صنع فيلم بوليسي ناجح.. ليس بالأمر اليسير.. هذا ما علمنا إياه سيد الأفلام البوليسية في تاريخ السينما ألفريد هيتشكوك.. فإلي جانب السيناريو القائم علي منطق لا يخر منه الماء.. هناك هذه الجرعة الكبيرة من التشويق التي يجب أن تسود أحداث الفيلم وأن تجعل المتفرج مصلوبًا علي مقعده لا يستطيع حراكًا.. إلي جانب الإجادة في التمثيل التي يجب أن تتمسك بالطبيعية والعفوية بحيث لا يشعر المشاهد أنه يشاهد تمثيلاً.. وإنما يترصد بعين خفية ما يجري أمامه.. وما يدو خلفه في نفس الوقت. وبالنسبة للفيلم البوليسي.. هناك اتجاهان واضحان.. يمكنني أن أطلق عليهما اتجاه أجاثا كريستي الكاتبة البريطانية الشهيرة واتجاه هيتشكوك العقلاني. الاتجاه الأول يستند بشكل أساسي علي خلط الأوراق وإضاعة المتفرج، وتركه حائرًا يحاول عبثًا أن يجد حلاً للغز البوليسي الذي يدور أمامه.. وغالبًا ما تفشل كافة التوقعات.. ويظهر في النهاية سبب آخر مختلف تمام الاختلاف عن كل ما توقعناه. أما الاتجاه الهيتشكوكي فيقوم علي حل اللغز منذ اللحظات الأولي.. ووضع المتفرج في درجة عليا من الفهم يشاهد بعين لا تخلو من الدعابة.. كيف يتخبط رجال البوليس لاكتشاف حقيقة اكتشفها هو منذ اللحظات الأولي للفيلم. ويبدو أن محمود كامل المخرج الشاب وجميع العاملين في فيلم (أدرينالين) الذي خرج علينا فجأة ودون سابق إنذار بعد انتظار طويل استمر أكثر من عام ونصف العام هم من الرأي الأول. أدرينالين.. هو الفيلم الأول الذي يقدم فيه محمود كامل نفسه لجمهور السينما.. وعلي ذلك فإن فيلمه الثاني الذي أخرجه بعد هذا الفيلم وهو (ميكانو) قد عرض قبله.. لأسباب غامضة تتعلق بالإنتاج والتوزيع. أدرينالين.. فلم يكشف عن موهبة شاب يعرف ماذا يريد أن يقول وكيف يقوله. مخرج اختار دربًا صعبة ليقدم نفسه لأول مرة لجمهوره.. وعلي ذلك استطاع تجاوز هذه الصعوبات ونجح في تقديم فيلم بوليسي مشوق إلي أبعد الحدود. تضافرت علي نجاحه عوامل عدة.. عرف المخرج الشاب كيف يستغلها وكيف يضعها في إطارها الصحيح. من القتيل؟ نحن منذ بداية الفيلم أمام ضابط بوليس (خالد الصاوي) يحقق في جريمة مروعة يساعده ضابط شاب (إياد نصار).. لقد وصلته بلاغات من جيران شقة يسكنها رسام معروف مع زوجته الطبيبة (غادة عبدالرازق) بأن رائحة عفنة تنبعث من الشقة الخالية الآن.. بسبب انفصال الزوجين وسفر الطبيبة إلي الإسكندرية وعندما يتم اقتحام الشقة يكتشف الضابط جثة مشوهة تشويهًا رهيبًا.. إذ نزع جلد الوجه تمامًا بحيث يصعب معرفة هوية القتيل. وبالطبع فإن الظنون تتجه إلي أن القتيل هو الرسام صاحب الشقة (سامح الصريطي) ولا ينجح كل الشهود في التعرف الحقيقي عليه.. بما في ذلك زوجته منال التي انفصلت عنه. وتبدأ الأسئلة تدور حول من له مصلحة في قتل الزوج وتشويهه بهذه الطريقة ويحاول الضابط أن يجد ردًا لأسئلته الحارة. وفجأة ينعطف بنا الفيلم انعطافة مفاجئة. إذ أن الاتهام الوحيد لقتل الزوج.. يتجه إلي الزوجة التي اشتدت خلافاتها مع زوجها وكادت أن تؤدي إلي الطلاق.. وبصفتها طبيبة.. فإن جريمة سلخ الوجه تصبح منطقية أيضًا.. لذلك توضع الزوجة في قفص الاتهام.. ريثما يتم جمع الأدلة والقرائن.. وهنا تحدث المفاجأة الأولي في الفيلم والتي ستعقبها مفاجآت كثيرة.. كل مفاجأة أشد غرابة من الأخري.. وتضع المتفرج في حيرة تامة وأمام أسئلة شتي لا يعرف لها جوابًا، إذ يظهر الزوج الذي اعتقدناه قتيلاً.. ليعترف بأنه القاتل وأنه فاجأ زوجته مع عشيقها، فقتله. ولكن حبه لزوجته جعله لا يرضي باتهامها بالجريمة وهي بريئة منها. إيقاع سريع كل هذه الأحداث قدمها محمود كامل بقوة وبإيقاع متسارع ومقنع ساعده علي ذلك أداء الممثلين خصوصًا خالد الصاوي الذي يحمل للمرة الأولي عبء بطولة الفيلم كاملاً. والوجه الشاب (إياد نصار) الذي يحاول أن يشق طريقه الفني في السينما المصرية بقوة وثبات.. وإن كان دور مساعد الضابط لم يساعده كثيرًا علي إظهار موهبته التي عرفناها كبيرة ومدهشة من خلال بعض أدواره التليفزيونية ومع ذلك ورغم بساطة الدور وسطحيته استطاع إياد نصار أن يضع بصمة واضحة عليه تجعلنا شديدي التفاؤل بخطواته القادمة لو تسني له الدور الجيد الذي يمكنه أن يكشف مواهبه كلها. إذن المفاجآت تتوالي، والضابط يدور في دوامة، لأنه لا يصدق تمامًا ما يجري حوله وما يسمعه من الزوج والزوجة.. خصوصًا عندما يتضح له أن العشيق القتيل عاجز جنسيًا لقصور شديد في أعضائه التناسلية فكيف يمكن للطبيبة أن تخدع زوجها مع رجل غير قادر.. وما الذي أتي بهذا الشاب إلي سريرها.. أسئلة تتردد.. وتدفع الضابط إلي التفكير بحل لهذه الألغاز التي يراها ويعيشها.. ورغم أن المحكمة تحكم بالإعدام علي الزوج القاتل بعد اعترافه.. إلا أن الضابط يعيش في أزمة ضمير حادة.. تجعله يحاول البحث وحده عن حل لهذا اللغز الذي كلف بالبحث عنه، رغم نصائح رئيسه في العمل الذي يطلب منه عدم التفكير بالموضوع ما دامت المحكمة قد قالت قولها النهائي فيه، ومادام القاتل نفسه قد اعترف ولم يعترض علي الحكم ولكن سيل المفاجآت الذي امتلأ به الفيلم لم ينته. مفاجآت بالجملة أولاً كوجود الزوجة (منال) قتيلة في الشاليه البحري الخاص بها.. ويبدو الأمر وكأنه محاولة انتحار بسبب تجرع كمية كبيرة من الأقراص المهدئة.. ويتساءل الضابط بحيرة ما الذي يدفع الزوجة إلي تعاطي كل هذه الحبوب. وما السر الكامن في حياتها. وتبوء كل محاولاته لدفع الزوج إلي البوح بالحقيقة بالفشل فتتجه شكوكه إلي «رجل صاحب الزوجة».. إلي أحد معامل التحليل.. كما يكتشف أن الزوجة حامل بالشهر الثاني إذن لا بد أن هناك رجلاً ثالثًا.. مجهولاً وراء هذه الجرائم كلها، وبعد محاولات عديدة يستطيع الضابط أن يرصد شخصية (المجهول) الذي كان علي علاقة بمنال وهو طبيب مثلها يعمل في المستشفي الذي تعمل فيه. ويتجه الضابط إلي المستشفي كي يحقق أو يقبض علي هذا الطبيب أو المتهم الجديد، كما نري في هذه الخلاصة السريعة.. كمية التشويق والأحداث المتلاحقة التي أمسك بها محمود كامل وعرف كيف يقدمها بإيقاع متناسق يناسب الروح البوليسية التي ينهض عليها الفيلم، كما استطاع أن يعطي مشاهد الفيلم لمحة شاعرية مستغلاً الضوء والظلال ومستفيدًا من خبرة (طارق التلمساني) الكبيرة في هذا المجال والذي حول بعض صوره إلي لوحات شعرية مؤثرة. خصوصًا مشاهد الشاليه البحري والستائر الرقيقة التي تتطاير.. وأمواج البحر الهادرة. ولكن منذ لحظة اكتشاف وجود الرجل الثالث.. يبدو وكأن الفيلم خسر منطقه القوي الذي نهض عليه طوال الثلثين الأولين من الفيلم، إذ راحت المشاهد تتخبط في صورة بعيدة عن المنطق والإقناع.. وتقف أمام شخصية طبيب نصف مجنون هو العشيق الحقيقي لمنال يجرب عليها وعلي الآخرين مفعول دواء (الأدرينالين) الذي يعطي الإنسان جرعة قوية من النشاط الجسدي والجنسي ويضعه في حالة توتر قصوي وهو الدواء الممنوع الذي يعطي أحيانًا لجياد السباق كي يمكنهم من الجري وتجاوز بقية الجياد الأخري. شاعرية التلمساني لا أريد أن أكشف عن الوقائع التي يقدمها هذا الثلث الأخير من الفيلم.. ولكنها وقائع لا يقبلها العقل السليم ولا المنطق، رغم قوة المخرج في تقديمها.. هناك مشاهد الجنس بين منال وعشيقها والذي يلعب دوره ممثل شاب شديد الوسامة أعتقد أنه سيشق طريقه بقوة في الأعوام القادمة لأنه يملك كل مميزات النجم الشاب (وسامة وقوة وحضورًا) والتي قدمها المخرج رغم إيجازها الشديد بقوة وتأثير لا حد له. وهناك مشاهد المطاردة في الغابة.. التي حلق بها طارق التلمساني.. واستفاد من كل جزئية فيها. ثم هناك هذا الإيقاع المتسارع في هروب الطبيب المجرم وملاحقته كل هذه الموهبة الكبيرة في الإخراج ضاعت تقريبًا أمام لا منطق الأحداث وعدم قبول العقل بها. (خصوصًا هرب الطبيب بعد أن قبض عليه وربط بالحبال علي كرسيه من نافذة مكسورة لم نعلم بوجودها)، وهذا ما يؤكد الحقيقة الثابتة التي مازلنا نكررها باستمرار وهو أن موهبة المخرج مهما كانت كبيرة ومهما كانت الوظائف الفنية المساعدة له قوية ومؤثرة.. فإنها لا تستطيع الصمود.. إذا كانت أحداث السيناريو بعيدة عن المنطق والتصديق. ولكن لا يجب أن نفسد متعتنا بوجود فيلم مصري جيد.. في ثلاثة أرباعه.. يكشف عن موهبة مخرج لامع.. ويؤكد قوة مجموعة من الممثلين اعتدنا أن نراهم في أدوار ثانوية وها هم الآن يؤكدون قدرتهم علي حمل أي فيلم كان علي أكتافهم.. وتحية لوجه جديد.. قدمه الفيلم بقوة وتأثير. كل هذه المزايا.. تجعلنا نتساءل مرة أخري عن سبب إحجام الشركة المنتجة عن عرض هذا الفيلم طيلة الشهور الأخيرة رغم جودته ومستواه الفني الواضح. لكن عن السبب الآخر.. بإلقاء الفيلم حين قررت عرضه هكذا بعشوائية ودون دعاية مسبقة تليق به وكأنها خجلة من وجوده. أسرار كثيرة تحتاج لفيلم بوليسي آخر، متقن يقدمه لنا محمود كامل ليكشف لنا عن التيارات التي تتجاذب كواليس سينمانا المصرية.. وليوجه أصابع الاتهام كما فعل فيلمه (أدرينالين) إلي هذا الرجل الثالث المجهول.. الذي سيكشف لنا عند ظهوره كل الأسرار التي لا نعرفها والتي قد تؤدي بنا إلي الطريق الصحيح لو عرفناها.