هل الثورة (سؤال) أم (إجابة).. هل كانت سؤالاً وضعته الحتمية التاريخية أمامنا حتي نختبر صحة ما ندعو إليه من فرضيات وقناعات، ونقيس مدي ثقتنا في أنفسنا ومدي قدرتنا علي تحمل نتائج اختياراتنا في مواجهة اشتراطات الواقع وتحديات المستقبل، أم كانت هذه الثورات (إجابة) لكل الأفكار والأطروحات التي نادي بها الفنانون والمثقفون خلال عقود طويلة عبر صدامات وتحديات كثيرة مع المؤسسة والسلطة وعذابات الأمر الواقع!؟ والحقيقة أن الثورة في ذاتها هي سؤال وإجابة .. فهي سؤال يتضمن إجابة.. وإجابة تحمل بداخلها سؤال..! وهناك آراء كثيرة تتقاطع حول جدلية الفن والثورة.. وأي منهما أثر في الآخر أكثر؟.. هل الفن هو الذي حرض علي الثورة.. أم أن الثورة هي التي أطلقت عقال الفن والفنانين وحررتهم من القيود والأغلال..!! وهناك من يري أن الشارع قد أسقط النخبة عندما اخذ بيده زمام المبادرة بعد أن ظل المثقفون ينادون بها لعقود طويلة ولكن بلا طائل.. وأن وجود الجماهير في الشارع هو الذي حمي ظهر المثقفين وأنقذهم من بطش السلطة التي كان من الممكن أن تفتك بهم لولا صوت الناس الذي كان ومازال يزأر في الشوارع! بينما هناك من يري أن الثورة هي نتاج لموجات التحريض الفني والثقافي الذي قام بها الفنانون والمثقفون منذ عقود طويلة - عبر ما قدموه من معارض وأغان وأفلام وقصائد شعرية - والتي أدت في النهاية الي حالة من تراكم الوعي الجمعي الذي وحد بين ألوان الطيف المختلفة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، لكنها في لحظة وجودية معينة شعرت أن هناك قواسم إنسانية مشتركة تجمع بين الجميع.. عندها تحول تراكم الوعي الي فعل ثوري أعاد كتابة التاريخ! إن كل (فعل) يتضمن بالضرورة (رد فعل) ثم يصبح رد الفعل في حد ذاته هو فعل يتطلب بالضرورة رد فعل جديد . وهكذا يستمر ديالكتيك الحياة، وهكذا كانت علاقة المثقفين والفنانين بالثورة حيث بشروا بها في إنتاجهم وإبداعهم الفني . لكنهم في الحقيقة كانوا دائما يبشرون بفكرة التغيير علي المدي الطويل، لكن الشارع هو الذي اخذ زمام المبادرة وحول الفكرة المجردة الي فعل حي نابض علي الأرض، وأصبح هذا الفعل في حد ذاته هو مصدر إلهام جديد للفنانين والمثقفين ليستلهموه في إبداعهم (حامل البشارة) الثقافة هي الحل (.. الفن وحده يمكنه أن ينقذ العالم ..) هذا ما أكد عليه الروائي الروسي " ديستوفسكي " في روايته الشهيرة " الأبله " معليا من دور الفن وقدرته علي التغيير، في داخل كل فنان موهبة تطلق مارد الفن بداخله وتحرر بصره وبصيرته من أغلال الصمت والسكون ليري الجمال الكامن في ثنايا الكون المحيط، والثقافة دائما هي الحل .. فعندما تريد أن تغير قناعات إنسان فلابد أن تغير ثقافته ..!! والفنون بشكل عام والفنون التشكيلية بشكل خاص من اكبر المجالات التي لديها القدرة علي تغيير وعي الناس، فالفنانون طوال عمرهم متجاوزون لكل الحسابات والحساسيات .. وعابرون لكل هذه الصغائر، فلا أحد يسأل أحداً عن اعتقاده أو أيديولوجيته ولكن يسأل فقط عن فنه وإبداعه..!! إنه هو صراع دائم ما بين سلطة تسعي دائما الي تثبيت المشهد .. وبين مثقف يسعي دائما لتغييره ..!! فالمثقف / الفنان هو في حالة ثورة دائمة وحالة مستمرة من التمرد علي القبح والملل والرتابة، فدوره الأساسي الذي يلعبه دائما هو دور (المحرض) علي التغيير و (المبشر) بالثورة، والفنان الحقيقي يجب أن يبقي دائما علي يسار السلطة - أي سلطة - لأنه يحلم دائما بالأفضل .. ويدعو دائما الي التغيير وتجاوز الواقع الحالي الي واقع أفضل! فالثورة في جوهرها هي ( منهج ) فكري وفني وليست مجرد فعل انفعالي لحظي ..!! ويجب أن يتجلي هذا عند الفنان الحقيقي في سلوكه الإبداعي وسلوكه الإنساني أيضا، حتي تسود ثقافة التسامح وتقبل الآخر .. وحتي يستطيع أن يتجاوز اختبار الزمن ويبقي دائما في الوعي، ولعل أبلغ مثال يمكن ذكره في هذا السياق هو نموذج الفنانان يوسف كامل وراغب عياد ذلك الثنائي الذي يضرب به المثل دائما علي الصداقة والتعاون والمصير المشترك، عندما قررا أن يدرسا الفن في أوروبا بالتبادل - الأول يسافر والآخر يبقي في مصر يعمل ويرسل النقود له .. وهكذا! ونموذج الثنائي نجيب الريحاني وبديع خيري الذي لا يعرف أحد من المصريين من منهم المسلم ومن منهم المسيحي .. فقط هم مبدعون ضحكنا معهم وبكينا معهم ولنتأمل أيضا دير (الأنبا بولا) ببني سويف الذي يعد نموذجاً فريداً لشعار تعانق الهلال مع الصليب في مكان عبادة واحد، وهو أيضا شيء لا يمكن أن تجده في أي مكان في العالم إلا علي أرض مصر الطيبة التي لا تنبت إلا الخير.. فنحن جميعا نعيش علي نفس الأرض ونلتحف نفس السماء .. والرب الواحد يرعي الجميع!