ثمة ما يشير إلي انفلات زمام السيطرة علي أحوال البيئة في العالم، يغذيه عوامل كثيرة، منها الفساد الاقتصادي والإداري، والقرارات الفوقية التي تتجاهل مشاركة المجتمعات المحلية، بما يمكن أن توفره لدعم هذه القرارات من معلومات وخبرات. إن القرارات البيئية السيئة، التي تصنع بمنأي عن مشاركة كل الأطراف المعنية، وفي غياب عنصر الشفافية، ويقوم باتخاذها مسئولون يتعالون علي إمكانية أن يسائلهم أو يراجعهم أحد .. السبب وراء الأضرار التي حاقت بالأنظمة البيئية في العديد من المواقع بالعالم، فقد أصبح العامل الحاكم للبيئة الكونية هو ما يصدره البشر من قرارات تدير شئون هذه البيئة، وليس الظواهر والعمليات الطبيعية، من نحر وعواصف وزلازل وفيضانات ... إلخ. لقد تعهدت 178 دولة، في قمة الأرض الأولي - ريو 1992 - بالعمل علي تحقيق عدة مبادئ، وتعهدت بأن يكون صون البيئة مكوّنا أساسيا عند إعداد خطط التنمية القومية واتخاذ القرارات التنفيذية لتلك الخطط، غير أن الواقع يحدثنا بأن ذلك لايزال أملا بعيد المنال، فلاتزال الاعتبارات البيئية لا تجد لها مقعدا بالغرف المغلقة، التي تتخذ فيها القرارات المنظمة لأعمال التجارة والاستثمار وتنفيذ خطط التنمية. كما أن حكومات الدول الموقعة علي إعلان ريو 92 كانت قد وافقت علي أن تعمل بمبدأ اللامركزية، في إعداد وإصدار القرارات البيئية، غير أن الشواهد تقول بأنه - منذ انعقاد تلك القمة - لم يحدث، إلا في حالات نادرة، أن خوّلت الحكومات سلطة اتخاذ قرارات بيئية إلي السكان المحليين، الوثيقي الصلة بالأنظمة البيئية والعارفين بطبيعتها وأحوالها. الحصول علي معلومات كذلك الأمر بالنسبة لمبدأ إتاحة المعلومات للعامة، وهو من المبادئ الأساسية في إعلان ريو دي جانيرو، ويعطي هذا المبدأ للمواطن العادي الحق في الاطلاع علي المعلومات البيئية، ليشارك في اتخاذ القرار، كما يعطيه الحق في مقاضاة الجهات المسئولة، من أجل تعديل القوانين والقرارات الصادرة. والجدير بالذكر، في هذا المجال، أن معهد موارد العالم - بالتعاون مع 24 جمعية أهلية من مختلف أقاليم الأرض - كان قد أنشأ آلية خاصة، لمتابعة هذا المبدأ، أطلق عليها اسم (مبادرة حق الحصول علي المعلومات)، وقد قام المشاركون في تلك المبادرة بتقصي مدي الاستجابة لذلك المبدأ، في السنوات العشر التالية لإقراره، فوجدوا أن الفجوة لاتزال كبيرة، بين تعهدات حكومات الدول المشاركة في ريو - 92، والواقع .. فلايزال الناس، في معظم بلاد العالم، يجهلون ما تحمله مياه الشرب من مواد كيماوية، ولا يعرفون - تحديدا - ما تسببه لهم من مخاطر صحية، ولا يزال الناس، بمعظم بقاع الأرض، مغيبين عما يجري حولهم، في مجتمعاتهم الصغيرة، وهم قد يستيقظون في الصباح علي أصوات البولدوزرات، تشق طريقا علي بعد خطوات من حجرات نومهم، فإذا كانوا سعداء الحظ، فإن أخبار الطريق الجديد تكون قد وصلتهم متأخرة، بعد أن تكون خطط التنفيذ قد أعدّت، فإذا فكروا في اللجوء للقضاء، أملا في تغيير الوضع، فوجئوا بسلسلة من المعوقات، ليس أقلها تعقيدات إجراءات التقاضي وكلفتها العالية. وفي استقصاء للرأي، حول ظروف إتاحة المعلومات البيئية للمهتمين بالشأن البيئي في العالم، تبين أن 40% من سكان العالم راضون تماما عن القدر المتوفر لديهم من معلومات عن القضايا البيئية المثارة في مجتمعاتهم، وعن الفرص التي تتاح لهم للمشاركة في صنع القرارات الخاصة بتلك القضايا، وأظهر الاستقصاء رغبة ال 60%، غير الراضين عن الوضع الحالي، في أن تزداد قدرتهم علي التأثير في قرارات التنمية الاقتصادية، وبصفة خاصة في البلدان الأفريقية والآسيوية النامية، وهي قرارات ذات تأثير كبير علي صحة البيئة. والجدير بالذكر، أيضا، أن المنظمات الدولية المتعاونة في إصدار هذا التقرير (البنك الدولي - برنامج الأممالمتحدة الإنمائي - برنامج الأممالمتحدة البيئي - معهد موارد العالم)، بالإضافة إلي الاتحاد الأوربي، ودول : شيلي - المجر - إيطاليا- المكسيك - السويد - أوغندا - بريطانيا ، والاتحاد العالمي لصون الطبيعة، ومجموعات تمثل المجتمع المدني من مختلف أنحاء العالم، قد أنشأت - مجتمعة - آلية أخري، تعرف باسم (المشاركة من أجل المبدأ العاشر)، بهدف مساعدة الحكومات علي تحسين وتطوير سبل إتاحة المعلومات للمهتمين، من العامة، بقضايا بيئاتهم، وتسهيل إجراءات التقاضي، من أجل إصلاح الأوضاع البيئية، وتعديل القرارات المتصلة بالتنمية، والمؤثرة علي أحوال الأنظمة البيئية. العدالة البيئية إن الموضوعية تفرض علينا الاعتراف بأن انفلات زمام السيطرة البيئية من أيدي الحكومات ربما كان أمرا متوقعا، بالنظر إلي طبيعة أساليب الحكومات التقليدية في التعرض لمشاكل غير تقليدية، كمشاكل البيئة، وإلي طبيعة التحديات التي تواجه القائمين علي الإدارات الحكومية للأنظمة البيئية، فليست كل الأنظمة متشابهة في قياساتها ومكوناتها، ويتطلب كل منها تعاملا خاصا، وخبرات متنوعة، قد لا تتوفر لتلك الإدارات، في كل الأوقات والأحوال. ومن الصعوبات التي تضغط علي الإدارات البيئية الحكومية وتتحداها التنوع في منتجات الأنظمة البيئية، من سلع وخدمات، والتباين في مصالح من يستغلونها، بما يمكن أن ينشأ عن ذلك كله من نزاعات وتعارض في المصالح. إن عجز المؤسسات الحكومية عن إدارة الأنظمة البيئية والموارد الطبيعية، صونا لصحتها، وليس من أجل تعظيم العائد منها، وعن إيجاد توازن عادل بين الانتفاع بالموارد والكلفة الحقيقية للمنافع، وعجزها عن مواجهة الفساد الإداري والاقتصادي .. كل ذلك يؤكد أن الأداء الحكومي، فيما يخص السيطرة البيئية، كان يشوبه القصور إلي حد كبير. وكان أشد المتأثرين بهذا القصور المجتمعات الفقيرة، التي تعتمد علي الموارد الطبيعية اعتمادا كاملا، فأفرادها - في معظمهم - من الأجراء الذين لا يمتلكون حصصا في هذه الموارد، تعطيهم الحق في التدخل لإصلاح أحوالها لصالحهم. لقد تعلقنا، في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، بالعلم والتكنولوجيا، وأملنا في أن يقدما لنا حلولا لمشاكلنا البيئية، وفي الثمانينات والتسعينات، ركزنا علي اقتصاديات البيئة، لعل العامل الاقتصادي يوفر حافزا أقوي لإدارة بيئية أفضل. وقد يكون العلم والتكنولوجيا أفادا في اختيار وسائل إدارة مناسبة، وقد يكون الاقتصاد ساعد في تعظيم الفوائد .. إلا أنه يبقي تحقيق عنصر «العدالة»، وهو لا يتأتي إلا إن أحكمنا سيطرتنا علي أمور بيئاتنا. والعدالة عنصر مثير للجدل، ويرتبط ببعض التساؤلات، مثل ما الدرجة من الشفافية المطلوب توفرها في سياسات الطاقة القومية ؟ وكيف نوفق بين حق المواطن في التعرف علي الأخطار التي يحتمل أن تتعرض لها أسرته من مصانع الكيماويات، أو محطات توليد القوي النووية، القريبة من موقع منزله، واعتبارات الأمن التي تري أن نشر معلومات عن هذه المنشآت، علي الملأ، يجعلها متاحة - أيضا - لفرق الإرهاب ؟ وأمامنا الآن تقرير عنوانه : " موارد العالم: قرارات لصالح الأرض - الاتزان، والرأي، والنفوذ "، اشترك في إصداره المؤسسات العالمية التي سبق ذكرها، يشير إلي ضرورة عدم إغفال حقوق المشاركة والتمثيل للأطراف المعنية بالشأن البيئي، ويجيب عن تساؤل : ما الآليات التي يستطيع العامة من خلالها التدخل في وضع القواعد المنظمة لاستغلال الموارد الطبيعية، أو معارضتها ؟ ومن يملك حق تمثيل هؤلاء العامة ؟ إن ذلك يتطلب وجود قوانين تضمن حرية تداول المعلومات - ضرورة عقد جلسات استماع عامة - مقابلات ومناظرات بين عامة الشعب والمسئولين - السماح بفترة تجري فيها مناقشة أي خطط بيئية مرتقبة، قبل تنفيذها - تسهيل إجراءات التقاضي - انتخابات حرة لممثلي الفئات المعنية - ضرورة وجود منظمات أهلية تمثل السكان المحليين أو أصحاب المصالح المتعارضة. كما يشير التقرير إلي ضرورة تحديد مستوي السلطة المناسب لاتخاذ القرار البيئي، فقد يتطلب الأمر أن يتخذ القرار علي المستوي المحلي، إذا كان متصلا بجانب محدود من نظام بيئي كبير، أو بجزء من مورد طبيعي، أما إذا كان القرار حول نظام بيئي مترامي الأطراف، أو مورد طبيعي ضخم، فيتم تصعيد مستوي اتخاذ القرار ليكون قوميا. كما يهتم التقرير بعنصر الشفافية وحق مساءلة متخذي القرارات البيئية، علي المستويين العام والخاص، ففي أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، علي سبيل المثال، تثور تساؤلات، مثل : لماذا حدثت الكارثة ؟ ومن المسئول عن تفاقمها وزيادة خسائرها ؟. إن المسئولية البيئية خافية، لاتزال، عند معظم الناس، فهم لا يعرفون من المسئول عن اتخاذ (أو عدم اتخاذ) القرارات المناسبة، فيما يخص تطوير واستغلال وإدارة الأنظمة البيئية. واخيراً، يناقش التقرير مسألة الحيازة وحقوق الملكية، فالملكية هي وسيلة الهيمنة علي الأرض والموارد الطبيعية، إذ تعني بسط النفوذ علي موارد المياه، والمناجم، والغابات، والمصايد .. الخ. والمالك هو المسيطر علي منافذ الموقع الذي يمتلكه، وله الكلمة العليا في تحديد كيفية ومواعيد استغلاله. ومن جهة أخري، فإن عدم استقرار الملكية، وانعدام التوافق بين الإدارة الحكومية والملاك، من سكان الأرض الأصليين، والتباين في توزيع هذه الملكية والحقوق المترتبة عليها، وافتقاد المساواة في هذا التوزيع، تمثل - كلها - مصادر محتملة للنزاعات بين مختلف الأطراف، كما أنها تؤدي إلي قرارات ضعيفة وغير صائبة. سومطرة إن ضمان أو تأمين الملكية مسألة مهمة وضرورية لأي إنسان يعتمد في معيشته علي الأرض، أو علي حقوق استغلال مورد طبيعي، ويتحقق ذلك الضمان بالاعتراف الرسمي بتلك الحيازة، من قبل الهيئات الإدارية الاعتيادية، أو بموجب حكم قانوني. ومن جهة أخري، فإن ضمان الحيازة يعد مسألة فارقة بين الاستغلال الجيد والاستغلال السيئ للأرض أو المورد الطبيعي، ودون تأكيد الحيازة، أو الافتقاد لحقوق الاستغلال، يعيش السكان المحليون مهددين بالطرد من الأرض، أو بالإقصاء عن موقع المورد الذي يعيشون منه، في أي لحظة، ويكون مردود ذلك سيئا، إذ لا يكون عندهم أي حافز يدعوهم لصيانة الأرض، أو لتطوير المورد الطبيعي. وعلي سبيل المثال، ففي جزيرة «سومطرة» نوعان من حيازة مساحات من غابات أشجار المطاط: مؤقتة، ودائمة. فأما الحائزون المؤقتون، فإنهم يستنزفون الأشجار، فهم لا يأملون في استمرار ملكيتهم لحقوق استغلالها، وأما الدائمون، فيكون حرصهم علي حماية الأشجار، لتبقي بحالة جيدة، فهي تحت أيديهم، وفي حيازتهم الآن، ولأبنائهم من بعدهم. ويري واضعو التقرير أن اصطلاح «السيطرة البيئية» قد لا يكون شائعا، ولا مألوفا، بالرغم من أننا نعاينه، في أحداث يومية، بكثير من أنحاء العالم، عندما نراه معكوسا علي صور المشاكل والنزاعات المحلية والإقليمية والعالمية : - نازحون تجبرهم السلطات علي هجر أراضيهم لبناء سد، أو إقامة منشأة نووية. - الكنديون والأمريكيون في خلاف حول حدود صيد أسماك السالمون بالمحيط الهادي. - أوروبا وأمريكا تختلفان حول الأغذية المعدلة وراثيا. - خلافات صنعتها وعمقتها السياسة، حول بروتوكول كيوتو، وإجراءات خفض الاحترار الكوني. فظهور مثل هذه المشاكل يعني الافتقاد للسيطرة البيئية، نتيجة لقرارات بيئية غير حكيمة، اتخذها الساسة في الخفاء، دون اعتبار للرأي العام، وتجاوزا للمبادئ والعدالة. إن السيطرة البيئية تتجاوز العمل الحكومي الرسمي، بمستوياته الديبلوماسية والتنظيمية والإدارية، ويندرج تحتها أنشطة المنظمات غير الحكومية، وجماعات المجتمع المدني، كما تتسع لتشمل الأفراد القادرين علي التأثير في الرأي العام، وتوجيه سلوكيات الاستهلاك.