لا أحد يتعلم من دروس التاريخ سوي الأذكياء، والأذكياء هذه المرة هم التيار الإسلامي، أو من أطلقوا علي أنفسهم اختصارا لقب «الإسلاميين» وبمفهوم المخالفة فإن من هم عداهم ليسوا بإسلاميين، بل يمكن أن يندرجوا تحت لقب «العلمانيين» والذي اقترن كثيراً بالكفر والزندقة، عملاً بالقول المشهور «من تمنطق فقد تزندق» والذي اتبعه العديد من السلفيين لتكفير العديد من أئمتنا وقادة الفكر والرأي علي مدي عصور سلفت كان أحدهم الإمام بن حنبل الذي انتهت حياته نهاية مأساوية بعد أن شككوا في دينه وعقيدته. الخطوة خطوة بلا شك فقد تعلم «الإسلاميون» من دروس التاريخ واستغلوها إلي حدها الأقصي، متبعين في ذلك سنة «هنري كيسنجر» وزير خارجية أمريكا في السبعينات من القرن الماضي والتي أطلق عليها سياسة «الخطوة خطوة» في مسيرته «المكوكية» ما بين مصر وإسرائيل إلي أن أفرغ القضية الفلسطينية والعربية من محتواها، وأسلمنا إلي إسرائيل وأمريكا في السلام الذي أطلق عليه نزار قباني «سلام الجبناء» ولسنا هنا في مجال تقييم ما فات من حرب أو سلام فحكمه للتاريخ، لكنها المقارنة بين مافات وما أتبعه من وسائل الوصول إلي الهدف والتي تماثلت ما بين الأمس واليوم في سياسة الخطوة خطوة للوصول إلي الأهداف المبتغاة. وهذا بالضبط مااتبعه واستفاد منه التيار الإسلامي في وصولهم إلي قمة السلطة والسياسة في مصر، فبعد أن حلق لهم النظام السابق ذقونهم عادوا فأطلقوها وأطلقوا معها حملة من الترغيب والترهيب، وصولا إلي التزييف المعنوي لإرادة شعب أعطاهم الثقة ليفوزوا في الانتخابات بأغلبية لم يكونوا مدركيها في ظل نظام مبارك ولا بشق الأنفس. ولقد تمثلت سياسة الخطوة خطوة التي اتبعها «الإسلاميون» علي مدي مراحل متعددة ساعدهم في ذلك عدم وجود رأس لثورة يناير 2011، في الوقت الذي تمتعوا فيه برأس مدبر ومخطط محكم لتسيير شئونهم، وكانت أولي المراحل التي اتبعها «الإسلاميون» هي قفزهم علي ثورة الشباب بعد أن لاحت بشائر انتصاراتها، وجني ثمارها بركوبهم الموجة الأعلي وهي موجة «الدين» فلا أحد يمكن أن يزايد - في بلد إسلامي- علي الدين، بل إنه وكما هو معلوم فإن من يلعب - كرة القدم- علي أرضه يربح دائماً، فإن «من يلعب علي أرضية الدين- بالمثل- يربح دائما» ولقد استخدم «الإسلاميون» هذا السلاح إلي حده الأقصي، بدأ من توظيفه في الاستفتاء الذي أجري علي بعض مواد الدستور، ثم اتباعهم نفس الأسلوب في الانتخابات التي أجريت علي مقاعد الشعب، فمن انتخبهم سوف يدخل الجنة ومن يرفض فمصيره إلي نارجهنم وبئس المصير. الدستور بعد البرلمان ومن مظاهر سياسة الخطوة خطوة، إصرارهم علي تأجيل وضع الدستور الجديد إلي ما بعد تشكيل مجلس الشعب، أي إلي ما بعد وصول أغلبيتهم إلي الحكم لكي ينفردوا بوضع مواده وفق أهوائهم، وعملهم علي التشكيك في نوايا المجلس الأعلي للقوات المسلحة واتهاماته المتكررة بالوقوف ضد الثورة، مع محاولة الوقيعة بينه وبين الثوار في معارك مفتعلة للتقليل من شعبيته، انتهاء بإصرارهم علي تنحية المجلس العسكري عن حكم البلاد بدعوي تسليم السلطة إلي المدنيين، بعد أن تحققت لهم الأغلبية في مقاعد الحكم، وهي بلاشك أغلبية يشوبها العوار بعد أن غاب عنها نصف سكان مصر ممن أطلق عليهم «الأغلبية الصامتة» في الوقت الذي لم تزل فيه بقية أحزاب الثورة تحبو علي أقدامها لم تستكمل أطرها بعد، في مواجهة تنظيم «الإسلاميين» المحكم المدرب علي اقتناص الفرص المدعوم مادياً ومعنوياً من السلفيين من دول الجوار، وصولاً إلي أمريكا التي زارتهم لتتأكد من موالاتهم لسياساتها في المنطقة وعدم تهديدهم لحليفتها إسرائيل حين وصولهم المرجح والوشيك إلي السلطة، وبهذا فقد نجح «الإسلاميون» في إحكام قبضتهم علي السلطة في مصر، بعد أن كانوا مبعدين عنها بعد السماء عن الأرض. ثم ماذا بعد؟ سؤال لابد أن يطرح نفسه بعد أن تأكد وصول «الإسلاميين» إلي قمة الحكم في البلاد، ماذا نتوقع من سياساتهم المعلنة أو غير المعلنة؟ إذ إن لنا من ماضيهم مايجعلنا علي علم ويقين من معالم سياساتهم المؤكدة والتي لا يمكنهم التنصل منها أو انكارها حتي لو أرادوا، لأنها تمثل لهم ولغيرهم ركائز لا يمكن الحيدة عنها، أولها هو ما تعلق بمبادئ: «حرية الرأي وحماية الفكر والإبداع» ولهم من السوابق ما يؤكد وقوفهم ضدها، ألم يكونوا هم من أعلنوا الحرب علي الكثير من روائع المؤلفات الأدبية التي وصل مداها إلي العالمية فاتهموها بالكفر والزندقة والإلحاد؟ كتكفيرهم لرائد الأدب العربي في مصر والعالم الأديب الكبير: نجيب محفوظ وصولاً إلي محاولة تصفيته واغتياله؟ ألم يعلن بعضهم الحرب علي العديد من مؤلفاتنا الأدبية بدعاوي قضائية كان لنا شرف الدفاع عنها، منها الدعوي التي رفعت علي مؤلف «ألف ليلة وليلة» بطلب منعه ومصادرته، ذلك التراث الذي لا يعلم مؤلفه بل توارثناه منذ قرون وتغلغل في وجداننا واختلط بأدبنا اختلاطاً غير قابل للفصل أو التجزئة، بل لقد تعدت الليالي الحدود ووصلت إلي كل دول العالم لتصبح معيناً لا ينضب تستوحي منها تلك الدول العديد من آدابها، فأصبحت بذلك بعيدة عن متناول الإسلاميين - أو غيرهم - غير قابلة للإلغاء أو المصادرة؟ ألم يرفع بعضهم الدعوي القضائية بطلب مصادرة وغلق مجلة «إبداع» لنشرها قصيدة شعر اتهمت بالكفر والإلحاد، مشردين بذلك العديد من العاملين بها والمرتزقين من صناعتها ممن لا ذنب لهم في طبع القصيدة أو نشرها؟ ألم يلاحق البعض منهم البعض من كبار أدبائنا ومفكرينا «الدكاترة والأساتذة: جابر عصفور وأحمد مجاهد وجمال الغيطاني وعبدالمعطي حجازي» بدعاوي قضائية يتهمونهم فيها بمخالفة الثوابت الدينية لمجرد نشرهم لمؤلف أو تعبيرهم عن آرائهم ببعض الكلمات؟ في ظل الحكم فإذا كان هذا حال «الإسلاميين» وهم خارج السلطة، في ظل حكم مبارك الذي قمعهم وشتت فلولهم، فماذا ننتظر منهم حين وصولهم إلي قمة السلطة والحكم في البلاد، وانفرادهم بوضع الدستور والقوانين؟ ألا يقرأ الكتاب من عنوانه؟ وعنوانهم معلن منذ قديم الزمان: «الإسلام دين ودولة» وعلينا في عرفهم أن نتمثل بالسلف الصالح في كل ما اتبعوه من مأكل وملبس وتقاليد وعادات، مع أننا تعلمنا بأن الشريعة قسمان: عبادات ومعاملات، أما العبادات فهي ثابتة وباقية أبد الدهر، وأما المعاملات فهي متغيرة بتغيير البلاد والأزمان، والأصل في الأشياء الإباحة، ولا تجريم أو تحريم إلا بنص جازم ومحدد واضح وصريح وحتي في مجال النص فهو لا يطبق إلا بشروطه وحكمته، لذا فلا مجال لهذا السيل الجارف من المحرمات التي أحاطونا بها والتي لا تجد لها دليل أو سند من نصوص جازمة أو مؤيدة، بل اختلف حولها وبشأنها الأئمة والفقهاء والاختلاف بين الأئمة رحمة، وبأيهم اقتديتم اهتديتم، وكل شيء يمكن الإكراه فيه إلا الدين، لأنه علاقة مباشرة ما بين العبد وربه، والإسلام لا يعرف الكهنوت أو صكوك الغفران، ولا يمكن العودة إلي عصور «محاكم التفتيش» للدخول والتفتيش داخل عقولنا ومعتقداتنا، أو أن يأمرنا أحد بالسير بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن أمة إسلامية نعرف ديننا جيداً ورثناه وآمنا به والد عن كابر، فلا مجال والحال كذلك لأن نتسيد علينا فئة تحتكر لنفسها العلم بالدين أو الحكم به، ولا نحتاج لمن يرشدنا أو يكرهنا علي اتباع أصول ديننا الحنيف، الذي نعلمه ونؤمن به ونسير علي هداه. وفي النهاية لنا أن نتساءل: هل خرجنا من القمع والانغلاق الذي اكتنفنا في ظل حكم مبارك، ومن أجله ثرنا وانقلبنا عليه طلبا وطمعاً في المزيد من الحريات؟ هل قمنا بتلك الثورة التاريخية المباركة لكي نقع بعد ذلك في شباك حكم أصولي أشد وأعتي في كبته للحريات ومحاربته لحرية الرأي والفكر والإبداع؟