عيد الربيع يوم معروف لدي جميع المصريين وتحديد موعده عملية حسابية تشترك فيها التقاويم الثلاثة القبطي والهجري والميلادي إن ارتباط الحدث بمكانيته وزمانيته لم يكن أقل قيمة أو أهمية من ارتباط الإنسان بذلك الحدث لا كعادة شبت علي ممارستها الجماعة الشعبية فحسب ولا كظاهرة اجتماعية قديمة قدم الجماعة الشعبية ذاتها ولكن كعقيدة وقرت في قلب تلك الجماعة ويجب دراستها وإمعان النظر في بواطنها وخوافيها ومن بين تلك الأحداث أو العادات التي توارثنا ممارستها نحن أبناء الجنوب كابراً عن كابر منذ الفراعين القدامي حتي الآن بضع طقوس كنا ومازلنا نمارسها ومع ذلك لم نعرف لها اسما كما كان السلف فكل واحدة من تلك الطقوس لها خصوصيتها التي تنفرد بها واسمها الذي تعرف به بين أبناء الجماعة الشعبية مع كون هذه الطقوس رغم ارتباطها بالزمان والمكان إلا أننا لم نستطع تحديد موعدها بين شهور السنة وذلك في اعتقادي هو سبب خصوصيتها وتفردها فهي الوحيدة بين عاداتنا المتوارثة التي كنا نحدد موعدها بوقوفنا عند نقطة معينة ثم نعود للوراء لكي نحدد موعدها ولا تخطو للأمام كعادة كل شيء آخر وتلك النقطة هي يوم عيد الربيع أو شم النسيم. وهو يوم معروف لدي جميع المصريين صغارا وكبارا وكان ومازال تحديد موعده عملية حسابية تشترك فيها التقاويم الثلاثة ( القبطي والميلادي والهجري ) علي حد سواء وهذا ما يجهله الكثيرون من المصريين إذ لايعنيهم من ذلك إلا اليوم نفسه وهذه الطريقة كما رواها لي أحد الباباوات المسيحيين ولا أقول الأقباط - كما يزعم البعض - حتي لا أنفي عنهم الديانة فكلمة قبطي لا يختص بها المسيحي فقط ولكن تطلق علي المصريين جميعا من مسلمين وأقباط فهي كلمة فرعونية الأصل تعني " مصر" أو " إيجبت " وكان ينطقها الأهالي " جبط " فتحورت إلي " قبط " وظلت هكذا حتي هذه اللحظة وهذه الطريقة تتم بمراقبة اعتدال الشمس في فصل الربيع وهي عامودية علي خط الاستواء وتحديدا يوم " 23 مارس " من كل عام في الوقت الذي تتم فيه مراقبة القمر حتي يصير بدرا أي " يوم الثالث أو الرابع عشر من الشهر الهجري " ثم نضيف إلي ذلك أسبوعين فيكون يوم شم النسيم ومن شروطه أن يوافق يوم اثنين ويكون الأحد الذي قبله " عيد القيامة المجيد " عند الأخوة المسيحيين والسبت الذي قبله " سبت النور " ويوم الجمعة الذي قبله " جمعة الصلبوت " أو الجمعة الحزينة والخميس الذي قبله " خميس العهد " والأربعاء الذي يسبقه " أربعاء أيوب " و الثلاثاء الذي يسبقه يسمونه ثلاثاء العدس والاثنين الذي قبله يسمونه يوم الفقوس «القته» أما يوم الأحد الذي قبله يسمونه ( أحد السعف ) وهو عيد رسمي عند الاخوة المسيحيين ويسمي أحد الشعانين وكنا ونحن صبية نترقب قدوم هذه الأيام لما فيها من فرح وتعب ومغامرة وكنا نسميها أسماء غير التي ذكرتها سالفا إذ كنا نرتبها تصاعديا هذه المرة كالآتي : الأحد ( رّبّيط الخوص ) والخوص هو زعف الخيل- والأبيض منه علي وجه التحديد-وكنا من أجل ذلك اليوم نقضي يوم السبت السابق له في عناء الحصول علي السعف ومشقة ركوب الخيل ومطاردة الكبار لنا حتي لا نلحق الضرر بإناث النخيل التي تثمر وتوفر لنا احتياجاتنا من التمرالذي يعد من أهم المحاصيل الغذائية وذلك لأنه كان الوجبة الأساسية في فصل الشتاء وذلك بعد غليه وإضافة اللبن أو السمن البلدي إليه كواحد من مصادر الطاقة التي يحتاجها الجسم البشري في فصل الشتاء هذا فضلا عن أن الصبي منا لم يكن يكتفي بواحدة من السعف بل كنا نكثر منه بغرض بيعه للأطفال أو إهدائه للاخوة المسيحيين الاثنين (أكل الفقوس ) وهو «الكبير الحجم من ثمار القتة» إذ كان الاعتقاد السائد في ذلك اليوم أنه ذلك اليوم الذي لفظ فيه الحوت نبي الله يونان (يونس عليه السلام ) وقد أمره الله أن يغطي جسده بنبات اليقطين الذي قال عنه البعض أنه نبات الكوسة والبعض الآخر ذهب إلي أنه نبات القتة فالاثنان يمتازان بورقهما العريض ولأننا لا نستطيع أن نفعل مثلما فعل سيدنا يونس تينا به في الشفاء من الأمراض أن نغطي أجسادنا بالورق فكنا نتناولها كطعام في ذلك اليوم الثلاثاء (لطِّيع العدس ) وفي هذا اليوم كانت النسوة في القرية يقمن منذ بدء النهار بطهو بذور العدس الحية «العدس أبو جبة» شريطة أن تكون من محصول هذا العام ثم يتركنها حتي تبرد ثم يملأن أكفهن من ذلك الطهر ويلصقنها فوق حوائط الديار اعتقادا منهن بأن هذا اليوم تحديدا من السنة يكثر فيه الذباب ويتكاثر وعملهن هذا يمنع الذباب من التكاثر وبالتالي تخلو منه المنازل والشوارع الأربعاء ( سبوح الغبيرة ) والغبيرة نبات صحراوي يكثر وجوده في صحراءنا الغربية لكننا كنا يوم الثلاثاء الذي يسبق هذا اليوم نتكبد عناء البحث عنه إذ يتطلب الحصول عليه التوغل في الصحراء وكثيرا ما كان الكبار ينهوننا عن عمل ذلك خوفا علينا من الضواري التي تنشر في الصحراء والتي كنا نراها رأي العين ونسمع عواءها وغالبا ما كان الشباب الأكبر منا سننا يقودوننا إلي فعل ذلك ومن يتخلف عن فريق البحث لا يعد من الرجال ولا يجد من يعطيه بعضا منها ونظل طوال الليل نتفاخر فيما بيننا أينا أحضر منها أكثر من الآخر كما كنا نظل الليل كاملا في قلق ننتظر طلوع النهار لكي نذهب إلي النهر ونفعل كما فعل نبي الله أيوب حين أمره الله بعمل ذلك لكي يشفي من أمراضه وعلله التي عاني منها طويلا وكان النيل لنا مغتسلا باردا وشراب الخميس ( خميس العهد ) في هذا اليوم كنا نكتفي بمشاركة اخواننا المسيحيين فرحتهم بهذا العيد ولا أتذكر شيئا مما كنا نفعله سوي الذهاب معهم إلي الكنيسة أو إلي منازلهم وفيه يأكل المسيحيون( الكوماج ) بالعسل والكوماج عبارة عن عجين مسوّي بطريقة الكعك ولكن بدون لبن أو سمن وذلك لعدم انتهاء فترة الصوم بعد ولذلك يستبدل السمن واللبن بالزيت الجمعة ( الجمعة الحزينة عند المسيحيين أو جمعة الصلبوت ) و (جمعة المفروكة عند المسلمين ) وفي هذا اليوم كانت تختلف الأطعمة التي كان يتناولها كل منا فالمسلمون يأكلون المفروكة وهي عبارة العجين المقطع علي طريقة الشعرية وكانت تجهز بوضعها في مصفاة من الفخار أو الألمونيوم وتوضع المصفاة فوق إناء ملئ بالماء ويتم طهوها علي البخار المنبعث إليها من فتحات المصفاة المحكمة الغلق حتي لا يتسرب منها البخار ثم يضاف إليها العسل الأسود عند غير القادرين أو السكر والسمن البلدي عند القادرين وكنا في هذا اليوم نقسم أنفسنا إلي جماعات تصنع كل جماعة ما يشبه خيال الحقل يتبادلون حمله فيما بينهم ويلفون شوارع القرية ودروبها متصايحين بأعلي صوتهم " الجورابا يا علي " ماذا كنا نعني بهذه الجملة أو من علي هذا الذي كنا ننادي ؟ لم نكن ندري حتي كبرنا وأدركنا أن العبارة معناها " الظلم عاد يا علي " أما علي الوارد ذكره في العبارة لم نعرف من هو حتي هذه اللحظة أما المسيحيون فكانوا يتناولون ( الترمس المر ) والسر في هذا هو الاختلاف العقائدي حول السيد المسيح فالمسلمون فرحون لنجاة المسيح من أيدي اليهود والرومان والمسيحيون في حزن علي صلبه وتعذيبه ولا مزيد السبت ( هو سبت النور ) كما يسمونه المسيحيون أو" صفِّير البيض " وفي صبيحة ذلك اليوم كنا نستولي علي ما في أكنان الدجاج من بيض ونسقله في الماء المخلوط بالسعفر لكي يكتسب اللون المطلوب أو نلونه بألوان صناعية ، ربما كنا نخالف في ذلك العرف السائد في بعض المدن أو ما ورد بصنع هذا التقليد يوم عيد الربيع أو شم النسيم ولكن هذا الذي وجدنا عليه السلف وليقولوا هم ما شاءوا الأحد ( عيد القيامة المجيد ) عند الاخوة النصاري وفيه تجد كل ما يبعث في النفس الفرحة بلبس كل ماهو جديد وفعل كل ما من شأنه إدخال السرور إلي النفس ابتهاجا بقدوم ربيع جديد و دليل هذا ما تراه من تزاور وتبادل التهاني بين أفراد المجتمع من مسلمين ونصاري