البئر هي مصدر المياه الذي حفره متبرع من اجل أن يسقي منه الغير بدون مقابل، قبل مفهوم الدولة، فهي باتت بمفهوم الدولة العصرية رمز للمرفق العام، حيث المرفق العام هو كل نشاط تديره الدولة، وتهيمن علي إدارته بقصد تحقيق الصالح العام، وإشباع حاجات ذات نفع عام، وإذا كانت عطلة البئر نتيجة تركها مهملة بدون توسعة، أو عملية تطهير مستمرة، وبلا راع يقف عليها، فكذلك يكون شكل إهمال المرفق العام، حيث يسير أداء المرفق العام بلا اطراد، ولا انتظام، وغياب راعي البئر، معادل لغياب الموظف العام، أو وجوده علي نحو مناف لقواعد حسن سير وسلوك الموظفين العموميين، فالبئر المعطلة في الآية هي رمز لانهيار أداء المنافع العامة للمال العام في المجتمع من قبل القائمين عليه من رجال الحكومة، وعندئذ تكون الوقفات الاحتجاجية التي سبقت ثورة يناير هي مؤشرات، وأمارات عن وجود عطل في البئر، لم يلق بالاً لدي القائمين عليه. وقد تعددت صور البئر المعطلة في الواقع المصري قبل يناير، حيث انتشار صور الأداء القاصر للخدمات العامة في الدولة بين قصور في التعليم، والعلاج، والمواصلات، وعدم التزام القائمين عليه بالأطر العامة المنظمة لحسن سير العمل به من إخلال بالمواعيد، وانتشار الرشاوي، والمجاملات، وتقديم الخدمة العامة بات مرهونًا بوجود المسئول، ولم يعد أداؤها نتاج استراتيجية مؤسسات في الدولة، وغابت القدرة علي تقديم الخدمات الطارئة، ومن قبيل عطل البئر خصخصتها، وتحويلها من مرفق عام إلي مرفق خاص، الهدف منه استثماري، فهو وإن كانت البئر تنضح بالماء، إلا أن جعل الانتفاع بها بمقابل، قد جعلها بئر معطلة، فالبئر هي رمز للقدر المتيقن من الأداء المجاني للخدمات العامة، بأوليات مفهوم التكافل الاجتماعي، والتي إن تمت خصخصتها كان مبشراً بالثورة والتمرد، وعندما يكون هدف الواقف علي البئر سقاية أكبر عدد من أقاربه المحاسيب، ويتحول الباقون إلي رعاع، ويصبح هدف القائم علي البئر العام البقاء لأكبر وقت ممكن علي رأس البئر لتحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية، ويتهرب من وقوعه تحت مسئولية تعطيل البئر فتكون البئر قد تعطلت، وأذن المرفق العام بالخراب المؤسس للثورة. بئر موارد الدولة المعطلة؟ وقف علماء اللغة عند كون البئر هي حفرة الماء، إلا أنها بالمفاهيم الحديثة تتسع وتمتد لتشمل كل الموارد الطبيعية من آبار بترول، ومصادر للثروات المعدنية، وحتي الطاقات والموارد البشرية، لتصبح عطلتها في سوء استخدام تلك الموارد من قبل القائمين علي الحكم، فرغم وجود هذه الموارد إلا أنها غير مستغلة الاستغلال الأمثل، أو مستغلة علي نحو قاصر، وهذا لا علاقة له بما كان يدعيه أولي الأمر من وجود كساد اقتصادي عالمي، فإن النظرة المقارنة لمجتمعات اقل منا في عدد آبارها، وإلي أحوال عمرانها ورفاهية شعوبها، يكشف عن مدي هذا القصور في إدارة آبارنا، وإلي تعطيلها، إلي الدرجة التي بات فيها الشعب يؤمن بأن عطلة آبارنا بإرادة الحاكم، وليس بسبب نفاد حيلته في إدارة وتصريف شئون البلاد، وان كانت حيلته قليلة عاجزة، فوجب عليه أن يفسح المجال طواعية ليتولي الأمر من هم أحيل منه في التعامل مع آبار الدولة، وإلا فالثورة هي وسيلة تلك الإفساح، ولذا جعلت البئر المعطلة مقدمة من مقدمات الثورات، كما أن البئر تعطلت متي كانت مواردها حكراً علي فئة دون غيرها من أبناء المجتمع، هذا الاحتكار ما يؤدي إلي قيام مجتمع طبقي، لا توجد فيه عدالة في توزيع موارد الدولة، ولذا كانت البئر المعطلة قرينة وجود الظلم في المجتمع، او عندما تضن الدولة بماء آبارها علي أبنائها، وتقوم بتصدير مياه آبارها للآخرين، فقد عطلت البئر، وان كان ماؤها غزير إلا انه ذهب لغير أبناء الشعب . البئر الإعلامي المعطلة؟ ليست مياه الآبار هي كل ما يروي الأفواه، وإنما يندرج تحت مفهوم البئر، الوعي بالواقع، لتصبح البئر رمزاً لمصدر هذا الوعي، والذي يعبر عنه بمفهوم العصر الجهاز الاعلامي في الدولة، فإذا كان الإعلام مخصص للحاكم، فهو بئر معطلة، لأنه لا يسقي بقية قطاعات المجتمع، ولا يعبر عن رأيهم، فالبئر الاعلامي المعطل، هو البئر الذي يضلل المجتمع، بجعل مياهه قاصرة علي منبع واحد دون سواه، فالديمقراطية هي وجود أكثر من بئر تستوعب كل ثقافات المجتمع، وتسقي الناس علي اختلاف مناهلهم وانتماءاتهم الثقافية، ومن هنا كان معني المشارب الثقافية المختلفة، والتي يجب أن تكون موزعة بالتساوي كمصادر لري الوعي، لدي الشاربين كمتلقين، أما أن يتحول الإعلام إلي بئر واحد، قاصر علي نوع واحد من التوجيه الاعلامي، فهذا هو الظلم المؤذن بالثورة علي النظام، لغياب الشمولية عنه، وتعطيل البئر عندما تتولي الرقابة الثقافية في المجتمع كبح كل رأي مخالف للحاكم، وتقوم الرقابة بردم ما خالف رأيها من الآبار، عندئذ يكون الظلم قد تفحش، واقترب زمن التمرد، وهو ما عرف اصطلاحاً بالثورة علي تجفيف منابع الوعي لدي أبناء المجتمع. القصور المشيدة! إن القصر المشيد الوارد في ثلاثية مفردات الثورة في الآية 45 من سورة الحج يحقق دلالته في معاني وجود المنتجعات، والمدن المسورة، والقري السياحية القائمة في المجتمع المصري بصورة صارخة قبل يناير 2011م، فهي تعكس تنامي الارستقراطية الطبقية، علي نحو منفصل، ومنعزل عن المجتمع، معلنة رفض الأغنياء الخضوع لقوانين المجتمع، وإعلان- فضلاً عن- انفصالهم المكاني استقلالهم بالقانون الذي يطبق عليهم، والقصر المشيد كمؤشر علي التناقض المتفاوت بين طبقات المجتمع، له صور أخري في المجتمع المصري، حيث تسير السيارات الفارهة، المكيفة، إلي جوار التوك توك، ووسائل المواصلات العامة المختنق ركابها بداخلها، كما تشير القصور المشيدة إلي أزياء الأغنياء، وملابسهم الثرية، إلي جوار أزياء العامة الفقيرة الرثة، والي مطاعمهم الخاصة، إلي جوار عربات الفول، وبإضافة صورة القصر المشيد إلي جوار غياب المشروع التنموي الاقتصادي، وفساد المرفق العام، يكون القصور المشيدة، بمختلف صوره داخل المجتمع المصري، مفجراً للتناقض الصارخ، ودليلاً علي وجود تنافر في بنية هذا المجتمع، فإذا كان الاقتصاد يشكو فقراً، والمرافق العامة منهارة، فمن أين جاء الأغنياء بأموالهم لبناء هذه القصور وتشييدها؟ فإن هذا إلا دليلاً علي الفساد الاقتصادي، وسوء عدالة في توزيع الموارد المالية، أدي إلي توحش الطبقة الارستقراطية، وازدياد اتساع الفجوة الطبقية بين طبقات المجتمع، فكان ذلك من مقدمات الثورة، حيث كشفت القصور المشيدة عن أن الاقتصاد لا يشكو فقراً في مجمله، وإنما يشكو تسلطاً، واستغلال طبقة لبقية طبقات المجتمع، والتربح بغناها من عائدات احتكارها لمقدرات ما دونها من الطبقات من احتياجاتهم الأساسية. الأزمة غياب المشروع النهضوي، وفساد المرفق العام، وازدياد الغني الطبقي، من شأنه أن يجعل الصدور تضيق، لشعور الظلم، وتندلع الثورة من حيث مكمن الهدوء في ذلك المجتمع، فالطبقات المتوترة حينما تقوم بثورتها، لا تكون صورتها معتدلة كما حدث في يناير، فلم تحدث اقتحامات للمدن الخاصة، ولا تحطيم لسيارات الأغنياء في الطرق العامة، وإنما قامت بالثورة الفئة المعتدلة، واتجه التوتر إلي الرمز القريب من الجماهير، والمشخص للسلطة الحاكمة، التي غيبت المشروع التنموي، وعطلت البئر، ومنحت التسهيلات للأغنياء، فكانت الثورة في حالتها العنيفة موجهة لرمز رجل الشرطة، الذي نُحر كقربان علي أقدام النظام القديم، ليمد في عمره السلطوي لدقائق معدودة، وكانت الشرطة هي اقرب محاولات التخلص من السلطان الذي منع، وسهل، منع المشروع النهضوي، وسهل احتكار الأغنياء لمقدرات المجتمع، ولذا فالثورة المصرية، لم يقم بها المتطرفون فكرياً، وإنما قام بها المعتدلون، بدليل وجود وجوه من العهد السابق عليها مازالت في مقاعدها السلطوية، بل تقدم وجوه مماثلة لوجه السلطة القديم، تعلن عن نفسها لتولي السيادة بعد الثورة، وتبقي الثورة تعلن عن نفسها عبر طلبات مجتمعية كان من السهل تحقيقها لو كانت الأوضاع مستقرة، والقائمين علي الحكم يتمتعون بدرجة الوعي المهني اللازم، ولكن الخواء علي العرش، هو الذي فصل الحاكم عن شعبه بسبب هدوئه المطمئن لتسلطه، واستمراره في الحكم لفترة طويلة، فاختلفت اهتماماته في بداية حكمه، عنها في العشر سنوات الأخيرة، ولذا كانت أهم مميزات تداول السلطة، هي أن يبقي الحاكم في تلك المساحة الزمنية التي تحقق له القلق في الحكم، ولشعبه الاستقرار الآمن تجاهه، ولذا يصبح القلق من تصدر الفكر المتطرف للسيادة السلطوية حاضراً بعد اندلاع الثورة أكثر من حضوره قبلها، فالمعتدلون الذين قاموا بالثورة، لا يعبرون إلا عن أنفسهم فقط، بينما غرقت عموم الجماهير في طلبات فئوية خاصة، هنا يأتي مكمن الخطر بعد تلك الثورة في استيلاء المتطرفين علي الحكم، لان أهداف المعتدلين قد تحققت بتغير رمز النظام وان بقي النظام قائماً بمفرداته، فانفسح المجال بهذا البقاء لكي يمنح الفرصة المواتية للفكر المتطرف لاستغلال الظرف المتغير لكي يصعد متملقاً العقل الجمعي بما له من خبرة تنظيمية سابقة في ظل النظام القديم تلك الخبرة التنظيمية الغائبة عن شباب الثورة، عندئذ يكون شباب الثورة المعتدل قدم ثورتهم هدية مجانية للمتطرفين فكرياً، وقتها لن يسعف الشباب خبراتهم في الثورة علي هؤلاء من أجل التغيير مرة أخري.