أحسنتْ هيئة قصورالثقافة بإعادة طبع (تاريخ مصرمن خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع) إعداد وتحقيق عبدالعزيز جمال الدين عام 2012وذلك للأسباب الآتية : أولا: أنّ المخطوطة لم يكن الاطلاع عليها ميسورًا ، إذْ ظلت لعدة سنوات في دارالكتب وبعض المكتبات العامة ، وبالتالي لم تحظ بالانتشارالجماهيري . ثانيًا : أخذتْ المخطوطة قدرًا من الانتشارالنسبي بعد طباعتها في دارنشرخاصة عام 2005، والانتشارالنسبي سببه أنّ الثمن كان 700جنيه وهومبلغ لاتقدرعليه الغالبية العظمي من شعبنا . ثالثا : أنّ هيئة قصورالثقافة طرحت المجلدات العشرة بسعر70جنيها قبل الخصم. رابعًا: الجهد الخارق الذي بذله المحقق في مراجعة المخطوط . وهذا الجهد يتمثل في صعوبة القراءة ، إذْ أنّ ساويرس اختارأنْ يكتب باللغة العربية ، وهي ليستْ لغته القومية (اللغة القبطية) مثله مثل كبارالمتعلمين الذين ينحازون للغة المحتل، كما فعل مانيتون عندما كتب تاريخ الأسرات المصرية بلغة المحتل اليوناني ، وكان يجب عليه أنْ يكتب بلغته القومية (الديموتيكية) ولأنّ ساويرس كتب بلغة أجنبية ببنية اللغة القبطية، لذلك اختلفتْ لغته عن كتابة اللغة العربية المُتعارف عليها حاليًا ، وهوالأمرالذي وعاه المحقق وأشارإليه من أنّ ساويرس انحاز بشكل لاشعوري لبنية لغته القومية ، مثل حذف الألف من واوالجماعة ، وتفضيل التاء بدل الثاء فيكتب (تبتوعلي) ويقصد أكدوا علي. و(قايلين) بدل قائلين. ورفضَ التاء المربوطة فكتب (باليه) بدل بالية. و(دايمه) بدل دائمة. و(أنا البايس الخاطي) بدل البائس الخاطئ. و(متل) بدل مثل . و(تلته) بدل ثلاثة. وأنّ بنيامين (كان أكثرقراءة) ويقصد أكثرقراءته إلخ. هذه الصعوبة تغلب عليها المحقق بفضل وعيه بالمظاهراللغوية المشتركة بين اللغة القبطية ولغتنا المصرية المنطوقة حاليًا. خامسًا : الجهد العلمي الجاد والشاق الذي بذله المحقق في مقارنة التباين بين المؤرخين. فكتب عن الغزوالفارسي أنّ (من عادة الكتّاب الذين كتبوا عن هذا العصرأنهم دائمًا يذكرون فتح الفرس كأنه حادث واحد يجعلون له تاريخ سنة واحدة. ومعني هذا أنهم يعجزون عن أنْ يُميّزوا بين غزومصروبين فتح الإسكندرية) وقد ساعده علي ذلك أنه كما ذكراعتمد علي مراجع تاريخية مختلفة الأنواع كثيرة العدد ففيها اليوناني والأرمني والسرياني والعربي والمصري كما أنه قرأ ماكتبه المستشرقون مثل العالم (جلزر) الذي كتب عنه (إننا وإنْ اختلفنا معه نفعل ذلك وفي نفوسنا كل الاعجاب بمؤلفه النفيس غزيرالعلم دقيق البحث) وعن الخلط بين المؤرخين في اسم (قيرس) كتب أنّ النسخة المخطوطة في المتحف البريطاني لكتاب ساويرس ذكرت قيرس أسقف سفنوش بينما نسخة القاهرة تذكر(نيقوس) وهذا حق أما المقريزي فذكربطوس بدل قيرس وعن عدد العرب الذين غزوا مصركتب اختلف الرواة في عددهم فقال ابن عبدالحكم 4000وقال البلاذري عشرة آلاف أواثني عشروقال ياقوت اثني عشر. وذكرالمقريزي نقلا عن الكندي خبرًا رواه يزيد أنّ جيش عمرو كان خمسة عشروخمسمائة. وقال السيوطي اثني عشر، وهومارآه المقريزي وقال إنّ كتيبة منها كانت مع الزبيرعددها 4000وهذا يُفسرالسبب الذي جعل مؤرخي العرب يقولون إنّ العدد كان 4000 ومن العجيب أنّ حنا النيقوسي قال أيضًا4000 وكان تعقيبه أنه لايوجد نوع من الخلط إلاّ وقع فيه كتّاب العرب، وعلي ذلك فليس عجيبًا أنْ نري المقريزي يؤرخ للعدد باثني عشرألف مع وصول المدد مع الزبيرعندما كان العرب في حصن بابليون وعن أسماء المدن المصرية ذكرأنّ الطبري كشف عن خطئه بوصفه عين شمس بأنها كانت مدينة عظيمة في بلاد القبط وأنها واقعة في الغرب ، ومعني هذا إما أنها في غرب النيل أوغرب مصرالسفلي ، بينما عين شمس لايمكن أنْ توصف بأحد هذين الوصفيْن وعلي ذلك فالظاهرأنّ الوصف السابق هو وصف بعض المواقع التي كانت فيما بين بابليون والإسكندرية. وكانت غلطة الطبري سببًا في خلط كثيرمن مؤرخي العرب مثل ابن الأثير وابن خلدون.. إلخ، وعن حصن بابليون قال مؤرخوالعرب إنّ جند الحصن كانوا من القبط في حين أنّ القبط لم يكونوا في شيء من القتال ولا الجيوش . وكان الاضطهاد في مدة السنوات العشرشطرمذهبهم وفرّقهم وذهبوا إلي الجبال والكهوف والأديرة. أما أقباط مصر السفلي وبابليون والإسكندرية فقد اضطروا إلي الدخول في مذهب الدولة. ومؤرخوالعرب كتبوا بعد الفتح بقرون فكانوا يذكرون جيوش المصريين وقادتهم ولايُميّزون بين القبط والروم ، فكثرت زلاتهم وعظم خلطهم وعن اسم (وردان) ذكر أنّ اسمها لايزال محفوظا في قرية علي الجانب الغربي للنيل وعنها ذكرالمقريزي وكان عمرو حين قد توجه إلي الإسكندرية خرّب القرية التي تُعرف اليوم بخربة وردان.. وهي خراب إلي اليوم وأنّ السيوطي جمع بعض الأخباروهويجهل ترتيبها التاريخي الصحيح. وفي تواريخ غزوالعرب لمصررجع إلي ابن عبد الحكم، البلاذري، ابن قتيبه، الطبري، أبوصالح، ياقوت (ويعتبره كاتباً عظيم الشأن)، ابن خلدون، المقريزي، أبوالمحاسن، السيوطي، وعندما يقرأ ماكتبه أحد المستشرقين فإنه يقرأ بعين العالم المحايد مثلما فعل مع المستر(بروكس) الذي اختلف معه. ونفس الشيء حدث مع المؤرخ (لين بول) وخلص المحقق إلي نتيجة هي أنه إذا استبعدنا من وثائق التاريخ القديم كل ماتشوبه الخرافات أوتتخلله الأخطاء ، وإذا نحن أغفلنا تلك الوثائق فلم نعتد بدلالتها ، لم يبق لنا إلاّ القليل في أي باب من أبواب التاريخ . ونقول غيروجلين أنّ أخباردواوين تراجم البطاركة صادقة في جملتها فيما تنص عليه من أخبارالتاريخ وقد ثبت ذلك وخلص من كل شك وذكرأنّ البعض أخطأ عندما توهّم أنّ ماكتبه ساويرس عن تاريخ البطاركة والكنيسة المصرية لا يرتبط بتاريخ مصر. وأنّ ساويرس اشترك مع مؤرخي العرب عندما سرد الأساطيروالخوارق والكرامات إلخ . سير البطاركة وعن كتاب ساويرس ذكر أنّ المخطوطات الموجودة الآن لكتاب (سير البطاركة) تتوزع مابين محفوظة بالمتحف القبطي وفي مكتبة البطركية. والمكتبة الوطنية في باريس والمتحف البريطاني ومكتبة الفاتيكان وصورة فوتوغرافية لمخطوطة المكتبة الوطنية بدارالكتب المصرية. ونشرالمستشرق «إفتس» كتاب ساويرس وتولتْ الجمعية القبطية نشرالأجزاء الباقية بمعاونة أ. يس عبدالمسيح. ونشرتْ الجمعية القبطية الجزء الأول من المجلد الثاني عام 48إلخ وبينما تنتهي مخطوطة ساويرس عند أواخرالقرن العاشرالميلادي فإنّ أ. عبدالعزيزجمال لم يكتف بدورمحقق المخطوطة ، إنما أجهد نفسه ليؤرخ للفترة التالية من تاريخ مصر، أي منذ القرن الحادي عشرإلي نهاية القرن العشرين ، هذا بخلاف الفصول الأولي من الجزء الأول ، إذْ أسهب في شرح تاريخ الغزواليوناني ثم الغزوالروماني ، الأمرالذي جعل نسخة هيئة قصورالثقافة بأجزائها العشرة تزيد عدد صفحاتها علي أكثرمن17000صفحة من القطع الكبير. موقف مانيتون وساويرس ولأنّ أ. عبدالعزيز جمال خطط لنفسه أنْ يكون تحقيقه لكتاب ساويرس مجرد فصل من فصول تاريخ مصر، وأنّ هذا التاريخ به الكثير المسكوت عنه وبصفة خاصة الفرق بين كبارالمتعلمين المصريين الذين كانوا أول من رحّبوا بالغزاة ووقفوا معهم وتبنوا دينهم ولغتهم ، وبين الأميين الذين حافظوا علي دينهم القومي ولغتهم القومية. والمثال الأشهرلذلك موقف مانيتون بن سمنود ، وموقف ساويرس . ولأنّ المتعلمين ليسوا كتلة واحدة ذكرالمحقق ماحدث في عهد البطالمة. إذْ كانتْ طيبة (الأقصر حاليًا) مصدر ذعر لجميع ملوك البطالمة. لأنّ طيبة بوصفها مركزعبادة آمون كانت معقلا للحركات القومية بزعامة الكهنة المصريين ضد الغزاة الأجانب وذلك عكس المتعلمين الكبارفي أحداث ثورة البشمورإذْ وقف بطرك الأقباط الأنبا يوساب مع الخليفة المأمون في قمع الثورة ، مرة بالخطب لاقناع الفلاحين بالتخلي عن التمرد وطاعة الحاكم ، ومرة بإرشاد جيش المأمون بقيادة الإفشين علي الأحراش التي كان يختبئ بها الثوار، ومنها يُنظمون دفاعاتهم ، فكان هذا الدورمن الأنبا يوساب ومعه القساوسة الأتقياء أهم أسباب القضاء علي الثورة التي قتل فيها الآلاف أما الأحياء من النساء والشيوخ والأطفال فتم أسرهم وسوقهم عراة حفاة ليُباعوا في أسواق بغداد. ورغم بطش الغزاة في قمع أي تمرد ضدهم فقد بقيتْ بعض البلاد في شمال مصرالسفلي (الدلتا) ترفع لواء مقاومة الغزاة العرب (ج2ص92) وعن غزوالإسكندرية فقد أخذ العرب المدينة عنوة ودخلوها يقتلون ويغنمون ويحرقون (ج2ص110) وعندما استمرالقتل حتي كاد يفني كل حي ، أمرعمروبوقف القتال رافعًا سيفه. وفي هذا المكان (كمتوالية تراجيدية) أمرببناء مسجد أطلق عليه (مسجد الرحمة) وما بقي من النساء استولي العرب عليهن كسبايا وفق منظومة (ملك اليمين) وعن الفتح / الغزوالثاني للإسكندرية الذي وقع بعد 23مارس 646فإنّ عمروبن العاص أحرق ودمّرجانبًا كبيرًا من أسوارها (ج2ص119) التزم المحقق بالمنهج العلمي فلم يُفرّق بين غزاة وغزاة وهوما أثبته عندما اضطهد القساوسة الأتقياء المصريين المُتمسكين بالديانة المصرية التي وصموها بوصف غيرعلمي (وثنية) كما هدموا المعابد وحوّلوا بعضها إلي كنائس (ج2ص 279، 449) وهوما فعله العرب عندما حوّلوا الكنائس إلي مساجد ، في متوالية تراجيدية للتعصب الديني. هذا الجهد الخارق الذي بذله أ. عبدالعزيزجمال في رصد تاريخ مصرمنذ غزوالإسكندرعام 332ق.م إلي نهاية القرن العشرين الميلادي ، كان مصيره الرجم من المُتعصبين عرقيًا ودينيًا ، المُتمسكين بإقامة معتقلات للمعرفة، المُمسكين بسلاح (الوصاية) الرافضين لأنْ يكون عقل الإنسان هوالحكم فيما يقرأ ، أكتب هذا بعد أنْ قرأتُ الهجوم الذي وجّهه الأصوليون والعروبيون ضد هيئة قصورالثقافة وضد المحقق. وإذا كنتُ لم أندهش من هذا الهجوم ، فإنني أحيي وأشد علي يد كل من ساهم في إخراج هذا العمل لشعبنا ، مع رجاء طبع موسوعة تاريخ الجبرتي التي حققها - أيضًا- أ. عبدالعزيزجمال. وأعتقد أنّ نشرهذا التراث هوالمدخل الطبيعي لبدء مسيرة (النضال الفكري) لمواجهة الحالمين بعودة عصرالكهوف.