عندما نرغب في الحديث عن أي شأن تونسي ، أصبح من الضروي الآن أن نحدد مبدئيا هل نقصد تونس قبل 14 يناير 2011، أم تونس بعد هذا التاريخ.. بمعني آخر تونس بن علي أم ما بعده.. ولعل الإعلام هو أكثر ما ينطبق عليه هذا الرأي خاصة في بلد كان مصنفا من قبل المنظمات الدولية المعنية بحرية الرأي والصحافة، أنه من بين الأكثر قمعا، واعتبر رئيسه السابق من بين 40 شخصية معادية لحرية الصحافة علي مستوي العالم ، ومن ثم بدأت الآمال تنعقد علي بداية عهد جديد للإعلام التونسي.. يأتي علي رأس التطورات إطلاق سراح الصحفي الفاهم بو كدوس الذي كان يقضي عقوبة الحبس لمدة اربع سنوات- قضي منها سبعة اشهر- عقب اعلان رئيس الوزراء المؤقت محمد الغنوشي بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي والذي وعد أيضا بالغاء قانون الصحافة الحالي، وكان بوكدوس قد ادين بتهمة "تكوين عصابة اجرامية من شأنها الاعتداء علي الاشخاص وممتلكاتهم وبث معلومات من شأنها تعكير صفو الامن العام"، وهو ما تراه منظمات حقوق الانسان عقابا لبوكدوس، بسبب قيامه بتغطية احتجاجات شهدتها منطقة قفصة المنجمية لتفشي البطالة فيها لصالح قناة فضائية، وذلك في عام 2008،و كانت السلطات التونسية تنفي عن بوكدوس صفة الصحفي وتتهمه بالتورط في الاحتجاجات. من ناحية اخري أعلن توفيق بن بريك الصحفي المعارض الشهير لنظام الرئيس التونسي المخلوع أنه سيترشّح لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد، التي ينتظر أن تجري في فترة أقصاها سبعة أشهر، وكان بن بريك قد نشر برنامجه الرئاسي في مقال نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية عشية سقوط بن علي. بريك الذي كان قد قضي عقوبة بالحبس ستة أشهر بتهمة الاعتداء بالضرب علي سيدة في الشارع ،ذكر انه كتب خلال فترة حكم بن علي 11 كتابًا ضده، إضافة إلي الكثير من المقالات في صحف أجنبية ، معتبرا نفسه الصحفي التونسي الأوّل الذي لعب دورًا مهمًا في الإطاحة به ، وبالتالي يكون -علي حد قوله- أحق من غيره في الترشح في الانتخابات الرئاسية خاصة -والكلام لا يزال علي لسانه- انه شخصية معروفة ولديه "شعبية، ويعرفه الشعب التونسي أكثر مما يعرفون زعماء أحزاب المعارضة .واعتبر بريك هو الآخر ان التهمة الموجهة اليه عملا انتقاميا ، مشيرا إلي أن الحكومة عرضت عليه عدة مرات إنهاء سجنه بشرط أن يوقع اتفاقية يتعهد فيها بالتوقف عن انتقاد الرئيس بن علي وعائلته في الصحافة الأجنبية. علي جانب آخر شكلت نقابة الصحفيين التونسيين الخميس الماضي لجنة للنظر في الوضع العاجل المتعلق بأمن ورواتب حوالي 200 صحفي وإداري وفني يعملون في صحف وإذاعات تابعة لأتباع الرئيس المخلوع، ويعاني هؤلاء الآن من فراغ إداري بعد هروب رؤوساء المؤسسات الصحفية وهم مهددون بعدم صرف رواتبهم وغير آمنين علي وضعهم، وأعلنت الاكتتاب للدعم المالي للزملاء، كما قررت النقابة عقد جلسة استثنائية غدا لتشكيل لجنة تختص بالإعداد لجمعية عمومية لاجراء انتخابات مجلس وقيادة جديدة، وأكد منجي الحضراوي، عضو مكتب تنفيذي في النقابة ان الصحافة التونسية في مرحلة مخاض وقال" لسنا معتادين علي الحرية فالأمن وأعوانه كانوا يحاصروننا طيلة السنوات الماضية». كلام الحضراوي تؤكده سكينة عبد الصمد -الصحفية في قناة تونس 7 - والتي ردت علي الاتهامات الموجهة للاعلام التونسي "بالتعتيم" وتقديم الحقائق المغلوطة خلال الفترة التي واكبت أحداث الاحتجاجات في الشارع التونسي، موضحة ان نظام بن علي والمقربين منه هم الذين يسيطرون علي كل المؤسسات الإعلامية التونسية، وقناة تونس 7 واحدة منها. وكان عشرات الصحفيين التونسيين قد اعتصموا أثناء الاحتجاجات التي سبقت سقوط بن علي، أمام مقر نقابتهم ردا علي قتل متظاهرين بالرصاص، وتبرأوا مما وصفوه ب"أكاذيب" نشرها الإعلام الرسمي في أعقاب سقوط قتلي وجرحي من المدنيين، منددين بالتعتيم علي ما وصفوه ب "المجزرة"، وقال النقيب السابق للصحفيين ناجي البغوري أمام مقر النقابة مخاطبا المارة "عليكم أن تفهموا أيها الناس نحن لا نتحمل مسئولية هذا التعتيم.. هذا النظام القمعي يغتصب حرية التعبير ويقمع الصحفيين". بانوراما للصحافة التونسية قبل أن نخوض في وضع الصحافة التونسية قبل 14 يناير، ينبغي إلقاء نظرة عامة علي سوق الصحافة في تونس وأنماط ملكية وسائل الإعلام بشكل عام. الصحافة في تونس نوعان صحافة حزبية ،وصحافة مستقلة، اما الصحافة التابعة للدولة فهي تتجسد فقط في إصداري دار"لا برس" وهما صحيفتان يوميتان: "الصحافة" بالعربية و"لا برس" بالفرنسية، وهما ناطقتان رسميا باسم الدولة، إلي جانب صحيفتي "الحرية" و"ري نوفو" او التجديد بالفرنسية" الناطقتين باسم حزب التجمع الديمقراطي الدستوري الحاكم" سابقا"، اما بقية الاصدارات الصحفية التونسية فهي ملكية خاصة، وذلك علي العكس من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة التي تهيمن عليها الدولة. من أبرز الصحف اليومية المستقلة في تونس" الشروق" الصادرة عن دار الشروق التي تصدر ايضا يومية بالفرنسية كما تصدر أسبوعيتان ،وهناك دار الصباح التي أصبحت في مارس 2009 تابعة لرجل الأعمال المعروف محمد صخر الماطري، صهر الرئيس التونسي السابق وكان مرشحا لأن يكون خليفا له، وذلك بعد ان اشتري النصيب الاكبر من أسهمها. يصدر عن الدار صحيفة "الصباح" بالعربية، و"لوتون" بالفرنسية. فضلا عن عدد من الاسبوعيات ، وتعتبر المؤسسة من أغني المؤسسات الصحفية في البلاد، التي نجحت في استقطاب العديد من الصحفيين البارزين مقابل مرتبات ومكافآت مالية مغرية، مقارنة بالوضع الصحفي السائد في تونس. هناك أيضا صحيفة" الصريح" التي شقت طريقها سريعا في عالم الصحافة بسبب تخصيصها عددا من صفحاتها الرئيسية لمقالات الرأي، مما شجع العديدين علي المساهمة بها، هذا الي جانب عدد اخر من الصحف والمجلات يفوق ال250 صحيفة ومجلة بالعربية والفرنسية. صحافة "تونس بن علي" " في الصفحة الأولي كنا نري صورة الرئيس أو صورة زوجة الرئيس ،وحتي اذا لم يكن له أنشطة فإننا نخترع خبرا معينا من أجل التحدث عنه" .. هكذا أوجز" لطفي بن ساسي" مصمم صفحات في جريدة الصحافة أداء الصحافة التونسية في عهد بن علي، مشيرا الي غياب صفحات الرأي من معظم الصحف التونسية سواء المستقلة منها أو الحزبية، خلافا لما هو سائد في الصحف العربية والدولية، مع ذلك قام اتحاد الصحفيين العرب في ابريل الماضي بمنح بن علي درع الصحافة بدعوي أنه "ساهم في النهوض بقطاع الصحافة في بلاده، وهو ما أثار استفزاز ودهشة جموع الصحفيين ومنظمات الدفاع عن حرية الصحافة. إذا أردنا معرفة المزيد عن أوضاع الصحافة في " تونس بن علي" ، نعود الي تقارير المنظمات الدولية المعنية بحريات الاعلام، فنجد تونس قد تراجعت -وفقا لاخر تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود- عشر مراكز لتحتل المرتبة رقم 164، من أصل 178 بلدا، علماً بأنها خسرت 9 مراتب بين عامي 2008 و2009. وقد ناشد عدد من تلك المنظمات النظام التونسي والرئيس بصفته لتحسين أوضاع الصحافة والصحفيين، مثلما فعلت لجنة حماية الصحفيين- ومقرها نيويورك- في مارس 2009 ، حيث الذكري السنوية الثالثة والخمسين لاستقلال تونس، و طالبت الرئيس التونسي السابق في خطاب موجه اليه" بإنهاء دورة القمع الجارية ضد الصحفيين ووسائل الإعلام الناقدة، وبأن يلتزم بالتعهدات التي أعلنها مراراً منذ توليه السلطة في 1987 بالعمل علي تعزيز حرية التعبير، وجاء الخطاب متضمنا لأبرز الوقائع التي تخالف تلك التعهدات وتؤكد ان" الأعمال الانتقامية" ضد الصحفيين الناقدين تجري بصفة روتينية ومنهجية، رغم ان تونس كانت من اولي الدول في المنطقة التي صادقت علي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. شملت الوقائع التي تضمنها الخطاب اغلاق مكاتب اذاعات ومصادرة الأجهزة الخاصة بها، واتهامها ب" البث علي ترددات دون تصريح رسمي"، ومصادرة اعداد من صحف حزبية، وإصدار أحكام بالسجن علي مراسلي قنوات تليفزيوينة فضائية خاصة بتهم مثل"الانتماء إلي جمعية إجرامية" ونشر مواد "من المحتمل أن تضر النظام العام"، وتعرض الصحفيين لمضايقات متكررة والاعتقال لفترات قصيرة من قبل الشرطة، او منعهم من السفر للمشاركة في فعاليات دولية، دون إبداء اسباب المنع وغيرها. وفي يونية الماضي قالت منظمة آيفكس في تقرير لها ان الاعلاميين في تونس يتعرضون لانتهاكات عدة من مراقبة ومضايقات وسجن ، والحرمان من حقوقهم في الاتصال والتنقل بحرّية، وممارسة الضغوط المالية علي صحف المعارضة، ومنع التراخيص للإذاعات والصحف المقدمة من معارضين،وقصرها علي المقربين من السلطة، ويأتي كل ذلك في ظل التأكيد الدائم من بن علي علي أنه "لا رقيب علي الإعلام في تونس إلا رقابة الضمير واحترام القانون وأخلاقيات المهنة". وتتمثل ابرز الاجراءات السلبية التي اتخذتها السلطات التونسية في عهد بن علي في "الاطاحة" بنقيب الصحفيين ناجي البغوري في اغسطس 2009، وفرض نقابة جديدة تابعة للحكومة برئاسة أحد أعضاء الحزب الحاكم ، عقب مؤتمر غير قانوني ،وجاء هذا الاجراء عقب إطلاق النقابة لتقرير عن الحريات الصحفية في تونس تضمن انتقادات لأوضاع حرية الصحافة والصحفيين في البلاد ،خاصة انه جاء في وقت سبق مباشرة إجراء الانتخابات الرئاسية ،وهي تلك التي بدأ عقبها بن علي ولاية رئاسية خامسة. نظرة أقرب في مقال نشره موقع "دويتش فيل" الالماني حول المسموح والممنوع في الصحافة التونسية ،جاء فيه انه بعد إعادة انتخاب بن علي في أكتوبر 2009، راود الكثيرين من المراقبين الأمل بتخفيف القيود المفروضة علي حرية الصحافة ، لكن الواقع لم يتغير وظل الصحفيون يعانون من أجل الحصول علي المعلومات. يقول المقال انه في تونس مباح للصحفي تناول موضوعات ثقافية أو قضايا التعليم أو المسائل الاقتصادية في حدود معينة، لكن الخط الأحمر يبرز بوضوح عندما يتعلق الأمر بالسياسة أو بالمشاكل في البلاد، مشيرا الي ان تونس التي تعتبر متقدمة في مجالات مختلفة أخري بالمقارنة مع دول عربية أخري، خصوصا في التعليم والاقتصاد ،و تعد رائدة فيما يتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، إلا انها لا تشهد نفس التقدم في مجال حرية الصحافة. ويمدنا عادل السمعلي أمين سر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين من خلال الحوار الذي أجراه معه الزميل أيمن عبد المجيد في صحيفة روز اليوسف، بمعلومات حول المشهد الصحفي في تونس في عهد بن علي فيقول ان الصحف كانت تخضع لرقابة وزارة الداخلية ويتعرض الصحفيون لمحاكمات، صحيح انه لا يوجد سجن لكن تغرم الصحف بغرامات مالية كبيرة، تضطرها للإغلاق في ظل ضعف مواردها المالية، لأنها تحرم من الإعلانات ، ورجال الأعمال لا يجرؤون علي نشر إعلانات في صحيفة معارضة خوفا من السلطة بل إن القطاع الخاص كان حكرًا علي عائلة الطرابلسي والمقربين من زوجة الرئيس، اما الصحافة الحزبية فوصفها السمعلي بانها تابعة لأحزاب "كرتونية "تم إنشاؤها وتأسيسها بقرار من بن علي وهو من يمولهم . أشار السمعلي أيضا إلي أن بن علي في بداية حكمه أطلق الحريات بالفعل ، لكن عندما تزوج ليلي الطرابلسي ،تدخلت في القصر الرئاسي وفي اختيار الوزراء،وقيادات المؤسسات الحكومية. المشهد التونسي بشكل عام لم يتضح بعد، والمتابع للصحافة التونسية الآن يتأكد تماما من ارتياحها لرحيل "الطاغية" علي حد وصفها للرئيس الهارب، ودعوتها لعدم الالتفاف علي "ثورة الشعب" وسرقتها حتي لا تضيع أرواح الشهداء سدي ، وخلال سبعة أشهر من الآن تجري الانتخابات الرئاسية في البلاد، لتبدأ تونس عهدًا جديدًا، يأمل التونسيون ألا يكون امتدادا لما مضي..