نحن شعب لا تعيش له مقاطعة، ورغم ذلك يصر علي استخدام سلاحها في كل معاركه الداخلية والخارجية علي أمل أن تنجح في تحقيق ما يظن أنه انتصار، لكن ذلك لا يحدث أبدا، إما لغياب الإجماع علي الهدف وسلامة المقصد، أو لعدم وضوح هذا الهدف أصلا ووجود من يسعي دائما لتحقيق مآرب شخصية تتعارض معه. وعلي سبيل المثال، خلال السنوات القليلة الماضية، استخدمنا سلاح المقاطعة خارجيا في معركة الرسوم المسيئة للرسول (صلي الله عليه وسلم) مع الدنمارك، فلا الحكومة الدنماركية اعتذرت، ولا المتاجر التزمت، ولا الناس توقفت عن التهام أنواع الجبنة الدنماركية الفاخرة.. واستخدمناه داخليا عندما اشتعلت أسعار اللحوم البلدية الحمراء، فلا تنازل الجزارون عن جنيه واحد من الأسعار، ولا توقف المواطنون عن الشراء و الأكل. والآن، هناك من يريد تطبيق منطق الجبنة واللحمة في أمور السياسة والفن، ومن يطلق الحملات المستعرة، علي المواقع الاجتماعية الإلكترونية وغيرها، لمقاطعة شركات رجل الأعمال نجيب ساويرس وحزبه السياسي بسبب أزمة "ميكي ماوس" الشهيرة، ومقاطعة الفيلم الجديد للممثل طلعت زكريا "الفيل في المنديل"، والألبوم الجديد للمغني تامر حسني "اللي جاي أحلي" بسبب موقفيهما من ثورة 25 يناير المجيدة. عيب و"كخ" وتحرك ساويرس دفاعا عن نفسه إزاء استمرار حملات الهجوم عليه علي موقعي فيس بوك وتويتر رغم اعتذاره عن وضعه صورة ملتحي ومنتقبة علي شكل "ميكي وميني ماوس" علي صفحته بموقع تويتر، ورغم قوله إنه وضع الصورة من باب المزاح وإنه لم يقصد أبدا الإساءة لأي دين وإنه "آسف"، فلم يغفر له السلفيون وغيرهم هذا الخطأ واعتبروه مقصودا وغير مقبول من شخصية سياسية ورجل أعمال في ذكائه وطالبوا بمقاطعة شركاته.. فما كان من ساويرس إلا أن وضع "لينك" لخبر نشره موقع سعودي في أكتوبر 2008 يعلن عن افتتاح مدينة ديزني في الرياض، ووضع نفس الصورة التي وضعها ساويرس علي صفحته، وكتب تحتها أنه يشترط عدم الاختلاط بالمدينة وأنه علي "ميني ماوس" ارتداء النقاب لأنها فتنة للأطفال لإعجابهم الشديد بها. وعلق ساويرس متهكما علي صفحته في تويتر قائلا لمنتقديه: "فيه موقع سعودي نشر الخبر بنفس الصورة، لكن يبقي كخ وعيب لما نجيب ساويرس يحط الصورة ولازم يتحاسب مش كده؟"، إلا أن أحد هؤلاء المنتقدين كتب له علي صفحته :"اقرا الخبر كويس يا سيد ساويرس وأنت تعرف أن الخبر مش قصده نفس المعني اللي أنت قصدته في تهكمك"، فيما كتبت له فتاة أخري: " والله يا باشمهندس نجيب أنت غلطان أنك دخلت عالم السياسة أصلا وغلطان أكثر لما اعتذرت عشان بعد 5 شهور ما تعلمتش الدرس وما عرفتش أننا شعب الأغلبية العظمي منه الاعتذار بيجيب معاهم نتيجة عكسية وبيحسوا انهم اتمكنوا وسيطروا". واجب شرعي وبعد أن كان شغل ساويرس الشاغل التفرغ للرد علي منتقديه علي تويتر وفيس بوك، أعلن الخميس الماضي علي صفحته أنه سيرتاح من التدوين علي الموقعين لبعض الوقت "لأنه يحتاج للراحة". وامتدت الحملات لتشمل سلسلة من البلاغات تتهم رجل الأعمال بازدراء الأديان ونشر الفتنة الطائفية، كما شملت القنوات الفضائية، التي دعا بعضها إلي التخلص من خطوط شركة ساويرس الهاتفية أو التحويل لشركات المحمول الأخري، ومن ضمن هذه القنوات "الهلال" و"الحكمة" و"الشباب"، فضلا عن فتاوي دينية تعتبر المقاطعة "واجبا شرعيا". وتزعم الشيخ أبو إسحق الحويني "الغزوة السلفية" علي ساويرس، قائلا علي موقعه الإلكتروني: "ساويرس هذا لابد أن يؤدب.. الشعوب تستطيع أن تؤدب أعداء الإسلام، الشعوب قوية جدا وعندها طاقات هائلة وأنا لا أطالب بشيء سوي بإلقاء خطوط ساويرس الهاتفية علي الأرض حسبة لله، وغيرة علي الدين حتي يؤدب هذا الرجل ويعرف أن المسلمين لهم حرمة". وأضاف الحويني أن مقاطعة كل منتجات ساويرس ليس معناها مقاطعة النصاري، قائلا: "النصاري شيء وهذا الإنسان الذي يستهزئ بنا شيء آخر، وأي رجل يستهزئ بديننا نحن نؤدبه بطريقتنا الخاصة، لا نستخدم العنف، ولا نضرب، ولا نقتل، ولا نفعل شيئا، لكن نستطيع أن نؤدبه ونحن في بيوتنا، لأن عندنا إمكانات.. وليس ذلك قاصرًا فقط علي مثل هذا الرجل، كل رجل حتي وإن كان ينتسب إلي الإسلام يستهزأ بالإسلام والمسلمين ينبغي أن نؤدبه بمثل هذا أيضا". وحرض "القائد السلفي" السلطات علي ساويرس قائلا: "مسألة إقامة الحد أو الضرب هذه ملك الحاكم فقط". موقف مذهل وإذا كان موقف السلفيين متوقعا ومفهوما في إطار معتقداتهم وحقيقة أنهم لا يمثلون سوي أنفسهم، فقد أذهلني حقا موقف الدكتور عبدالحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوي بالأزهر الشريف، الذي يمثل مؤسسة دينية رسمية كبري، حيث قال - ردا علي سؤال إن كانت مقاطعة ساويرس واجبا شرعيا أم لا؟ "بالطبع المقاطعة واجب شرعي لأن الله تبارك وتعالي كرم الإنسان حيا وميتا كما نهي الله عن اللمز والتنابذ، أي لا يعيب بعضكم علي بعض.. فما قام به ساويرس من عرضه لهذه الصورة، إهانة لا يقبلها الله تبارك وتعالي، فالسخرية والاستهزاء ليسا من أخلاق الدين بأي حال من الأحوال". ولم يكتف الأطرش بذلك، بل دعا إلي عدم قبول الاعتذار، وتجاوز المقاطعة إلي المحاكمة، قائلا: "ساويرس، الذي صور المسلم في صورة بذيئة محتقرة، لابد أن يعاقب علي ذلك أشد العقاب، فالمقاطعة أحد أبسط أساليب العقاب الممكنة ولا يكتفي بها وإنما ينبغي أن يحاكم علي فعلته هذه لأن من أساء للمسلم فقد أساء لرسول الله.. المقاطعة والمحاكمة واجبة حتي لو اعتذر ساويرس، فبماذا يفيد هذا الاعتذار بعد الإهانة.. الاعتذار ليس ردعا، وإنما لابد أن يعتذر مع معاقبته علي فعلته، وبعد ذلك من شأن المسلم العفو والسماح والعفو من شيم الكرام والتسامح خلق من أخلاق الإسلام"!! العفو الكريم ولا تسل عما سيعفو المسلم الكريم عنه إذا كان ساويرس سيعتذر ثم ستتم مقاطعته ومحاكمته، ويبدو أن الأطرش يقصد أن المسلم الكريم سيعفو عنه قبل أن يتم سحله في الشارع.. ولا تسل عن مصير مئات المسلمين العاملين في شركات ساويرس التي بدأت مسيرة التراجع في البورصة 27 يونية الماضي مع انطلاق حملات الهجوم ودعوات المقاطعة، حيث شهد سهم شركته للإنشاء، صاحب أكبر وزن نسبي في المؤشر الرئيسي، تراجعا بنسبة 0.86% وبلغ أعلي سعر له 270 جنيهًا فيما كان الأدني 267 جنيهًا بحسب جريدة "الأهرام". يا جماعة الخير.. يا خلق الله.. الإسلام ليس لحية ولا نقابا.. الإسلام أكبر من هذه السفاسف والتفاهات.. قد يكون الغضب في محله إذا كانت هناك سخرية من رموز الإسلام الحقيقية وعلي رأسها الرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم) والصحابة، ومن بينها المصحف الشريف والكعبة المشرفة والمساجد، لكن من قال إن اللحية والنقاب من رموز الإسلام؟ لست هنا في معرض الدفاع عن أحد سوي الإسلام، الذي أري أن معاركه يجب أن تكون أكبر وأهم، في مرحلة شديدة الحساسية تتعاظم خلالها الأزمات والتحديات.. فليس من المعقول ولا المقبول أن يترك الأزهر الشريف قضايا مثل الفتنة الطائفية وتجديد الخطاب الديني المتخلف، ويتفرغ لشخص نشر صورة - رأي من وجهة نظره أنها مضحكة - في نطاق شديد الضيق هو حسابه الشخصي علي موقع إلكتروني.