نختتم اليوم استعراض آخر الفقرات من فصل «من يراقب من في الصحافة السعودية ؟»Who censors who? من كتاب جون برادلي «تعرية المملكة السعودية» Saudi Arabia Exposed. وقد ترك المترجم عمدا بعض المصطلحات الجدلية كما وردت في الأصل (مثل: الشرطة الدينية، وشرطة الأخلاق، الوهابية، إلخ) رغم تحفظ التيار الديني عليها لكي يعرف هؤلاء الأخوة كيف توصف هذه الأشياء من قبل المراقبين في الخارج. والمترجم ينقل فقط عن المؤلف وهو لا يدعم أو يساند رواياته ومزاعمه حول مختلف الأحداث خاصة عن مسئولية الشرطة الدينية عن حادث حريق مدرسة البنات في مكةالمكرمة. والمترجم مستقل فكريا ولا يحب أن يصنف لحساب أي اتجاه والكلمات الموضعة بين هلالين (...) للمترجم. ورغم كون الفقرات جريئة جدا بالنسبة للسعودية، إلا أني وجدت فيها فائدة لجميع التيارات الفكرية وللحكومة السعودية ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام من حيث وجود نقد مبتكر لأمور الرقابة والصحافة السعودية بقلم مراقب أجنبي لا يسعي لمنصب ولا ترقية، وقد نغفل عن ملاحظتها بحكم موروثنا الثقافي والوهم الذي زرع في خلايا عقولنا المسمي «خصوصية»!! وهي فقرات مفيدة لجميع الكتاب والمسئولين العرب لأن الهموم مشتركة تقريبا نظرا لوجود وزارات إعلام تراقب الصحافة في معظم الدول العربية للأسف. وتجرأت علي ترجمتها ونشرها في هذا الوقت تحديدا لأننا في السعودية نعيش في عصر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي دشن حكمه أيده الله بالعفو الكريم عن ثلاثة ناشطين سياسيين ويتميز عهده بالتطوير الإصلاحي وتشجيع الحوار الوطني وإنشاء هيئات لمراقبة حقوق الإنسان. (26) النجاح الساحق ثم... الصمت التام!! ولأول مرة في تاريخ الصحافة السعودية نجحت حملة صحفية بإقناع الحكومة علي فصل مسئول كبير وهو رئيس تعليم البنات التي كانت تشرف عليها المؤسسة الدينية الوهابية وتم ضمها لوزارة التربية والتعليم الخاصة بتعليم الذكور. ووصلت أرقام توزيع الصحف عنان السماء. ثم صدرت فجأة أوامر لجميع الصحف بالصمت التام عبر سلسلة من المكالمات من وزارة الإعلام. وفي السعودية كما في الولاياتالمتحدة، وفرت الحرب علي الإرهاب عذرا مناسبا لتقليل الحريات وهي كارثة عظيمة للمثقفين في بلد لا توجد فيه حريات في الأصل. وعادت الأمور كما كانت عليه سابقا ليصبح نقد الشرطة الدينية تابو. (27) فشل التيار الليبرالي في استغلال الهجمات الإرهابية الهجمات الإرهابية والتفجيرات في السعوديةالتي شنها متطرفون دينيون لم ينتج عنها نصر وتفوق إعلامي لليبراليين كما توقع البعض في البداية ولكن بدلا من ذلك حدثت محاولة ومناورة ذكية وناجحة من المؤسسة الدينية للتفريق بين مبادئها وما حدث من إرهاب وهي استراتيجية ماهرة نجحت بفعالية مرة أخري في تهميش مزاعم الليبراليين . خشيت بعض القيادات الدينية المتصلبة أن يؤدي الضغط الصحفي المتزايد إلي إخراجهم من الحياة العامة وصدر بيان من بعض العلماء قال إن «الكتاب الصحفيين المتطرفين»، وهو وصف مذهل وغير مسبوق لليبيراليين(!!) أنفسهم كانوا يستغلون الحوادث الإرهابية لمهاجمة المؤسسة الدينية. المفتي العام (سماحة الشيخ) عبد العزيز آل الشيخ رفض علانية الدعوات لحل شرطة الأخلاق. الكتاب الإصلاحيون تم إسكاتهم، كما تم بأسلوب «أورويلي» حقيقي مرعب Orwellian Style ) نسبة لجورج أورويل. الذي كان أول من ابتكر فكرة تزييف التاريخ والتلاعب بمعاني المصطلحات في رواية «1984» المذهلة) اعادة تعريف مصطلحات «التطرف» و«الاعتدال». (تعليق المترجم: جورج أورويل George Orwell (1903-1950) : صحفي يساري وكاتب سياسي راديكالي وروائي بريطاني. اسمه الحقيقي إريك آرثر بلير Eric Arthur Blair. اشتهر بروايتيه الخالدتين «1984» و«مزرعة الحيوان» التي وصف فيها حال البشرية تحت حكم الأنظمة الشمولية التوليتارية وكان في الغالب يقصد بشجاعة الشيوعية الستالينية. واعتبرت نتائج استقصاء أدبي لجريدة «نيويورك تايمز» في عام 1998 هاتين الروايتين ضمن أهم مائة عمل روائي في القرن العشرين، حيث جاءت «1984» في المرتبة 13، وجاءت «مزرعة الحيوان» في المرتبة 31 وأطلق بعض المفكرين علي القرن العشرين «قرن أورويل» لتأثيره الطاغي علي لغة الفكر والأدب والنقد والكتابة السياسية ولأنه تنبأ في روايته المذهلة «1984» بتطور وسائل التجسس والسيطرة علي الأفكار حتي في الأنظمة الليبرالية التي تدعي الحرية والديمقراطية مثل أمريكا. والفكرة الرئيسة في رواية «1984» تدور حول «الرقابة» Censorship في دولة شمولية وهمية والتي عبر عنها أورويل بذكاء وابتكار وتبسيط مذهلين عندما تلاعب بسخرية لاذعة بالأسماء. فغير اسم وزارة الإعلام إلي «وزارة الحقيقة» Ministry Of Truth . كما استبدل اسم وزارة الحرب أو الدفاع إلي «وزارة السلام» Ministry Of Peace . وكذلك استبدل اسم وزارة التجارة/الاقتصاد بوزارة «الرخاء» أو«الوفرة» Ministry Of Plenty. كما ابتكر «وزارة الحب» Ministry of Love للتعبير عن أجهزة المباحث التي تلاحق المعارضين والمنشقين وتعذبهم حتي يتحول موقفهم من «كراهية» إلي «حب» النظام ممثلا في «الأخ الأكبر»!! والمترجم ينصح بقراءة رواية «1984» كما وردت في الأصل الإنجليزي لتصل الفكرة بروعة ودقة، نظرا لفشل معظم بل جميع الترجمات العربية في نقل الأفكار البديعة لأورويل كما كتبها. ويسجل التاريخ بحروف من ذهب للكاتب والمترجم السعودي الأستاذ عزيز ضياء رحمه الله مبادرته الرائدة ومجهوده المذهل لترجمة رواية «1984» وصدورها عن منشورات تهامة في جدة في الثمانينات بعنوان مختلف هو: «العالم عام 1984». ودفع أورويل اليساري الثمن باهظًا لهذا النقد الحارق للتوليتارية الستالينية حيث شن عليه رفاقه الشيوعيون في بريطانيا حربا عاصفة واتهموه بالعمالة لجهاز المخابرات البريطاني وتسريب معلومات عن زملائه الكتاب وهذه في الغالب تهم مرسلة وأكاذيب لا صحة لها. والخلاصة أن المترجم يعتقد بيقين صوفي أن أي شخص لم يقرأ (بأية لغة) هاتين الروايتين لا يمكن مطلقا اعتباره مثقفا بحال من الأحوال ونحن في القرن 21. (28) ظهور وتفوق جريدة الوطن السعودية ولعل ابرز توضيح لما يمكن ان يسمي «ربيع براغ» في الصحافة السعودية هو صدور جريدة الوطن التي تنشرها عائلة الفيصل الإصلاحية والمثقفة من الأسرة الحاكمة ومعاركها المشهودة مع الشرطة الدينية قبل ان تبدأ الهجمات الإرهابية في السعودية وينتج عنها ما يسمي ب «الحرب علي الإرهاب» . عندما صدرت الوطن عام 2000 فتحت آفاقا جديدة للصحافة السعودية كانت مغلقة تماما من قبل وكان شعار الصحيفة (اللوجو) هو سهم يقطع خطًا أحمر يرمز للاستعداد لتجاوز الحدود التقليدية في الصحافة ولكن شعبيتها الضخمة التي اكتسبتها بسرعة وبجدارة ولا تضاهيها في السعودية أي جريدة (باستثناء جريدة «الرياضية» البرتقالية سالفة الذكر طبعا!!) لها علاقة في الأصل بطاقمها التحريري المتميز واخراجها العصري. وتغطيتها الجريئة غير التقليدية للأحداث الداخلية والخارجية. الوطن لم تتجاوز الخط الأحمر عبر نقد بعض الشخصيات الكبيرة مثلا ولكنها قاربت من فعل ذلك حقا!! الوطن ميزت نفسها ايضا بعدم تحيزها لتغطية اخبار المنطقة التي تأسست فيها وهي منطقة عسير التي توجد جنوب غرب السعودية مما أكسبها جمهورا وشعبية جارفة في جميع المناطق بخلاف باقي الجرائد التي يكون جمهورها من نفس المنطقة. (29) جمال خاشقجي.. رئيس التحرير العصامي المهني الوحيد جمال خاشقجي رئيس تحرير الوطن الشهير كان زميلا سابقا لي في «عرب نيوز». جمال لم يمكث في منصبه في «الوطن» سوي بضعة شهور بعدما شن حملة عنيفة ضد الشرطة الدينية وتم فصله من منصبه. خاشقجي ليس صحفيا سعوديا عاديا. لقد عمل مراسلا في السودان، أفغانستان، الجزائر، والكويت. كما قدم تغطيات متميزة من جبهات صراع متعددة. وهو واحد من القلة بل ربما في الحقيقة رئيس التحرير السعودي الوحيد الذي وصل للقمة بعصامية وبجهده الشخصي وصعد بتدرج السلم من أوله عبر خبرات صحفية مهمة ومتراكمة بدون ان يلجأ للتملق عبر كتابة مقالات احتفالية وتمجيدية. إنه شخص ذكي وصحفي واع يعشق بعمق «المهنة» ويعشق وطنه بجنون ، وبالإضافة الي كل هذا فإنه رجل صالح ومتدين ويؤيد بشجاعة وجرأة بعض سياسات أمريكا حتي عندما غزت العراق لأنه ينظر إليها من الناحية الاستراتيجية حسب مصلحة بلده ومنطقة الخليج. ولهذا، وكما هو متوقع (من أعداء النجاح) يقوم بعض المتطرفين الأغبياء الذين يعتنقون بسذاجة «نظرية المؤامرة» بوصفه كعميل ل «سي آي إيه»CIA. وبسبب جرأته وشجاعته غير المسبوقة يندر ان تجد له شعبية لدي القراء المحافظين. وبعد أحداث هجمات 11 سبتمبر، وعندما دخل السعوديون مرحلة تأمل حقيقي ونقد قاس للذات، أصبح خاشقجي مناصرا قويا وشجاعا للتسامح مع الآخر ومحاربا للتطرف والإرهاب بقوة. عندما بدأ عمله كرئيس تحرير للوطن، حاول إدخال افكار جديدة في الصحيفة خاصة الآثار الإيجابية للعولمة لكن عندما ضرب الإرهاب السعودية في مايو 2003 وأحس السعوديون لأول مرة بحقائق الإرهاب المرعبة في بلدهم السعودية، ثار خاشقجي وغضب كثيرا وقرر عمل شيء تجاهه وذلك عبر حملة صحفية قوية ضد الإرهاب والتطرف ولكن أحد المقالات التي نشرت في جريدة الوطن كانت أكثر من قوية وهي بعنوان «الإنسان والوطن أهم من ابن تيمية» حيث هاجم الكاتب السعودي البارز خالد الغنامي تعاليم الفقيه ابن تيمية التي اعتبرها مصدر إلهام لبعض الإرهابيين ولهذا اعتبر بعض رجال الدين المحافظين ان الهجوم علي ابن تيمية هو هجوم علي الوهابية. وبعد فصل خاشقجي حصل علي وظيفة مهمة كمستشار إعلامي للسفير السعودي بلندن الأمير تركي الفيصل وهذا يعتبر كنوع من التعويض المناسب لخاشقجي ورد لاعتباره. وهكذا أصبح خاشقجي يدافع عن بعض السياسات السعودية التي ربما كان قد سمح بنقدها بصورة غير مباشرة خلال عمله كرئيس تحرير للوطن. وخلال ايام من وصوله الي لندن نفي في مقابلة مع BBC بي بي سي وجود تعذيب في السعودية. ولكن رغم قوله ذلك، لا يجب انتقاده بشدة علي هذه التصريحات والتخلي - جزئيا - عن بعض مبادئه وافكاره اذا كان فعل هذا هو ما يحتاجه للمحافظة علي وظيفته. فمن السهل، السهل جدا جدا، لهؤلاء الذين لا يعيشون تحت وطأة سلسلة من احكام التكفير والموت والتخوين والشائعات القذرة ان ينتقدوا محاولة شخص للنجاة Survival بنفسه وعائلته بالطبع. ولكن للأسف، الصحفيون الذين لا يملكون علاقات متميزة وحماية من الشخصيات النافذة في السعودية يعتبرون غير محظوظين. (30) داوود الشريان... أهم صحفي سعودي من حيث المصداقية داوود الشريان، وهو إسلامي معتدل ورئيس مكتب جريدة الحياة التي تصدر من لندن، هو أحد الكتاب الذين وقعت مقالاته ضحية لما يسمي «تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب». ولسنوات طويلة ومستمرة بثبات كان داوود يعتبر أهم كاتب سعودي يتمتع بمصداقية والكاتب السعودي الوحيد الذي كون لنفسه جمهورًا كبيرا خارج السعودية (بسبب قوة وجرأة وعمق مقالاته وتعليقاته القصيرة التي يعتبرها المترجم لا تقل جودة فنيا (مع اختلاف التوجه السياسي طبعا) عن المقالات المذهلة للكاتب الراحل العظيم أحمد بهاء الدين رحمه الله التي كانت تتميز بالتكثيف والعمق والقوة والفعالية والإقناع). لقد مُنع الشريان عن الكتابة عدة مرات من قبل ولكن في أواخر 2003 توقف فجأة عموده اليومي (ربما في جريدة الحياة). ولذلك اجد من اللائق (لكونه أهم كاتب سعودي بدون جدال) أن تكون له الكلمة الأخيرة في هذا الفصل عبر نشر جزء مما أخبرني به في لقاء خاص معه بمكتبه بالرياض في بداية تلك السنة: «لا نملك مساحة كافية للتعبير عن أفكارنا. سواء كانت عن الدين أو عن العلاقات بين المجموعات الإثنية (العرقية)... أو حتي قيادة المرأة للسيارة!! هناك العديد من المواضيع التي عندما تريد ان تكتب عنها يجب ان تدور حولها وتواصل الدوران بدون الدخول مباشرة فيها بحرية!!! إنها لا تزال تلك الحالة التي عندما يكتب صحفي سعودي مقال ينتابه الخوف بأنه لن يتمكن من المشي في الشارع في اليوم التالي!!! فشخص واحد في وزارة الإعلام يستطيع ان يرفع الهاتف ويقول «أوقفوا هذا العمود لمدة 3 شهور» ولا يحتاج مطلقا إعطاء أي سبب (للأسف طبعا!!!!) لقد كنت اكتب عمودا في جريدة محلية. أحيانا كان يتم ايقافي لمدة اسبوع أو شهر لأني كتبت عن مواضيع مثل الهواتف المحمولة أو وزارة الصحة!! لم تكن مواضيع سياسية ولم أتكلم عن الدين مطلقا. إنها أشياء عادية جدا فقط. وكنت أمتثل للأوامر وأتوقف عن الكتابة. ثم أنتظر مكالمة هاتفية اخري تقول لي يمكنك الكتابة مجددا. لدينا قائمة من الأشياء التي لا يمكن الحديث عنها. إنها ليست «قائمة سوداء»،القائمة السوداء يوجد فيها كل شيء (ممنوع) ... نحن لدينا «قائمة بيضاء» هذا مؤلم جدا ولا يحتمل (تعليق المترجم: القائمة السوداء Black List ترمز للممنوعات والقائمة البيضاء White List مصطلح جديد يعني في الغرب قائمة المسموحات أو المباحات، وهذا تعبير بليغ جدا من الشريان ويدل علي ألمعيته ونبوغه الفطري لأنه يعني «ضمنيا» أن الممنوع أكثر من المسموح في الصحافة السعودية وهذا أمر مزعج ومربك للصحفيين كما لا يخفي علي العقلاء!!!). السعوديون لا يثقون بصحافتهم المحلية في الأمور السياسية لأنهم يعرفون اننا ننشر وجهة نظر واحدة. معظم الصحف السعودية تنشر التطورات الإيجابية فقط. أي شيء فيه (لمسة) سلبية قليلة يحذف فورا. إنهم يقولون: «سنعطيكم الوقت لتصبحوا مهنيين Professional، وعندها نمنحكم الحرية!! ولكن هذا خطأ كبير لأن الحرية تحصد وينتج عنها المهنية. إذا كنت دائما تأمرني ان افعل هذا وأن افعل ذلك كيف يمكن ان أتطور وأنضج؟ انها معضلة محيرة مثل الدجاحة والبيضة: من الأول؟ الحرية أو المسئولية؟».