منذ أن قدم مجدي الهواري فيلمه الأول الذي تحول فيه من منتج يمول الأفلام إلي مبدع يقدمها بأسلوبه وطريقته .. والآراء انقسمت حول هذه «النقلة» التي اعتبرها البعض غير جائزة، كما وقف إلي جانبها البعض الآخر.. وأعترف أني كنت من هذا البعض الآخر.. لأني لمست في الفيلم أو الفيلمين اللذين اخرجهما الهواري نظرة سينمائية خاصة .. لم تكتمل بعد وتحتاج أيضا إلي نار هادئة لكي تصبح مستوية ومؤثرة .. ولا شك أن الهواري يملك في زوجته «غادة عادل» سندا فنيا لا مجال للشك فيه.. فهذه الممثلة الشابة استطاعت أن تحقق لنفسها نجاحا متوازنا من خلال أدوار خفيفة لعبتها وأدوار أكثر نضجا فاجأتنا بها.. كما في فيلم «ملاكي إسكندرية» .. ثم قدمت لنا وجهها المضيء الذي يشتعل حرارة ويخفي حزنا كامنا غامضا.. وبحثا ملحاً عن رومانسية مفقودة .. في فيلم محمد خان المدهش عن شقة مصر الجديدة. عين نفاذة وها هو مجدي الهواري يقدم أخيرا زوجته ورفيقة دربه في فيلم يليق بهما معا .. يليق به كمخرج ذي عين نفاذة يستطيع رؤية الأشياء بمجهره الخاص ويقدمها بأسلوب جمالي مؤثر معتمدا علي جميع المفردات السينمائية التي بحوزته، ويليق بغادة عادل التي أصبحت قادرة حقا علي تقديم الأدوار المركبة الصعبة وأن تتغلغل إلي ثناياها العميقة .. وأن تبرهن علي أنها واحدة من ممثلاتنا القلائل اللواتي يصلحن للأدوار النفسية المعقدة. «الوتر» هو قصة جريمة أحاطها المخرج بسياج عاطفي رقيق .. ولكنه رغم رقته يخفي وحشية وعنفا غير مسبوقين.. انها قصة شقيقتين موسيقيتين تعملان في أوركسترا عالمية.. وتتجاذبان حب شاب وسيم مستهتر اعتاد أن يتلاعب بعواطف الفتيات وأن يقنع كل واحدة منهن أنها الأولي والأخيرة في حياته . الفيلم شأنه جميع الأفلام البوليسية يبدأ باكتشاف جريمة القتل (الخنق بوتر آلة موسيقية) ويقوم بالتحقيق في هذا الجرم .. ضابط مباحث خاص يعيش هو الآخر أزمة نفسية خاصة في حياته، يواجه نفسه فيها بشكل مستمر ومسئوليته عن جريمة أخري كان هو السبب الرئيسي فيها. عمل استثنائي «التيمة» ليست جديدة كل الجدة ولكن الإطار الذي أحاطها به المخرج والكاتب .. هو الذي حولها إلي عمل استثنائي خصوصا بعد أن أحاطتها عين المخرج أيضا بالكثير من الجماليات في الصورة والموسيقي والتكوين والإضاءة. لقد أراد مجدي الهواري .. ان يبدع عملا سينمائيا يبهر العين قبل أن يبهر العقل.. وأن يستخدم كل ما تمنحه إياه السينما من سحر ليوصل رؤياه الجمالية إلي أقصي حدودها. قد نقبل أحيانا في الأفلام البوليسية التي تسير علي نهج «أجاثا كريستي» أي تتويه المتفرج وإبعاده عن اكتشاف الحقيقة حتي اللحظة الأخيرة.. وتركه رهينة التساؤلات والحيرة، علي العكس من أسلوب هيتشكوك البوليسي الذي لا يخفي علي المتفرج شيئا من ملابسات الجريمة .. ويجعله عينا عُليا عارفة بمجريات الأمور وتراقب كيف يتوه المحققون لمعرفة «مجرم» يكون المتفرج أول من اكتشفه منذ البداية. ولكن بالطبع هذه الطريقة المدهشة .. تتطلب رؤية سينمائية لا يملكها إلا هيتشكوك وبعض المخرجين الأفذاذ من مدرسته. الهواري فضل أن يلجأ للطريقة الأولي .. وأن يضع المتفرج في حيرة حول من هي القاتلة وأية واحدة من هاتين الشقيقتين اللتين تلاعبان الشاب المستهتر بعواطفهما هي التي وضعت الوتر حول العنق؟ الفيلم أغرق صوره في ضبابية جمالية مقصودة.. واستغل الموسيقي إلي أبعد حدودها لرسم الجو القلق المليء بالتوتر والذي تعيش فيه الشخصيات جميعها. معاني درامية كما استغل من جهة أخري الديكور ليقول من خلاله الكثير من المعاني الدرامية التي قد تغلق علي المشاهد كمشهد الكوخ الخلوي الذي يعيش فيه القتيل، أو مشهد بيت الشقيقتين، أو مساحة دار الأوبرا والجو الأوركسترالي المحيط بالفتاتين. كل ذلك امسكه الهواري بيد حاذقة مستغلا كما قلنا كل امكانيات التصوير والموسيقي والإضاءة في سبيل تحقيق هدف جمالي نجح في أن يجعله مؤثرا حقا.. وإن كان ذلك علي حساب السيناريو .. الذي يبدو أن الهواري قد وضعه في المركز الثاني من اهتمامه مركزا جهده كله علي الصور المؤثرة الشفافة والكادرات المتقنة والإضاءة الدرامية المقنعة. وقد يحكي هذا الضعف في السيناريو في النهاية التي أرادها المخرج أن تكون «مفاجأة» ولو كان ذلك علي حساب المنطق السليم. كما أن التركيز أكثر من اللازم علي بعض الأحداث الدرامية أضر بالبناء أكثر مما أفاده .. قضية اعتداء زوج الأم علي الشقيقتين «والمشهد الساذج الذي قدم فيه هذا الاعتداء» والكشف عن أبعاد الجريمة الحقيقية والتي كانت مستبعدة تماما منذ البداية.. والذي قصد المخرج فيها الإثارة والتشويق في فيلم لا يعتمد علي هذا التشويق قدر ما يعتمد علي تصوير حالة نفسية معقدة.. وما تفعله الغيرة أحياناً.. في إلهاب القلوب.. وما يدفعه الحرص إلي اجتياز العتبات الممنوعة. لا أريد أن أفسد متعة اكتشاف الجمهور للقاتل مادام المخرج قد أرادها أن تكون مفاجأة .. وبني عليها كل الأحداث الأخيرة لفيلمه .. ولكن التعليق الأساسي علي هذه النهاية أنها خرجت بالفيلم عن نطاقه النفسي الجاد.. إلي منطقة أخري أقل أهمية ولولا الجماليات التي أحاطت بها كان يمكن فعلا أن تفسد الفيلم . نهاية أزمة ولكن في الجهة المقابلة استطاع السيناريو أن يمزج بمهارة بين الوضع النفسي للمحقق والوضع النفسي للشخصيات الثلاث التي يدور حولها المحور الرئيسي للفيلم. واستطاع بمهارة أن يرسم صورة غير معتادة للمحقق .. لم نرها كثيرا في أفلامنا العربية.. وخصوصا في الظلال التي رسمها أيضا حول نهاية أزمته... والتي خضعت هنا لإحساس درامي مكتمل مختلف تماما عن الإحساس الذي شعرنا به من خلال الجريمة الرئيسية التي تنهض عليها أحداث الفيلم. بقي الأداء التمثيلي الذي سيطرت فيه غادة عادل تماما وألقت بظلها الجميل علي أحداث الفيلم كله.. واستطاعت شقيقتها «أروي جودة» أن تثبت نفسها رغم الوجود الطاغي لغادة.. ( والتي لا أعيب عليها هذه المرة سوي استخدامها لباروكة شعر لا تليق بها وأفسدت كثيرا من معالم وجهها الجميل المعبر) واستطاع أحمد السعدني رغم قصر دوره أن يضفي بشخصيته وسلوكه.. ورسم صورة أنيقة لشاب مستهتر يلعب بالنار إلي أن أحرقته هذه النار التي يلعب بها. اهتزاز أداء ويبقي لي تحفظ أخير علي أداء مصطفي شعبان الذي بدا لي مهتزا «واهتزاز الأداء لا يأتي بالضرورة من اهتزاز الشخصية التي يجسدها» وكثير من المبالغات في تعبيراته .. وصوته المتأرجح بين برودة يجب أن تعكسها شخصيته والحرارة التي تمزق نفسيته المضطربة .. لقد كان حريا به أن يمسك خط التوازن بين عاطفتين، ولكن هذا الخط أفلت منه كثيرا ولم ينجح إلا في لحظات قليلة بالإمساك به، كما تجد الإشارة السريعة إلي الممثلة التونسية الصاعدة «فاطمة نصر» في دور صغير .. ولكن رغم صغره ترك في نفوسنا أثرا مميزا. وأخيرا يبقي «الوتر» فيلما شديد الخصوصية يتبع رؤية مخرجه الجمالية القادرة وحماسته لأن يصنع فيلما خارجا عن المألوف .. وأن يحاول الصعب وهذا أمر يحسب له في جميع الأحوال .. وهو قد استطاع أخيرا بواسطة هذا الوتر أن يضع نفسه في عداد مخرجي مصر الموهوبين الذين نتوقع منهم الكثير بعد أن تجاوز الكثير من أسئلة الاستفهام التي طرحت حوله. أما غادة عادل فأكتفي بأن أقول لها بعد ضرباتها الموفقة في شقة مصر الجديدة وملاكي إسكندرية ونجاحها القاطع في ابن القنصل.. ما قاله شوقي في أحد أبياته الشهيرة (ويا غادة .. هذا العرش فاستلمي).