مؤشر هذه المقولة أن يرحل عن عالمنا في السابع من يونية واحد من أبرز المبدعين في العالم، دون أن يكتب عنه ما يستحق من الكتابة، عدا ما نشره الزميل محمد الشماع في العدد الماضي، لكن الروائي والسينمائي الإسباني خورخي سمبرون أكبر من أن تتسعه الكلمات، وأكثر عطاء من أن ندركه، فهو واحد من أهم كتاب السيناريو السينمائي في النصف الثاني من القرن العشرين، بالإضافة إلي أنه روائي وصحفي وإن كانت الكتابات التي تنشر عنه في اللغتين الإسبانية والفرنسية أنه تولي وزارة الثقافة أكثر مساحة من الكتابة عنه كروائي وسينمائي ورجل سياسة. يكفي مثلا أن نقول إن سمبرون هو كاتب سيناريو أفلام سياسية مهمة غيرت وجه الفيلم السياسي، مثل «زد» و«الاعتراف» و«الاغتيال» و«امرأة في النافذة» و«دروب الحبوب» و«قضية دريتوس» وكلها من إخراج مخرجين اعتبرت الأفلام التي كتبها سمبرون هي الأفضل في مسيرة آلان رينيه وكوستاجافراس وجوزيف لوزي، لكن ما يهمنا في هذه الصفحة أن نتعرف علي الكاتب كروائي في المقام الأول. خورخي سمبرون 1923 2011 هو نتاج لأسرة عملت دوما بالسياسة، وناهضت الديكتاتور، وقد وجد الصبي نفسه في خضم الحرب الأهلية الإسبانية وهو في سن الثالثة عشرة، ولحسن الحظ فإن الأسرة كانت خارج البلاد عندما اندلعت الحرب فاتجهت الأسرة إلي عدة بلاد منها هولندا وسويسرا ثم اتجهت إلي فرنسا حيث انتهي خورخي من دراسته الثانوية، ثم درس الفلسفة بجامعة السوبرون، وانضم إلي المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي وما لبث أن تم القبض عليه وأودع أحد معسكرات الاعتقال النازية وهو معسكر البوشنوالد وقد أتاحت له هذه الظروف أن يعتنق الفكر السياسي الشيوعي، ووجد نفسه واحدًا من الأدباء المنتمين إلي هذا الفكر. عقب تحرير باريس عاد خورجي إلي باريس وبدأ حياته الأدبية بصياغة كتابه الأول عن مشاهداته في معسكرات الاعتقال، وقد فتحت له هذه المذكرات أبواب الشهرة، وما لبث أن عاد إلي العمل السياسي، فانضم من خلال المنفي إلي الحزب الإسباني الشيوعي الذي ظل يناهض فرانكو سنوات طويلة، وقد تمكن خورجي من التسلل مرات عديدة إلي إسبانيا تحت أسماء مستعارة عديدة، وقد استوحي من هذه التجربة قصة فيلم «الحرب انتهت» التي حولها آلان رينيه إلي فيلم له أهمية كبيرة ومن بطولة ايف مونتان الذي صار بطلا لأغلب أفلامه التي كتبها، كما أن سمبرون ألف كتابا كاملا عن صديقه مونتان أثناء حياة الممثل. في عام 1964، تخلي خورجي سمبرون عن الحزب الشيوعي الإسباني، وعقد اتفاقا مبهما مع الحكومة الإسبانية ليتحول من خلاله إلي معارض، وأن ينتقل بحرية بين فرنساوإسبانيا، لذا فإنه عندما أعلنت الملكية في إسبانيا عام 1977، حدث تراض بين الطرفين وتولي سمبرون منصب وزير الثقافة الإسباني بين عامي 1988 و1991 فيما سمي بالحكومة الاشتراكية التي تولي رئاستها فيليب جونثالث، وفي الوزارة واجه بعض الصراعات الخفية دفعته إلي الاستقالة. نشر سمبرون روايته «السفر الكبير» عام 1963، ثم جاءت روايته «الإعياء» عام 1967، وفي عام 1969 نشر روايته «الموت الثاني» لرامون مركادير التي حصلت في فرنسا علي جائزة فيمينا، وفي عام 1976 نشر رواية «السيرة الذاتية» لفردريكو سانشيث التي حصلت في إسبانيا علي جائزة بلانيتا. من الواضح أن سمبرون كان أكثر انشغالا بالإبداع السينمائي من تأليف الروايات حتي بداية الثمانينات من القرن العشرين، فنشر روايته «يا له من أحد جميل» عام 1980، وكان يكتب مباشرة باللغة الفرنسية، وفي عام 1981 نشر رواية «الجرابي» وهي كلمة ذات أصول أندلسية، ثم رواية «مونتان أو الحياة تستمر» عام 1983 حول سيرة حياة صديقه إيف مونتان، ثم قدم رواية «الجبل الأبيض» عام 1986 و«عودة نيتشايين» عام 1987 و«فردريكو سانشيث يحييكم» عام 1993، وفي العام التالي حصل علي جائزة فيمينا مجددا عن روايته «الكتابة والحياة» ثم نشر رواية «الشر والمعاصرة» عام 1995، وفي نفس العام نشر كتابا مشتركا مع الروائي البولندي الأصل ايلي فيسيل تحت عنوان «الصمت هو المستحيل» وفي عام 1998 نشر رواية «عودة كارولا نبهر» ثم رواية «الموت كما ينبغي» التي حصلت في سويسرا علي جائزة جان جاك روسو. في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لم يكف خورخي سمبرون عن تأليف الروايات في الفترة التي ابتعد فيها عن الكتابة السينمائية، ففي عام 2002 نشر روايته «الصنادل» ثم جاءت روايته الإسبانية «عشرون عاما ويوما» ثم «الرجل الأوروبي» عام 2005، وفي عام 2008 نشر كتابه «أين ذهب اليسار»، أما كتابه الأدبي الأخير فهو «مقبرة ذات طين من جليد». أغلب مؤلفات سمبرون سواء السينمائية أو الأدبية تدور حول تجربته الخاصة، منها روايات تدور في معسكر البنشوالد، فقد تم القبض علي الكاتب أثناء الاحتلال النازي لباريس باعتباره أحد رجال المقاومة، في روايته «يا له من أحد جميل» التي حاول فيها الكاتب أن يسير علي هدي الكاتب السوفييتي المنشق الكسندر سولجنتيسه في روايته «يوم من حياة ايفان دينوفيتش» التي وصف فيها سيرة ذاتية عن حياة كاتب معتقل في البنشوالد، والأحداث التي كان عليه أن يواجهها في يوم أحد من أيام الشتاء القارص، بطل الرواية فردريكو هو الاسم الحركي للكاتب حين كان رئيسا للحزب الشيوعي الاسباني المعارض، ويختار الكاتب من حين لآخر أن يعطيه اسما مستعارا آخر، مثل جيرالد في يوم الأحد الجميل هذا يفكر في الهروب من المعسكر بسببين: الأول هو الافلات من النازيين الذين أسروه، والثاني هو الهروب من النظام الايديولوجي الستاليني الذي تنكر لكل الذين تم القبض عليهم من اتباعه، وفي هذا اليوم يتساقط الجليد بشكل مكثف فوق التل العالي في المكان نفسه عاش قبل قرون أشخاص مثل «باخ» و«نيست» لكن الجليد الذي ألهم كل هؤلاء العمالقة أعمالهم تحول إلي كتل من النيران بالنسبة لجيرالد تبدأ الأحداث عند الفجر في ديسمبر عام 1944 ها هو اليوم الجديد ينسلخ من الأمس، والشاب الذي في الثانية والعشرين يرتدي ملابسه القديمة التي يحتمي فيها من صقيع الليل. هو شخص رافض أن يعقد أي صلة مع من حوله، فجميعهم يتكلم لغة غير لغته، سواء في أيديولوجياتهم أو في سلوكهم ابتداء من الحرس حتي المعتقلين ويصف الكاتب بشاعة ما يدور ابتداء من ساعات الفجر حتي ساعات النهار التالي، إنها لا تنتهي، يتحول الإنسان إلي رقم ينادي به، وإلي كتلة من الأوامر البشعة التي عليه أن يطيعها دون أن يكون له حق الاعتراض، ويمكن لهؤلاء الأشخاص متناقضي الهوية أن يتحدوا في شيء واحد هو إطاعة الأوامر. يختار سمبرون يوما حاولت فيه مجموعة من المعتقلين الروس الهروب من هذا الكوكب الغريب لكن أغلب الذين سبق لهم الهروب تم القبض عليهم، وعادوا إلي المعسكر مرة أخري لكنهم لا يكفون عن المحاولة الجديدة، أذكر أنني كنت أهرب داخل صمتي الذي يشكل لي أمنا، فلا أحدِّث أحدًا بما أشعر به، ولا بما أحسه، لذا فإنني أخرج من هذا الصمت الآن فوق الورقة. يتابع خورجي سمبرون الشخصية نفسها في روايته «السيرة الذاتية لفردريكو سانشيث» حيث يتناول مرحلة لاحقة من حياته ونضاله، فالنضال لم يكن شيئا ورديا، ولا رحلة سعيدة، بل هو معاناة تدفع بصاحبها إلي المتاعب المتوالية لهذا، فهذه رواية ليست للتسلية، ولكنها حدث مليء بالتوتر، فعلي المناضل ألا يتكلم إلا عند الضرورة، وعليه أن يصير صندوقا مغلقا يكتم فيه الأسرار، فلا يبوح بأسماء زملائه لأحد، حتي لرجال السلطة أنفسهم، وعليه أن يتحمل مصيره فوق راحتي يديه: «السياسة مصيري الذاتي، إنها أشبه بأفق ليس في حاجة إلي ضحايا جدد، ولا شك أن اعتلاء المناصب هدف سياسي كي يحقق من خلالها ما يريده لوجوده السياسي، وللناس من حوله». وعن تصوره ماذا يمكن لفردريكو أن يردد لو صار سمبرون في مقعد الوزارة، فقال: لم يتوقف فردريكو عند كونه وزيرا، لقد كانت لديه النية ذات يوم في أن يتوقف عن ممارسة النشاط السياسي بمجرد أن تسود الشرعية الديمقراطية. وعن رواياته ونصوصه في السير الذاتية، ومسرحياته والسيناريوهات حصل خورخي سمبرون علي العديد من التكريمات والجوائز، وأيضا عن مجمل أعماله، خاصة الأدبية وكما أشرنا فإنه في عام 1969 حصل علي جائزة فيمينا عن رواية الموت الثاني لرامون مركادير، كما حصل علي جائزة السلام التي يمنحها الناشرون الألمان عام 1994، والجائزة الأدبية لحقوق الإنسان عام 1995 عن كتابه «الكتابة أو الحياة» وفي نفس العام حصل علي جائزة مدينة الألمانية، ثم حصل في إيطاليا علي جائزة «مونيتو» عام 1999 وتم اختياره عضوا في مجلس إدارة أكاديمية جونكور عام 1996، وفي عام 2004 حصل علي جائزة أوليس عن مجموع أعماله، وفي عام 2007 نال الدكتوراه من جامعة رينز في المملكة المتحدة.