إن حجم المشكلات المتراكمة من العهد البائد لا ينبغي أن تؤثر في تكوين رؤية سوداوية للمصريين نحو مستقبل هذا الوطن، فهذه المعضلات الحياتية التي توجهنا جميعا هي نتاج ثلاثة عقود من حكم الطاغية مبارك ورفاقه من اللصوص الذي نهبوا ثروات مصر. ولقد كشف العديد من علماء الاجتماع عن حقيقة الواقع الاجتماعي المصري في عهد الديكتاتور المخلوع مبارك، إلي ان الفقر في مصر هو محصلة للعلاقات الاجتماعية - الاقتصادية غير المتكافئة للإنتاج والتوزيع، وأن تراكم الثروة في جانب واحد لا يعني سوي تراكم البؤس والإفقار في الجانب الآخر . وأن الثروة الضخمة للطبقات المسيطرة بدءا من الطاغية مبارك ومن معه من حاشيته الفاسدة، جاءت من خلال الاستغلال المكثف للعمل المأجور. وأن تلك هي الحقيقة في مصر في ظل سياسات تدعم السوق الموجه للاقتصاد الرأسمالي والبطالة وانخفاض الأجور، تتجسد سمات مجتمع القبح الرأسمالي المعاصر. استئصال الفقر واليوم لا يمكن استئصال الفقر بسهولة، مادام هناك توزيع غير متكافئ للثروة، تلك الثروة التي خلقتها الطبقة العاملة، وانتهت إلي أيدي أصحاب رأس المال، فيذهب منها جزء ضئيل إلي العمال في شكل أجور - وتكاد الأجور لا تتجاوز الحد الأدني من الضرورات المادية اللازمة لإعادة إنتاج العمل - بينما المغانم تذهب إلي جيوب الرأسماليين في شكل أرباح . تلك الحقيقة السوسيولوجية يعكسها مضمون التقرير الصادر مؤخرا عن الإدارة العامة لمباحث الأموال العامة والذي نشرته الأهرام عن زيادة أعداد الهجرة غير المشروعة للشباب المصري إلي دول الاتحاد الأوروبي للعمل برغم الأزمات الاقتصادية العالمية في عدد من تلك الدول . إلا أن الهجرة غير المشروعة زادت بعد قيام ثورة25 يناير لأسباب منها انخفاض مستوي المعيشة وانخفاض حالة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعدد من البسطاء بالقري والمراكز بعدد من المحافظات, إذ بلغت أعداد الشباب المرحلين من دولة ايطاليا الي مصر عام2011 نحو1123 شابا ومن دولة اليونان نحو201 شاب وبلغ عدد الحالات التي تم احباط محاولات الهروب فيها نحو44 عملية هجرة تضم 1283 شابا، أما عام2010 فبلغت أعداد الشباب المرحلين من ايطاليا438 شابا ومن اليونان73 شابا والحالات التي تم احباطها27 حالة تضم521 شابا. إن تلك الأوضاع لا ينبغي أن تجعلنا ننظر إلي مستقبل مصر بعين الانكسار والهزيمة ولا ننظر إلي المستقبل بعين التفاؤل الساذج بل علينا أن ننظر إلي واقع ومستقبل المجتمع المصري بعين ثالثة. التجربة الصينية وأعني بذلك النظر إلي تجارب الشعوب النامية في الجنوب التي سلكت مسارات تنموية رائعة خلصتها من قيود التخلف وعلي رأس البلدان النامية، التجربة الصينية في النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي أيضاً . وتعد التجربة الصينية واحدة من التجارب الإنسانية العملاقة في القرن الحالي، فقد تركت بصماتها علي مسيرة العالم بعد أن أحدثت تحولات جذرية وعميقة في حياة شعب يصل تعداده إلي خمس سكان العالم . وبعد مرور 16 عاما علي الإصلاح وانفتاح الصين علي العالم، أصبح للصين تجربتها الفريدة التي قدمت بريقاً من الأمل لدول العالم الثالث بوصفها نموذج تنمية استطاع أن ينمو باستقلالية وبغير انعزالية، وهو ما أذهب إليه بأن الذي سيعيد بناء الدولة المصرية القوية والمجتمع المصري الناهض هم المصريون أنفسهم وليس حفنة المساعدات المقدمة من بعض الدول العربية أودول الاتحاد الأوروبي أو الولاياتالمتحدةالأمريكية . وتسعي الصين للخروج من العالم الثالث، وتخطط بالفعل لأن تكون دولة ذات ثقل دولي، ولكن بخطوات سياسية منتظمة، وتبدأ من الداخل حيث إنها تسير في طريق التنمية وتتبع نظاماً مستقلاً مفتوحاً في تنمية قوي الإنتاج في ضوء المعطيات الجديدة في العالم . وتنتهج ما تسمية " السوق الاشتراكي " . وتحاول أن تستكمل بناء نفسها من الناحية التكنولوجية وتحقق التحديث الاشتراكي في أربعة قطاعات حيوية هي الصناعة والزراعة والعلوم التكنولوجية والدفاع . وبذلك تحاول الصين أن تشعل شمعة النهضة الصينية من طرفيها بين الاشتراكية والرأسمالية من خلال إدماج المفهوم الصيني للاشتراكية مع المفهوم الغربي للرأسمالية . ذلك علي الرغم من التزايد المطرد في عدد سكان الصين، يرغمها علي إطعام ما يزيد علي ربع سكان العالم، علاوة علي ما بين 13 و15 مليون مولود جديد كل عام، ويكفي أن نعرف أن الصين، خلال عقد واحد، تضيف خلال جيل واحد عددا يماثل عدد سكان الولاياتالمتحدة . وإليك بعض الأمثلة فقط لما تعنيه هذه الأرقام، بالنسبة للحياة اليومية للناس . توجد بين المشروعات المملوكة للدولة في الصين 500 مشروع، توظف أكثر من 100 الف نسمة - لكل مشروع - وهذا ما يساوي اربعين مثلاً لعدد الشركات التي تماثلها في الحجم في الولاياتالمتحدةالأمريكية . كل عام لابد أن ينشئ الاقتصاد الصيني ما بين 10 أو15 مليون وظيفة جديدة، وهو ما يعادل ضعفا أوثلاثة أضعاف ما تنشئه آلة الوظائف الإعجازية في الولاياتالمتحدة . والشيء المذهل أن قادة الصين يعملون ذلك الآن . عدد المدن الصينية التي يزيد تعداد سكانها علي مليون نسمة، يزيد علي إجمالي عدد المدن المماثلة في بقية العالم مجتمعة، ومن المتوقع أن تظهر خلال العقد التالي ثلاثون مدينة إضافية مقاطعة واحدة هي مقاطعة سيكوان، يمكن أن تحتل الترتيب السابع بين أكثر المناطق في العالم، من حيث تعداد السكان، إذ أن حجمها مثل حجم فرنسا وبريطانيا معاً، وهناك تسع مقاطعات صينية، تحتل كل منها أعلي مرتبة بين عشرين بلدا، هي أكثر بلدان العالم ازدحاماً بالسكان . عدد المستهلكين من أبناء الطبقة الوسطي، من سكان الحضر في الصين، أكبر من عدد أبناء الطبقة الوسطي في الولاياتالمتحدة، ويزيد عدد الموظفين الحكوميين كثيراً علي مجموع سكان بريطانيا. ويزيد عدد أعضاء الحزب الشيوعي علي مجموع سكان كاليفورنيا ونيويورك معاً . ويصل عدد الفلاحين في الصين إلي أكثر من مجموع سكان شمال أمريكا وجنوب أمريكا والاتحاد الأوروبي . مع ملاحظة أن عدد الذكور سيزيد بحوالي 45 مليوناً عن عدد الإناث ونحن لا نزال في بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ويقارب هذا الرقم عدد مجموع سكان أكبر 47 مدينة أمريكية ممن يترقبون الزواج . شهية الصين إلي الطاقة أكبر حجماً من أي دولة أخري، إذ يقدر برنامج الأممالمتحدة للتنمية أن الصين ستحرق 3.1 بليون طن فحم سنوياً بحلول 2020، ولذلك سوف تستهلك الصين في العام الواحد كميات من الفحم، أكثر من كل ما حرقته الولاياتالمتحدة، منذ بدايات الثورة الصناعية فيها . العملقة لها أعباؤها وضريبتها دائما، بما في ذلك بؤس البشر ومعاناتهم . وبيلغ عدد المعاقين الصينيين أكثر من إجمالي تعداد فرنسا والمعروف ان الفيضانات شردت خلال عام واحد، أعدادا كبيرة جديدة، تزيد علي أعداد كل سكان المدن الأمريكية مجتمعة . تضم الصين الآن 30 مليون متقاعد، وثمة مؤشرات إحصائية تشير إلي أن هذا العدد سيكون أربعة أمثال هذا الرقم بحلول عام 2025، معني هذا أن عدد من سيبلغون الستين فأكثر، في هذا التاريخ، سيماثل عدد نظرائهم في كل بلدان العالم. ان الصين لديها ارادة سياسية قوية لمواجهة كل تلك العقبات التي من شأنها أن تكبل اي حكومة رشيدة في العالم عن مواجهتها، الصين تواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين ليس من خلال صفحة علي الفيس بوك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا من خلال تصريحات هستيرية عن الحرس الثوري ولا من خلال افكار وهابية ولم تقدم علي بيع القطاع العام بصورة عشوائية وتدمر قوة الدولة الاقتصادية، ولا من خلال رفع الأذان تحت قبة البرلمان، بل تواجه كل تلك التحديات من خلال الرغبة الصادقة للشعب الصيني بأن يستعيد تاريخة الحضاري المجيد .