تعد قيمة الأيام المماثلة كالتي تمر بها البلاد حالياً، كامنة فيما يتم نيله من مكاسب دستورية تؤسس الحرية مستقبلاً، تلك المكاسب تترجم في شكل تعديلات دستورية، ولكي لا يتحول الواقع السياسي إلي نص مفارق للواقع، وينفصل عن أغراضه التي أسسته، وأملت تعديله، وجب مناقشة ما يطرح من تعديلات دستورية بموضوعية، لكي يظل النص الدستوري معبراً عن الواقع، ونابضاً بنبض الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير. مقدمات يجب أن تكون الانتخابات الرئاسية من أجل التعبير عن التيارات الفكرية السياسية السائدة المختلفة داخل المجتمع، وليست من اجل اختيار رئيس للدولة فقط من بين عدة أشخاص مرشحين، ولذا فان الخلل في اختيار الرئيس يبدأ من عدم وجود نظام حزبي يعتمد عليه في انتخاب أعضاء البرلمان والمجالس المحلية التي سوف تعتمد ترشيح أي فرد للرئاسة، فهناك حدان للترشح لمنصب رئيس الدولة: الأول، أن يتيح الدستور الحق في الترشيح لكل من تنطبق عليه الشروط، والثاني، الحد من المرشحين غير الجديرين للانتخابات الرئاسية، وهو ما نص عليه الدستور في أعداد المزكين للمرشح، ولذا فان وجود مستويين من أصحاب الحق في التزكية بين البرلمانيين، وأعضاء المجالس المحلية، علي النحو الوارد في الدستور الحالي يمنح فرصة للبعض علي الحصول علي تزكية متميزة عن البعض الآخر، وذلك بإجبار طالب الترشيح علي جمع عدد معين من توقيعات البرلمانيين، أو أعضاء المجالس المحلية. مقترحو الترشيح إذا كانت المادة 76 من الدستور المعطل تنص علي أن"ينتخب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر. ويلزم لقبول الترشيح لرئاسة الجمهورية أن يؤيد المتقدم للترشيح مائتان وخمسون عضوا علي الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسي الشعب والشوري والمجالس الشعبية المحلية للمحافظات" فهي تحتاج إلي مراجعة خاصة، ترجع أهمية هذه المراجعة لكي نقف علي ملاحظة كيف سيكون مسار التعديل المنتظر؟ فالمادة 76 جعلت حق الموافقة علي ترشيح رئيس الجمهورية المبدئي، أو"المؤيدين" للترشيح لرئاسة الجمهورية بنص المادة، أو كما ورد في الدستور الامريكي بمصطلح"المزكيين" للترشيح، او "مقترحين" الترشيح كما في الدستور الفرنسي هم: أعضاء مجلس الشعب، و أعضاء مجلس الشوري، و أعضاء المجلس الشعبي المحلي في المحافظات، أي أن اختيار رئيس الدولة يعتمد في أصل منشأه علي اختيار بعض أعضاء التمثيل النيابي، وإذا كان الأصل الذي يقوم عليه النظام النيابي بتوافر أربعة أركان به هي: وجود برلمان منتخب، وان يمارس سلطات فعلية، وان يمثل العضو فيه الأمة كلها وليس الدائرة التي انتخبته، واستقلال البرلمان مدة نيابته عن هيئة الناخبين، وعليه فان اختيار بعض أعضاء البرلمان لرئيس الدولة لكي يزكي باختيارهم هذا للترشيح لشغل منصب رئيس الدولة، ينطوي علي تناقض مع الأركان التي يقوم عليها النظام النيابي الممثل في أعضاء البرلمان وذلك علي النحو التالي: 1- إذا كان عضو البرلمان أثناء عضويته يمثل الأمة كلها، وليس الدائرة التي انتخبته، فان هذا يصادر علي القيمة المرجوة من تلك التزكية التي يقوم بها هذا العدد المحدد من أعضاء البرلمان بحجة إحداث تمثيل لهذه التزكية علي المستوي الشعبي المتنوع للدولة. 2- كما أنها تنفي قيمة الهدف من التوجه الحزبي السياسي للعضو البرلماني، فما قيل عن تمثيله لكل أبناء الأمة، يخرجه من إطار انتمائه الحزبي وهو يقوم بتزكية المرشح للمنصب، ولذا لم تعد هذه التزكية ترجمانا صادقا لحالة انتماء سياسي لتيار معين، فلم تعد هناك قيمة لهذه التزكية تكشف عن توجهات المتقدم لشغل المنصب المُزكي. 3- وإذا كان البرلمان مدة نيابته مستقلاً عن هيئة الناخبين، فكيف تكون هذه التزكية للمرشح للانتخاب لمنصب رئيس الدولة قادمة من القاعدة الشعبية لهيئة الناخبين؟ والتي هي باتت منفصلة بالاستقلال عن أعضاء البرلمان، فأعضاء البرلمان لهم فقط حق التعبير عن السيادة الشعبية ككل في مجملهم، دون أن يكون للشعب عليهم الحق في إبداء الآراء عليهم، أو توجيههم إلي من يقوموا بتزكيته للترشيح لشغل منصب الرئاسة أم لا. 4- كما أن تلك التزكية عندما تقوم معتمدة علي انتماء البرلماني السياسي الاقليمي لدائرته، أو انتمائه السياسي لحزبه، ستؤدي إلي استبعاد الحركات السياسية التي ليس لها تمثيل برلماني من إمكانية الحصول علي التأييد اللازم ليكون لها مرشح في الانتخابات الرئاسية. وعليه.. فان تزكية أعضاء البرلمان بنوعيه مجلس الشعب، والشوري تكون من منطلق التمثيل النيابي العام، وليست نتاج انتماء معين لدائرة انتخابية أو لحزب سياسي، ولذا يجب أن تكون بالمادة 76 ما يشير إلي شخصنة تلك التزكية، بعيدا عن الانتماء الجغرافي، أو السياسي للعضو المؤيد. ولا شك أن للبرلمان المصري سابقة في هذا الصدد عندما استقل بإرادة أعضائه عن إرادة الشعب، ففي العام 1979م بمناسبة معاهدة السلام، حين صادر البرلمان علي حق الشعب في الاستفتاء عليها، لتصبح إلي اليوم هذه المعاهدة مرتبطة بشكل الحكم في مصر، وخاضع الالتزام بها لشخصية الحاكم، بسبب مفارقتها لموافقة الإرادة الشعبية ككل. نشر أسماء مقترحي الترشيح يجب من اجل تحقيق الشفافية أن يتم نشر أسماء مقترحي الترشيح للانتخابات الرئاسية، وذلك من اجل الحيلولة دون ترشيح أشخاص غير جديرين لشغل المنصب، وحتي لا تتحول الانتخابات الرئاسية لمجال لسطوة رأس المال، فاعلان أسماء الأعضاء الذين قاموا يتأييد الترشيح، وتزكيته، سوف يربط بين المرشح، وبين من زكوه أمام الجماهير، ولما كانت فرصة التزكية، أو التأييد لا تمنح للعضو إلا لمرة واحدة يتمكن من خلالها من أن يكون له مرشح واحد فقط للانتخابات الرئاسية، فان ذلك سوف يجعل قرار تلك التزكية يتخذه العضو عن قناعة سياسية بشخص المرشح، ليس عن أهواء، فسيعلم الشعب من إعلان اسمه قرين مرشحه إلي أي مدي كان العضو الذي انتخبه مسيئا لاستخدام حقه الدستوري في اختيار المرشح للانتخابات الرئاسية، أو ذلك التأييد مستقبلاً عندما يستغل قربه المفترض من الرئيس الذي سبق وزكاه للترشيح للحصول علي امتيازات خاصة أثناء فترة حكم من أيده بالترشيح، ومن ثم لزم الإعلان عن أسماء هؤلاء المزكين، والمؤيدين لترشيح من يرونه لشغل منصب رئيس الدولة، وان ينص في الدستور علي لزومية هذا الإعلان، وإلا امتنع الحق في التزكية، والتأييد لمن يرفض الإعلان عن اسمه كمؤيد لترشيح شخص بعينه، ولكن هذه الممارسات تتطلب قاعدة سياسية تبدأ من القاعدة عند الانتخابات المجالس الشعبية، ثم ترتقي إلي الانتخابات البرلمانية، ونظراً لغياب تنامي هذه القاعدة في الوقت الراهن، فمن المنطق الدستوري ألا نحمله نصوص مفارقة عن الواقع العملي، فمن اللازم تعديل الدستور بحذف الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 76 والمتعلقتين بقواعد تزكية المرشح للرئاسة، والإبقاء علي باقي نص المادة دون تعديل، حيث أن هاتين الفقرتين، كانتا من أجل تمرير أشخاص بعينهم للترشيح لمنصب الرئيس، وللحيلولة دون ترشيح آخرين، حتي وان انطبقت عليهم الشروط، فهما فقرتان تحتويان علي شروط تعجيزية مقددة علي الخاصة، فانتفت عنها الصفة العمومية للنص الدستوري. الفصل المزعوم بين السلطات! حتي عبر القراءة المتعجلة لدستور 71 المعطل، نجد أن أهم المبادئ التي تنظم العلاقة بين السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وهو مبدأ" الفصل بين السلطات" لا وجود له، فقراءته، وبعيداً عن كونه دستوراً يحكم صياغة قانونية تؤسس ما يصدر من تشريعات، نجد انه دستور مغيب عن الواقع، وان الكارثة لو أن التغيير الذي يتم عند تلك اللحظة الثورية من تاريخ مصر، أضاف تغيباً من نوع جديد عن الواقع، فبات دستور 71 المعطل دستوراً يبعد عن الواقع بمسافات مضاعفة، فهذا الدستور قد قضي علي مبدأ الفصل بين السلطات بما منحه من سلطات لرئيس الدولة بوصفه صاحب السلطة التنفيذية، تجعله يعتلي كل السلطات، فبات رئيس الدولة بحكم هذا الدستور منفرداً بالرأي، حتي دون استشارة وزرائه، وهذا ما دفع"إسماعيل فهمي" وزير الخارجية إلي الاستقالة عقب زيارة "السادات" للقدس في العام 1977م، دون أن يخبر وزير خارجيته، كما أن الرقابة البرلمانية تكاد تنعدم بحكم هذا الدستور الذي فيه رئيس الدولة هو الذي يرأس الحزب الحاكم، وهذا الحزب يمثل أغلبية الثلثين من أعضاء البرلمان، فكيف يمكن للبرلمان سحب الثقة من السلطة التنفيذية؟ ففي هذا الدستور الوزير لا يسأل أمام البرلمان، ولكنه يسأل أمام رئيس الدولة فقط، مما دفع بعض الوزراء إلي تلميع أحذيتهم في بنطالهم قبل الدخول إلي مكتب الرئيس، هذا الواقع المنصوص عليه في الدستور، بنص اللغة، يعد أيضاً مفارقاً لحقيقة اختصاصات رئيس الدولة، إلي الحد الذي جعله غير مسئول أمام البرلمان، تلك هي الخطوط العامة لعيوب النص الدستوري في حد ذاته، والتي تتناقض مع أهم المبادئ التشريعية المقررة في روح الشرائع من اعتبار الفصل بين السلطات، حتي تكون هناك رقابة، ومسئولية موزعة بين هذه السلطات. لجنة البشري العبقرية لقد منح دستور 71 المعطل لرئيس الدولة من السلطات ما يفوق اتساعه كل رقابة مرجوة، أو مساءلة منتظرة، ولذا فإننا نهيب بلجنة"البشري" أن تقوم برتق الفتق القائم بين الواقع، وبين نص الدستور الذي هو تحت التعديل، وان تكون أهم مهامها هو أن تعترف بالواقع الذي فرضته ثورة 25يناير من أن السبب في هذه الثورة هو توحش سلطات رئيس الدولة، والتي حولت واقع شكل الحكم إلي ديكتاتوري مستبد، مطلق، وعليه لزم قيام لجنة "البشري" أن تتناول بدقة اختصاصات رئيس الدولة، فهي التي سوف تقرب الدستور إلي الواقع، ومن ثم سيتصف التعديل بالايجابية عندما تحدد خضوع الرئيس للمسئولية الجنائية، إلي جوار السياسية، فكما قال"مونتسكيو" في كتابه"روح الشرائع"(1748م):"السلطة بدون مسئولية تمثل استبداداً مطلقاً"، وعليه فان لجنة"البشري" يجب أن تعيد صياغة المواد التي تتعلق بمركز، واختصاصات رئيس الدولة، وحجم مسئوليته، كما تقوم بإثبات علاقته بالبرلمان، وبالوزارة، علي ضوء ما هو كان مقرراً في دستور 1923م، بإحلال رئيس الدولة، محل الملك، وحيث انه دستور يؤسس لحياة نيابية برلمانية، فهذا يلزم لجنة"البشري" أن تحدد وضع رئيس الدولة الجديد بحيث يكون مسئولا عن تنفيذ سياسة معينة خلال زمن محدد، فيتحول وزرائه إلي سكرتارية له، وبذلك لا يصبح الحكم، أو الولاية مجرد"تلذذ" بالحكم، بل صراع مع الزمن بإلتزام الرئيس أمام الشعب ورقابة البرلمان. إن لجنة"البشري" تعد لجنة تعديل دستوري تقرر عملها في ظرف دقيق من تاريخ الوطن، حيث إ نها اللجنة المسئولة عن إعادة الدستور إلي الواقع الفعلي من ناحية، وإعادة صياغة الواقع صياغة دستورية من ناحية أخري، ومن لديه القدرة علي فعل هذا في آن واحد وصفه"مونتسكيو" بالعبقري.