في البداية كانت هناك قصيدة للورو بايرون الشاعر الإنجليزي الشهير تحمل هذا الاسم وكانت هناك مسرحية لعميد كتاب المسرح الفرنسي موليير .. تحمل أيضا الاسم نفسه ثم كانت هناك آلاف القصص والأحاديث عن شخصية ساحر النساء الذي لا يقاوم والذي اخترعته المخيلة الشعبية لتجعل منه مثالا رمزيا لتضارب الخير والشر في النفس الإنسانية من خلال مغامرات عاطفية ونفسية والبعض منها له خلفية روحية شفافة ومؤثرة إلي أن وصلت الأمور إلي المؤلف العبقري موزارت الذي حول مغامرات دون جوان إلي أوبرا من فصلين تعتبر الآن واحدة من أشهر الأوبرات الألمانية وأكثرها شعبية وانتشارا وتعتبر واحدة من أقوي الأسلحة التي واجهت بها الأوبرا الألمانية الأوبرا الإيطالية التي غزت أوروبا كلها وتسيدت الصدارة الموسيقية أزمانا طويلة، لم يكن أمامها أي منافس أو أي موسيقار يجرؤ علي منافستها أو الدنو منها. شخصية مركبة اعتمد موزارت في كتابة هذه الأوبرا علي الكثير مما سمعه وما قرأه عن هذه الشخصية المركبة التي تحمل في طياتها كل تقلبات النفس البشرية وتأرجحها بين الشر المطلق ووهم الذات المتضخمة والتي تنتهي بضربة واحدة عندما تواجه قوة روحية وسماوية حاولت أن تتحداها ولكنها وجدت نفسها وقد وصلت إلي آخر الطريق وما عليها إلا الاستسلام بعد أن تحطمت كبرياؤها وزالت الغشاوة عن عينيها. الأوبرا التي ألفها موزارت تتأرجح بين الميلودراما والكوميديا والبُعد الروحي الصوفي من خلال مغامرات هذا الفتي المتكبر الشديد الوسامة واللبق اللسان الذي احترف غواية النساء وإغراءهن ثم هجرهن بعد أن ينال مراده منهن. كبرياء دون جوان وثقته الزائدة بنفسه ومواهبه وعدم إصغائه لأي وازع من ضمير أو أخلاق في سبيل تحقيق هدفه، يعشق الحواجز المنيعة ويتحداها لكي يقهرها ويحقق قول بايرون «ليت للنساء جميعا فم واحد لقبلته واسترحت» إنه كمدمن الخمرة كلما عب كأسا اشتاق إلي غيرها وكلما أغوي امرأة حلم بامرأة أخري نساء الأرض كلهن لا يكفينه أنه دائم الشبق دائم المغامرة دائم البحث لا يعبأ بأخلاق ولا قيم.. نراه في مطلع المسرحية يتسلل إلي مخدع «دونا آنا» محاولا اغتصابها وإغواءها وعندما هرع والدها لنجدتها لا يتردد دون جوان في قتله محتميا بقناع وضعه علي وجهه كي لا تتعرف «آنا» علي شخصيته وتقسم «آنا» علي الثأر لوالدها، يساعدها في ذلك رجل أحبها بصمت وصدق وحتي عندما تكتشف «آنا» أن قاتل أبيها هو دون جوان الذي أحبته لا تمتنع عن تلبية نداء قلبها مترددة بين واجبها الأخلاقي ونداء قلبها العاطفي. علاقة قصيرة وهناك أيضا العاشقة الولهانة «دونا ألفيرا» التي هجرها دون جوان بعد علاقة قصيرة والتي تلحق به في كل مكان يذهب إليه محاولة استعادة حبها الضائع. وهناك الفلاحة زرلينا التي تحتفل بزواجها بالمزارع مازيتو بعد علاقة حب طويلة والتي يحضر دون جوان زفافها، ويقرر إغواءها في نفس هذه الليلة المقدسة وإبعادها عن حبيب عمرها مغريا إياها بزواج وهمي ووعود براقة. وتجتمع النساء الثلاث مرة واحدة لمواجهة دون جوان المخادع الذي لا يتورع عن الزج بخادمه الوفي ليبوريللو في تيه مغامراته ويكاد أن يؤدي به إلي القتل عندما يطلب منه أن يتقمص شخصيته كي يتمكن هو من الهرب من وجه مطارديه. دون جوان هو الشر المطلق الذي وصلت به كبرياؤه إلي تحدي الموت وكل ما يمثله «الماوراء» من أسرار وغموض حين يهزأ بتمثال الكومنداتور ويتغافل عن سماع نصائحه الروحية بل يدعوه إلي العشاء معه. وفي تلك الوثيقة تحضر روح الكومانداتور ويواجه دون جوان الذي يلقي بأسلحته جميعا ويستسلم للنار الإلهية التي تحرقه وتنتقم منه بعد أن عجز البشر جميعا عن الثأر منه وإنزال القصاص الذي يستحقه به. في هذه النهاية الروحية وشبه الأخلاقية ينهي موزارت عمله الإبداعي الكبير الذي قدم فيه من خلال الموسيقي والأغاني أعمق وأبدع ما ألهمته به قريحته الموسيقية الفذة. عرض مبهر العرض الذي قدمته فرقة أوبرا المتروبوليتان الأمريكية والذي بثته لمصر الأقمار الصناعية في الوقت نفسه الذي يعرض فيه علي خشبات المسرح الأوبرالي الشهير عرض مبهر بكل جوانبه سواء في الأداء الموسيقي الذي قام بقيادته المايسترو السويسري فابيو لورنزي ولعب أدواره الرئيسية أشهر مغنيي الأوبرا في العالم الذي قلما يجمعهم عمل واحد. لعب دور دون جيوفاني المغني الصربي ماريوس كوسين فأبدع وأجاد صورة لا تنسي لهذا المغامر العتيد المتكبر الذي تسحقه لعنة السماء وتحركه بنار آكله. كوسين يتمتع بصوت نادر في عذوبته وقوته معا كما يتمتع بوسامة مبهرة جعلت أداءه ودوره شديد الإقناع بالإضافة إلي حضوره اللافت الذي تختلط فيه الكبرياء بالشموخ والعناد وبقوة الشر الكامنة في أعماقه والتي تحطم كل من يقترب منه وعلي ذلك فهي تملك هذه القوة المغناطيسية المبهرة التي تجعل أي واحدة من النساء عاجزة عن مقاومته. وتتألق المغنية مارينا ريبكا في دور «آنا» المعقد والمليء بالتقلبات العاطفية وتنجح في غناء الأغاني الانفرادية التي خصصها موزارت للدور فتنتزع تصفيقا مجنونا من الصالة. إلي جانب الإيطالية بربارا فريتولي التي لعبت دور «دونا الفيرا» العاشقة التي أهدرت كرامتها والتي أعمتها عواطفها تجعلها عبدة لعشقها اللانهائي لدون جوان الذي يتلاعب بعواطفها كما يشاء له الهوي والتي تظل محتفظة بعشقها حتي بعد انهياره وانكشاف أكاذيبه. أما المغنية مونيكا أردمان فقد لعبت دور الفلاحة الساذجة زرلينا وغنت مع حبيبها «جوشوا بلوم» الدويتات الغنائية الشهيرة بحيوية متدفقة وإحساس مرهف حقق لها نجاحا جماهيريا مرموقا، أما مفاجأة العرض الحقيقية فجاءت من الإيطالي لوكا بيساروني في دور خادم دون جوان الأمين والمقتبس تقريبا من شخصية الخادم في الكوميديا دلارث الإيطالية والذي أبدع موليير اقتباسه في مسرحيته التي تحمل الاسم نفسه، وقد استطاع المغني الإيطالي الشاب أن ينافس النجوم الكبار في أداء أدوارهم واختص لنفسه بجانب كبير من تصفيق الجمهور وحماسه وأعطي شخصية الخادم كثافة إنسانية وقتية جعلت من دوره دورا بطوليا حقيقيا. طوابق الديكور الديكور المبهر والمكون من عشرة طوابق وفتحات واسعة تقودنا إلي مساحات عامة وإلي داخل القصر حيث تقام الولائم وتدور الحفلات الفاسقة كان له تأثير كبير في إعطاء «الأوبرا» جوا أسطوريا يليق بالشخصية الرئيسية التي تمثلها. كما جاءت الإضاءة المركزة وتوزيع حركات الممثلين علي خشبة مسرح المتروبوليتان الواسعة دليلا حقيقيا علي فهم المخرج لطبيعة الأوبرا وطرق إخراجها التي يجب أن تختلف بشكل جذري عن إخراج المسرحية بشكلها التقليدي. الملابس جاءت موافقة للعصر وللجو .. ولطبيعة الشخصيات وتنسجم بألوانها مع ألوان الديكور القاتمة والتي اختلفت بشكل كبير مع أزياء الفلاحين المبهرة والملونة والتي أبعدتنا عن جو ملابس القصور القاتمة والحالكة السواد. عرض دون جيوفاني أتاح لعشاق الأوبرا والمسرح الغنائي في مصر أن يكتشفوا هذه الأوبرا من جديد وأن يحسوا بقيمة ألحانها ومدي قوة تأثرها الدرامي والحس الغنائي البديع الذي أضفته موسيقي موزارت عليها. عمل رفيع المستوي في كل جوانبه يعيد لنا الثقة بأن المسرح وخصوصا الأوبرا في البالون تتسع أرجؤه وتزداد جماهيريته ويتحول من فن للخاصة إلي فن شعبي كبير يراه ويتمتع به أكبر قدر ممكن من الجمهور في كل أرجاء العالم.