية تم ربطها باسم الإسلام، ومن ذلك الحين ارتبطت الصفة «إسلامى» بالصفة «إرهابى»، حتى بدا أنه اقتران أبدى. أما المضاعفات الإيجابية لهذا الحادث فتمثل فى صحوة دور النشر الإيطالية لمتابعة الفكر العربى طبقا لمفهوم استشراقى قديم تجاوزه التاريخ، وهو المفهوم الذى ينحو إلى دراسة هؤلاء الذين يهددونك فى عقر دارك حتى يمكنك ردهم والانتصار عليهم. وهكذا رأينا اهتماما متصاعدا بالثقافة الإسلامية بصفة عامة والعربية على نحو خاص، مهما كانت ديانات أصحاب هذه الثقافة. حتى فى قراءة أعمال نجيب محفوظ بعد هذا التاريخ، أصبح البحث مركزا على استكشاف مناطق الضعف التى يمكن الطعن على الثقافة العربية من خلالها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، التركيز على مفاهيم مثل الجهاد، وحقوق المرأة، والحجاب، وما إلى ذلك.
وإلى جانب الأعمال الأدبية التى ترجمت لمحفوظ، ومن بعده لأدباء آخرين، مثل صنع الله إبراهيم، وجمال الغيطانى وغيرهما، وضعت وسائل الإعلام الإيطالية فى واجهة الثقافة العربية ما يطلق عليهم هناك اسم «الإمام»، وهم رجال دين لهم تكوين ثقافى لا يستطيع أن يعبر عن اتساع وعمق التراث الثقافى العربى.
أصبح الحضور الثقافى العربى أكثر قوة لعامل آخر، وهو هذه المرة اجتماعى، ويتمثل فى ظاهرة الهجرة، والتواجد المادى لمهاجرين كثيرى العدد فى قلب المجتمع الإيطالى، وهو وجود متمايز ثقافيا، يسعى على نحو مبالغ فيه أحيانا، ومستفيدا من تراث ديمقراطى محلى، إلى أن يدافع عن هويته الثقافية، والتى تجمدت عند أفكار فى معظمها سلفية. وأصبح لهذا الوجود مؤسسات اجتماعية، مثل مؤسسة المسجد، التى يمثلها الأئمة الذين ألمحت إلى وجودهم الإعلامى فى الفقرة السابقة. ومع هؤلاء المتمسكين بالهوية، ظهر جيل من الأدباء المهاجرين العرب فى إيطاليا، والذين توافقوا مع المجتمع، واكتسبوا هوية جديدة أكثر مرونة تستطيع أن تتعايش وتتعامل مع الثقافة المغايرة، أحيانا دون أن تفقد هويتها الأصلية، وأحيانا أخرى بالتخلى عن الهوية الأصلية. وهذه الظاهرة والتى سميت بفضل أبحاث مقارنة قادها البروفيسور أرماندو نيشى، من جامعة روما العتيدة، بأدب الهجرة، والذى يظهر ربما للمرة الأولى فى الأدب الإيطالى، رغم سابق وجوده فى الأدب العربى فى بدايات القرن العشرين، وكان لابد من أجل دراسة أدب الهجرة أن يدرس الباحثون الآداب العربية المحلية أيضا، وخاصة فى المراحل الأولى التى لم يكن واضحا فيها ما إذا كان الأدب الذى ينتجه المهاجرون قوميا أو هجرويا .
ومع البدء فى دراسة أدب الهجرة يستطيع الإيطاليون الآن أن يعرفوا كتّابا من جميع أنحاء العالم العربى. يكفى أن تتصفح قاعدة البيانات التى أعدتها جامعة روما باسم «بازيلى BASILI»، وهى اختصار حرفى لعبارة بنك بيانات الأدباء حول الأدباء المهاجرين الذين يكتبون بالإيطالية»، وسوف تجد فيها أدباء مهاجرين من مصر وسوريا والعراق وتونس والجزائر والمغرب، ولعل أشهرهم حاليا عمارة لخوص، الجزائرى الذى كتب رواية جميلة بعنوان «صدام حضارات فى مصعد عمارة بميدان فيتوريو « والتى تحولت إلى فيلم سينمائى مؤخرا.
استفاد الكتاب المهاجرون العرب أيضا من المكانة المحفوظية العالمية. فمن خلال لقاءات لى مع بعض المثقفين والطلاب الإيطاليين، استطعت أن أخرج بانطباع بأن متوسطى العمر هم أكثر شريحة قراء لأعمال نجيب محفوظ المترجمة إلى الإيطالية، وأن الشباب يعرفه، وإن لم يقرأ له الكثير، ولكنه يتعرف على الأدب العربى من خلاله. وبفضل هذه الأيقونة أصبح هناك انتباه أكبر لمحصول الأدباء المهاجرين.
ليس هذا وحسب، إنما أصبح رأى محفوظ مرجعا فيما يتداول الباحثون من دراسات فى الأدب المقارن والأدب الإيطالى، ففى بحث له عن تلقى مورافيا فى اللغة العربية قال الساندرو بوونتمبو: إن رأى محفوظ فى مورافيا يتجاوز حدود المجاملة حيث أكد فى حوار له مع التليفزيون الإيطالى لم يذع بعد، وتم تسجيله عام 1997، فى إطار مشروع تعليمى عالمى كان يهدف إلى جمع أعمال 400 مؤلف لهم وزن عالمى فى متحف افتراضى يضم أهم 400 عمل تاريخ الأدب والفكر العالمى، وسئل محفوظ عمن يفضل من أدباء العالم ومن كان له أكبر تأثير عليه بخلاف هيمنجواى وبروست وجويس وجوته وطه حسين والمنفلوطى، وهى الأسماء التى قال عنها محفوظ إن تأثيرها بديهى، قال محفوظ إن هناك أديبين أعجباه على نحو خاص وأشار إلى دانتى اليجييرى والبرتو مورافيا. واعتبار شهادة محفوظ ذات قيمة يعنى أنه أصبح من «السلطات» الأدبية التى لها وزنها، على المستوى العالمى أيضا، وذهاب التليفزيون الإيطالى الرسمى لاستطلاع رأيه، فى مشروع عالمى يضم أحد أعمال محفوظ أيضا، حتى قبل فوزه بجائزة نوبل العالمية، يعنى أن هناك وعيًا عامًا جمعيًا بقيمة هذا الأديب.
ولكننى أفضل أن أردد تساؤل الباحث الإيطالى الذى سبق ذكره للتو وهو يبحث عن تلقى مورافيا عند نقله للغة العربية، وأطبق هذا التساؤل على حالة نجيب محفوظ: كم يبلغ حجم معرفة نجيب محفوظ فى إيطاليا فعليا؟ وما الذى فهمه الكتاب العرب من أدبه؟ وعلى أى نحو؟ وما هى النتائج؟ وبالتالى ما هو التأثير الذى يمكن أن يكون قد حققه؟
حتى الآن، وبعد هذا الكتاب الذى يرصد تلقى محفوظ فى إيطاليا نستطيع أن نقول إن هذه الأسئلة تظل مفتوحة، لمزيد من البحث والدراسة، ولاسيما أن التأثير المؤكد لن يكون مدركا إلا بعد مضى زمن معتبر، يمكن بعده سبر هذا التأثير فى أعمال الأدباء الإيطاليين، ربما فى الأجيال القادمة.
ولكن يمكن القول بالتأكيد أن ما قُرِأ من أعمال نجيب محفوظ فى إيطاليا ليس قليلا، ففى موقع عنوانه «من ينصحنى بكتاب» جاء نجيب محفوظ من أكثر الكتاب الذين يُنصح بقراءتهم وسجل نحو 104 آلاف شخص إعجابهم بهذا الاقتراح. وفى موقع آخر يقوم بتسويق الكتب اتضح أن من قرأ رواية لمحفوظ قرأ باقى رواياته، بالإضافة إلى الاهتمام عموما بالقصة التاريخية. فى مكان آخر من الشبكة له نفس الغرض التسويقى، تصدره واحدة من أكبر دور النشر فى إيطاليا هى «فلترنيللي» جاء أن من يشترى رواية محفوظ «فى شوارع القاهرة» وهى الترجمة العربية لرواية «خان الخليلى»، والتى صدرت فى إيطاليا عام 2010، اشترى معها رواية «اليوم الذى جن فيه جنون ابنتى» لمايكل جرينبرج، ومن قرأ هذه الرواية قرأ أيضا «قصة حياة مايكل انجلو» والرواية التاريخية «المرأة السرية» لمارتا بونسكى. وهو ما قد يعنى أن المفهوم التلقائى الذى يظهر فى ذهن المتلقى لأدب محفوظ هو انتماؤه إلى جنس الرواية التاريخية، وربما كان السبب فى هذا الروايات الأولى له التى اتخذت من تاريخ مصر القديم مكانا للأحداث.
المستشرق الإيطالى الراحل سيرجو نويا نوزاده نويا كان من أوائل من قدموا نجيب محفوظ فى فترة مبكرة جدا من ظهور ترجماته إلى الإيطالية، وذلك بمناسبة تقديم ترجمة «زقاق المدق» التى ترجمها مستشرق كبير آخر هو باولو برانكا. كان «نويا» من المناوئين لأعمال محفوظ، ولم يكن يقدره حق قدره، وفى هذه المراجعة التى نشرها فى «الفهرست» عدد 7 لعام 1989 يلمح إلى شيء من هذا قائلا إن «فوز محفوظ بنوبل للأدب كان من شأنه أولا أن يثير نقاشا حول من يستحقها مثله أو أكثر منه، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن».
ورغم هذه المناوءة البادية فإن «نويا» يعترف بأن النهضة الأدبية التى شهدتها مصر على نحو خاص، لأسباب خاصة بها، من ابتعاد عن الإمبراطورية الفرنسية ومشروع نهضوى وتاثر بالفرنسيين إبان حملتهم عليها، أن هذه النهضة الأدبية وصلت إلى أوجها عند نجيب محفوظ. هذه الخصوصية الثقافية لمصر سمحت لمحفوظ بأن يبتعد عن القصص التاريخى الذى بدأ به حياته، وأن يهتم أكثر بالواقع اليومى لبلاده بصفة عامة ومدينته القاهرة على نحو خاص. ويمضى «نويا» فى تحليل أعمال نجيب محفوظ فى عجالة لا تخلو أحيانا من همز، كأنما يشير إلى أن أعماله لا تنتظم فى مشروع محدد الملامح، فيقول:
«فى هذا البحر الذى لا يجف من وجوه وأصوات وقصص، التى تقف على خيط رفيع بين التقاليد الإسلامية العتيقة والتحولات الحديثة، راح نجيب محفوظ يصيد بيديه كلتيهما لإعطائنا صفحات شديدة التلقائية فى أعمال مثل «زقاق المدق»، وحتى يرسم لوحة جدارية للبرجوازية المصرية بعد الحرب العالمية الثانية، وهى اللوحة الشهيرة باسم «ثلاثية». ليس من قبيل المصادفة أن البيئة الحضرية والطبقة المتوسطة هما اللتان فرضتا نفسيهما بطلين للسرد عن نجيب محفوظ: الطبقات الوسطى الناشئة التى لا تجد لنفسها موقعا دقيقا فى الواقع سريع التطور تعيش حالة انفصال عن أنماط الحياة التقليدية مثل طبقات الفلاحين، ولكن خلافا لهذه الطبقة الأخيرة وجدت هذه الطبقات فى مؤلفين مثله الوسيلة التى من خلالها تستطيع التعبير عن متاعبها.
تعد رواية «زقاق المدق»، فى الترجمة عن العربية لباولو برانكا، أصلا لهذا الخط، وهو الذى أعطى فيها المؤلف المصرى أفضل ما عنده، ليصبح بالنسبة للقاهرة ما كان ديكنز بالنسبة للندن، وزولا بالنسبة لباريس، ومن المؤكد أنه هو الخط الذى عرف به المؤلف سواء فى الداخل أو فى الخارج. إن موضوعاته الرئيسية، حتى وإن لم تصبح بعد منصهرة فى مشروع واسع المتنفس، موجودة كلها فى هذه الرواية: الواقع اليومى للتجار الأغنياء وأصحاب المتاجر الصغيرة راسخة الجذور، الحريصة على ممارسة الطقوس الدينية، وغير المستعدة للانزعاج من الأحداث الكبرى للتاريخ رغم وجودها فى خلفية الأحداث؛ مع تململ الأجيال الجديدة الراغبة فى الهرولة خلف سراب حياة مختلفة مدفوعة بالطموح أو متورطة على مضض فى سلسلة من الأحداث؛ إضافة إلى العينة الواسعة من حالات البؤس والضعف الإنسانى التى وصفت بالتفسيرات الاجتماعية، دون نية الدخول فى الوعظ الأخلاقى. وفى هذا الصدد، تنبغى الإشارة إلى شجاعة المؤلف فى معالجته لموضوعات مثل الشذوذ الجنسى والدعارة التى قوبلت بمقاومة غير قليلة.
البطل الحقيقى هو البيئة حيث تتشابك الأفعال الفردية للشخصيات معا فى نوع من الفسيفساء، ولكن دون أن تنفصل أية شخصية عن المشهد الذى تدور فيه الأحداث.»
ويمضى نويا فى تقديمه للرواية بسرد موجز لأحداثها ويذهب إلى أن محفوظ قد نجح فى المشاركة عن بعد، وهو مشاركة واعية وساخرة، تسمح له ألا يستخدم الواقع الذى يصفه كرموز باردة وحسب، ولكن تعبيرا عن الواقع كما هو، وفيا للمفهوم المعروف فى الثقافة العربية، والذى يقول إنك لو أردت أن تسجل حدثا فاكتبه فى قصيدة، وفى رأيه أن محفوظ يرى نفسه شاهدا استدعى لكى يكتب الأحداث التى قام بها أهله وقامت بها مدينته. المخططات السردية التى يشير إليها نويا فى مراجعته لترجمة باولو برانكا تتعلق بمجمل أعمال محفوظ، وهو لم يشر إليها صراحة، إنما إذا أخذنا بما سبق وأن قرره من أن المؤلف يدفع بالحدث عن بعد ويشارك فيه بسخرية، وأن الأحداث الصغيرة للشخصيات الفردية تتشابك معا لكى تكون موزايكو هو فى الحقيقة النسيج السردى للرواية المحفوظية، إذا اعتبرنا هذا الكلام «العام» مخططا سرديا، فلن نستطيع أن نعمم هذا المخطط على مجمل أعمال محفوظ، فذلك المخطط، فى حقيقة الأمر، يتم البحث عنه فى كل رواية على حدة، أو بالأكثر فى كل مجموعات روايات. ففى الثلاثية مثلا نجد شخصيات مركزية تتولى هى دفع الحدث وتطويره، مثل شخصية «السيد» وهى ولا شك شخصية مركزية تبدأ الرواية به وتنتهى بنهايته. وفى أولاد حارتنا، يتصاعد الحدث متناسبا تصاعدا «جبليا» حتى يصل إلى القمة، وهكذا يمكننا اختبار مخططات أخرى فى روايات متعددة، بغض النظر عن الإنتاج الأدبى الأخير لمحفوظ، والذى يتجاوز المتابعة الزمنية للمرحوم «نويا». والذى يضع محفوظ مع باقى الكتاب العرب فى كتاباتهم المسرحية تأثرا بكافكا، وخاصة فيما يزعمه من تيمات التهميش والعجز عن التواصل، وهو التأثر الذى يمكن أن نعزوه إلى يونسكو وسارتر وكامى، فضلا عن بيكيت الذى شرح محفوظ مسرحيته «اللعبة» فى مقال نشر بجريدة المساء .
تحية الاستقبال
لابد هنا من كلمة شكر للمستعربة الإيطالية الكبيرة إيزابيللا كاميرا دافليتو، فقد بدأت منذ عشر سنوات (أى 2001 ) بناء موقع بعنوان Arablit.it خصصته للدراسات العربية فى إيطاليا، وخصصت صفحة تقدم فيها نجيب محفوظ للقارئ الإيطالى، وهو مجهود ليس له مثيل فى أوساط المستعربين الإيطاليين، ويكفيها هذا المجهود الجبار الذى اختتمته بإصدار مجلة علمية محكمة عن الأدب العربى، صدر العدد الأول منها عام 2011، يكفيها حتى تستحق أن نرفع لها القبعة، ومع ذلك فلها جهد أكبر فى العناية بأدب العرب، وتقديمه على أفضل صورة، ومعها فريق كامل من المستعربين المتميزين. وهى أستاذ «أستاذ كرسى» فى «الأدب العربى الحديث» فى «كلية الدراسات الشرقية» بجامعة روما «La Sapienza» – كما أنها عضو لجنة تحكيم فى الجائزة الدولية للرواية العربية (بوكر) وعضو لجنة الدراسات العليا والدكتوراه فى بحوث حضارة، وثقافات ومجتمعات آسيا وأفريقيا بجامعة روما La Sapienza (2010-2011). وعضو فى لجنة الدكتوراه فى بحوث ثقافات البحر المتوسط بجامعة روفيرا اى فيرجيلى، تاراجون (إسبانيا) وعضو اللجنة العلمية لمجلة «أورينتى موديرنو» ( تصدر فى روما، عن المعهد الشرقى).
وتكريما لها واعترافها بجهدها الخلاق فازت بعدة جوائز منها جائزة كافور جرينزانى للترجمة عام 2006، والجائزة القومية للترجمة التى يقدمها المجلس الأعلى للترجمة بمصر عام 2006. و»جائزة سان جيرولامو للترجمة-عام 1995.
أما اهتماماتها البحثية فهى متخصصة فى الأدب العربى وعملت مع العديد من دور النشر الإيطالية لترويج الثقافة العربية فى إيطاليا. ومنذ عام 1993 وهى تدير تحرير سلسلة الكتاب العرب المعاصرين بدار نشر «جوفنس» التى نشرت حتى الآن أربعين رواية عربية فى إيطاليا. كما حاضرت فى عدد من الجامعات الأوروبية والعربية، وشاركت فى مؤتمرات كثيرة حول الأدب العربى المعاصر فى جامعات ومعاهد إيطاليا والعالم. كما اختيرت عضوا فى مشروع «ذاكرة المتوسط» الذى تروج له المؤسسة الثقافية بأمستردام، فضلا عن كونها عضو دائم بالجائزة الإيطالية القومية للترجمة، وجائزة الشارقة للثقافة العربية بإشراف اليونسكو.
إن عالمة بهذا الحجم لابد أن يكون لها كلمة مسموعة، ومن ثم فهى تستشار غالبا من دور النشر حول ما ينشر وما لا ينشر، وتستضاف فى أجهزة الإعلام والصحف لكى تدلى بدلوها فى القضايا المهمة التى تخص العالم العربى، فضلا عن أنها تكتب مقالا ثابتا عن الثقافة العربية بمجلة الدوحة العربية.
وعندما تكتب إيزابيللا عن الأدب العربى، وتتولى هى تقديم شخصية مثل نجيب محفوظ فإنها سوف تمثل مصدر «ثقة» من جانب المطلع والمثقف والباحث والقارئ العادى الذى يبحث عما يقرأ، وهى فضيلة موجودة لدى القارئ الأوروبى بصفة عامة، والقارئ الإيطالى أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.