في اللحظة الفاصلة التي يتأكد فيها أن العالم في مواجهة كارثة، تهدد بفنائه، يتوجه الرئيس الأمريكي في فيلم ( 2012 ) بحديثه إلي الجماهير في جميع أنحاء العالم : "اليوم نحن لسنا غرباء ..نحن أسرة واحدة تواجه الظلام معا ..نحن أمة واحدة، ولو اختلفت الديانات "..تلخص هذه الكلمات دعوة الفيلم وخطابه المباشر الموجه للإنسانية جمعاء. ولكن فيلم 2012 في الحقيقة هو عمل مفعم بالأفكار والرسائل والمعاني الجديرة بالتأمل والمراجعة، باعتبارها متضمنة في أحد أكثر أفلام هوليوود ضخامة إنتاجية عبر تاريخها كله. وفي مرحلة يختلف فيها الخطاب السياسي الأمريكي تماما من شراسة جورج بوش إلي أوباما حامل نوبل للسلام، بفضل خطبه ذات الطابع الإنشائي البليغ، وهكذا يختلف هذا الفيلم كثيرا عن غيره من الأفلام الكارثية التي تنتمي إلي نفس نوعه والتي يكون حرصها بالدرجة الأولي علي تحقيق الإبهار والمشاهد المثيرة للرعب. بينما تأتي أهمية الموضوع والمضمون وعناصر القصة والسيناريو ورسم الشخصيات في المرتبة الثانية . ومن خلال هذا الفيلم أيضا أصبح بالإمكان، ودون أي تردد استخدام أفعل التفضيل ،ومنح المخرج رولاند إميريتش بارتياح لقب صانع الكوارث الأول علي الشاشة حتي تاريخه. ويأتي تمكن إيميريتش من هذا النوع وسيطرته عليه، وقدرته علي توظيفه في عرض أفكار ومضامين مهمة بعد سلسلة من الأفلام الناجحة التي تعد من روائع السينما العالمية ومنها (يوم الاستقلال ) ( ويوم ما بعد الغد ). وهو يتمكن من تحقيق المصداقية لدي المشاهد ووضعه في قلب الأحداث اعتمادا علي نصوص ووثائق تاريخية وتوقعات تمتزج فيها الخرافة مع بعض الأسانيد أو الفرضيات العلمية مع النظريات القديمة مع المؤلفات الخيالية. اسطورة شعب يفترض فيلم 2012 تحقق أسطورة شعب المايا الخاصة بانتهاء العالم يوم 21 ديسمبر 2012 بفعل ظاهرة كونية تسبب مجالاً مغناطيسياً قوياً يذيب قلب الأرض ويعكس قطبيها، فتتفجر البراكين والزلازل المدمرة. وتبدأ الأحداث في عام 2009 برحلة إلي الهند يقوم بها باحث أمريكي أدريان هيلمسلي - كويتيل إيجيفور - حيث يلتقي بزميله هناك ليطلعه علي ملاحظات شديدة الخطورة عن وقوع أكبر ثوران للشمس في تاريخ البشرية سبب أعلي نسبة حرارة ..كما أنه و لاول مرة تسبب الجزئيات تفاعلا فيزيائيا. تصل التقارير سريعا إلي رئيس الولاياتالمتحدة ليبدأ في إعداد خطة لمواجهة هذا الخطر المحدق. صورة كونية ينجح السيناريو الذي كتبه المخرج بالتعاون مع هارالد كلوزر بمهارة في أن يغزل خطوطه التي تمتد من الولاياتالمتحدة إلي الهند إلي الصين وغيرهما من بلاد العالم. فتتشكل صورة بشرية كونية في بناء محكم منفصل متصل لشخصيات متنوعة سواء كانوا علماء أو مسئولين يدركون ما سيحدث، أو أشخاصا عاديين ستطاردهم الكارثة. يتفنن النص أيضا في تحويل كل ما هو جاف وجامد إلي لين وبسيط ومفهوم مستعينا بكل الوسائل الممكنة بما فيها الرسوم التوضيحية الكاريكاتورية المتحركة. وهو يتمكن من إيجاد معادل موضوعي من الدراما والشخصيات لكل ما يريد التعبير عنه في إيقاع محكم، وربط دقيق ينتقل من الحوادث الفردية إلي الظاهرة العامة ،ومن الشخصيات العادية إلي كبار المسئولين ورؤوس الدولة. وهو ينجح في جعل هؤلاء الأشخاص لا يختلفون كثيرا عن الشخصيات العادية فيرسم ملامحهم بدقة وعناية وبتفاصيل تكشف عن جوانبهم الإنسانية ونوازعهم الشخصية. إنهم ليسوا مجرد أنماط لمسئولين يرتدون الملابس الرسمية، ويطلقون البيانات والتصريحات ولكنهم بشر من لحم ودم ومشاعر، وإذا كانت هناك شخصيات لها وزنها العلمي والسياسي علينا أن نتابعها، إلا أن الاهم من هذا والأكثر تأثيرا في جمهور السينما العادي هم شخصيات عادية مثلهم ، نتعرف عليهم عن قرب ونتلمس مشاعرهم ونتعاطف معهم ونتمني نجاتهم، وليكن سبيله إلي هذا الروائي المغمور جاكسون كورتيس - جون كوساك المنفصل عن زوجته كاتي كورتيز - آماندا بيت. فتقع الكارثة في يوم خروج كورتيس في نزهة خلوية مع أطفاله حيث ستتأكد لديه المعلومات بشكل تراكمي وغير مصطنع، مع بعض المصادفات الدرامية التي تطلعه علي سبيله إلي النجاة، ويتوازي مع صراع هذه الأسرة والعالم كله من أجل البقاء، صراع من نوع آخر بين الباحث إيجيفور وكارل أنهيوزر - أوليفر بلات - مسئول الحكومة الحريص علي الحفاظ علي سرية الأمر لحماية النظام والدولة : "أن مهمتك معرفة متي ينهار كل شيء ..ومهمتي هي الحفاظ علي الحكومة" كوارث متلاحقة عندما تبدأ الكوارث المتلاحقة في الوقوع، سنري معظمها من خلال كورتيس وأبنائه ومطلقته وعشيقها الجديد. ويتحول الفيلم في تلك المشاهد إلي ما يشبه ألعاب الفيديو جيم، ولكن عصا التحكم في يد المخرج وليس الجمهور، حيث يسقط الضحايا وتنهار المباني والمدن وتتوالي البراكين والزلازل وهي تطارد البطل وأسرته التي تنجو دائما في آخر لحظة. لا مناظر قريبة لجثث أو مصابين أو دماء ولن تري لقطات تفصيلية ميلودرامية للحظات مواجهة الموت ولكنك سوف تعرف مصائر الشخصيات التي تتعرض له .. وسوف تري بعينيك دمار عالم بأكمله، وستعرف من خلال الأحداث عن فناء كل البشر، إلا قلة قليلة كتب لها أن تنجو عبر السفن أو الأفلاك التي اعدت لإنقاذ كبار المسئولين، ورجال الأعمال وأصحاب الجينات الأقوي من البشر علي غرار سفينة نوح، ولكن القدر سوف يلعب دوره أيضا في الاختيار، وقد يمنح فرصة الإنقاذ لبعض من العباد الفقراء والمحظوظين ، علي حساب آخرين كان مخططا لهم من قبل المسئولين أن يكونوا علي متن السفينة. وبعد رحلة شاقة وطويلة ومرعبة تتمكن الأسرة من الوصول إلي موقع ركوب سفن النجاة، وهناك تجتمع كل الشخصيات وسط آلاف من البشر يسعون للصعود والنجاة، وقد تبدو بعض المشاهد والمواقف في تلك المنطقة من الفيلم للمشاهد الخبير أقرب للأكلاشيهات، بل إن مشاهد من هذا النوع بإمكانه توقع كثير من الأحداث والتفاصيل قبل وقوعها في الأجزاء الأخيرة من الفيلم مثل سقوط الملياردير القاسي المتغطرس قبل صعود سفينة النجاة ..وتمكن الكلب من الدخول في آخر لحظة .. وعودة الوئام بين الأسرة من جديد بعد هلاك العشيق وفشل الزوج في إنقاذه. ولكن من بإمكانه اعتبار أن توقع الأحداث يمكن أن يفسد متعة المشاهدة في فيلم كهذا. قمة الإثارة ولا يعتمد المخرج فقط علي قدرته الخارقة في صنع مشاهد قمة في الإثارة للأسرة التي تطاردها الأهوال وتنجو دائما في آخر جزء من الثانية، بينما العالم ينهار علي بعد سنتيمرات من حولها ومن خلفها وإلي جوارها، ولكنه يحرص علي أن يصل إلي هذه المشاهد بعد أن يكون قد حقق درجة عالية من الصدق والدقة في رسم الشخصيات والأجواء. تتطور الأحداث ببطء وهدوء خلال الثلث الاول من الفيلم لتأسيس جغرافية الأماكن الممتدة في مساحات واسعة من الأرض والتعريف بالشخصيات ورسم خريطة العلاقات الواسعة ولكنها سرعان ما تنطلق في تدفق وحيوية بلا مثيل بعد هذا التأسيس وتحقيق الحميمية بين المشاهد وواقع الفيلم وشخوصه الرئيسية. موقع العرب في هذه النوعية من الأفلام قد تجد طولا مبالغا فيه في مشاهد الإثارة أو الخدع دون ضرورة درامية، بل إنها قد تتعارض في طولها أحيانا مع منطق الزمن أو الإيقاع العام للعمل، ولكن المخرج يصر علي وجودها لأنه لا يملك شجاعة حذفها أو اختصارها. أما في 2012 فعلي الرغم من طول زمن العرض الذي يتجاوز الساعتين والنصف إلا أنني لا أعتقد أن هناك ما يمكن حذفه، دون أن يؤثر علي البناء الدرامي والسينمائي للفيلم. وهكذا ينجح إمريتش في صنع الصدق لصورة أقرب ما يكون ليوم القيامة اعتمادا علي الخلفية الجادة تستند علي فرضية علمية ومنطلقا إلي نقد جتماعي وسياسي ذي رؤية بسيطة ومحددة مع التركيز علي جوانب إنسانية ولمحات عاطفية مؤثرة مع بعض لمسات من التلميحات الكوميدية الساخرة، ولكن كل هذا في ظل أجواء من التوتر التي تصل إلي أقصي درجاتها مع مجموعة من المشاهد الكارثية التي يحققها بأعلي درجات الإبهار والتمكن، ستنضم إلي قائمة المشاهد التي لن تمحي من ذاكرة السينما. دروس مؤقتة وإضافة إلي كل ما حققه الفيلم يبقي الهدف الأهم في رأيي الذي تمكن من تحقيقه هذا المخرج الألماني الأصل الهوليودي الهوية. فأمريكا لم تعد قادرة فقط علي قهر منافسيها وأعدائها وتلقين كل من يهددها أو لا يخضع لها درسا مؤقتا علي الشاشة، بل أضاف لها إميريتش قدرة جديدة علي إنقاذ الجنس البشري وحفظ سلالات الكون من ذوي الجينات الوراثية الأقوي في مواجهة كارثة تدمير الكوكب بأكمله، ولكن فيلم إميريتش أيضا يعبر عن سعي السينما الأمريكية نحو تحقيق حالة من التفاعل مع الوضع الراهن العالمي واحترام قواه المتقدمة والصاعدة في مختلف أنحائه، فتمنحهم درجات متفاوتة في المشاركة في تحقيق هذا الإنجاز الإنساني علي الشاشة، فيبرز دور الصين والهند وبعض الدول الأوروبية بشكل خاص، مع بعض التواجد للدور الروسي الذي يتأرجح بين كونه محل تقدير أو سخرية. أما العرب فهم محل سخرية فقط وإذا قدر أن يكون لهم وجود أو بقاء فهو بفضل أموالهم، فهل ظلم الفيلم العرب وتعامل معهم بعنصرية، أم أنه وضعهم في المكانة التي وضعوا هم فيها أنفسهم؟