لن أنسي ما حييت شارع خليل حمادة حين كنت صغيرة عبرته بالسيارة و كلما ذكرت أمامي كلمة كنيسة تذكرتها.. كنيسة القديسين وهي تتوسط الشارع من جهة اليسار وفي مقابلها تماما ولا يفصله عنها سوي امتار قليلة مسجد سيدي بشر. ولن ينسي التاريخ ذاك الشارع بمشهده المهيب حين يتقاطع شارع العيسوي مع شارع خليل حمادة ذاك الاسم لم يكن مجرد اسم شارع بمنطقة الثغر فحسب.. بل انه الإسكندرية بل مصر جميعها..حيث كان شاهدا علي حالة من الانخراط والتجانس بين البشر باختلاف الدين.. حين تسمع قرآن الفجر حيناً.. وتنصت للترانيم الكنائسية حيناً آخر.. حين تنادي فاطمة علي محمد من شرفة منزلها بالأدوار العليا.. فيدركها مينا ملبيا لها طلبها الي حين عودة صديقه.. مداعباَ اياها " سجلي دي في سجل الجمايل يا طنت" اسم ومسمي استمد الشارع عراقته من اسم اشهر سكانه قديماً وهو جد المهندس "أحمد خليل حمادة" رئيس نادي سبورتنج السابق وكان "خليل حمادة وزيراً للأوقاف في عام 1900 عندما كانت الوزارة مازالت تؤلف باسطنبول وتوفي في عام 1910 أنجب ثلاثة أبناء "جواد خليل حمادة " وهو أول من أنشأ قسم العظام بكلية طب الاسكندرية..بل وشارك والد الدكتور عصمت عبد المجيد في انشاء مستشفي المواساة الحالية أحد اقدم واعرق المستشفيات بالاسكندرية . وأنجب "جواد" اثنين الأول هو الدكتور جواد حمادة أستاذ العظام بكلية طب الاسكندرية وهو الأصغر والذي وافته المنية ورحل منذ ثلاثة أعوام تقريباً والثاني هو المهندس أحمد حمادة رئيس نادي سبورتنج السابق . أما الابن الثاني للجد خليل حمادة هو عبد الرحمن حمادة الذي أنشأ مصانع المحلة الكبري ومصانع الحرير الصناعي وهو بالأصل كان مهندساً ببنك مصر حينما كان البنك يقوم ببناء المشروعات . أما الإبن الثالث لخليل حمادة فهو محمد حمادة والذي شارك في بناء العديد من المصانع بمختلف المجالات كمصانع النشا والخميرة ومانع السيارات وحوالي 6 مصانع اخري مختلفة .وانجب حسين الذي انشا بدوره مصنع لانتاج فرش البويات ثم هاجر لكندا واقام بها مصنعاً ثم عاد الي مصر ليتوفي بها عام 1996..إذا فعائلة خليل حمادة عائلة عريقة أنشأت العديد من المصانع والمستشفيات خدمت الجميع مسلمين ومسيحيين وبنت معها جزءاً من تاريخ الاسكندرية مازال شاهدا علي عراقة هذا الإسم أما من ناحية ما يميز الشارع من عقارات وبنايات فبدون المسجد والكنيسة لا يعرف أحد الشارع ولا يعلم الكثيرون ايها أسبق في النشأة والتواجد في هذا المكان البشر الذين أقاموا بها أم المسجد أم الكنيسة؟ فأغلب عقارات المكان حديثة النشأة . وتؤكد أغلب الرويات أن أساس الكنيسة وضع عام 1971 علي مساحة 900 متر وفي فجر عيد الرسل من نفس العام أقيم فيها أول قداس إلهي بعد تسميتها "كنيسة القديسين .ماري مرقص الرسول والبابا بطرس خاتم الشهداء" وهما القديسان اللذان تتصدر صورتهما واجهة الكنيسة أعلي صليب كبير . أما المسجد "مسجد سيدي بشر أو شرق المدينة " كما يسميه البعض يقع في المواجهة تماما ويرجع تأسيسه الي ما قبل 20 عاماً ويمتد علي مساحة 500 متر وهو تابع لوزارة الأوقاف ومن أشهر مساجد المدينة. الأحداث لم يتخيل بيتر وماركو رواد كلية التجارة جامعة الاسكندرية أن الليلة وعند منتصف الليل وحينما يودعون عاماً انقضي ويستقبلون آخر أنهم سيودعون معه أصدقاؤهم الثلاثة أقارب الجارة وصديقة الأم الحميمة التي استدعت بكل شوق أبناء أختها من استراليا لتمضية الإجازة واحتفالات العيد معها بكنيسة القديسين .. وبالقطع لم تكن تعلم انها دعتهم الي اقدارهم.. .. بعد غياب عشرة أعوام عادوا للإسكندرية ليبرهنوا بدمائهم التي اختلطت بدماء اخوانهم وأصدقاء الطفولة أنهم مازالوا ابناء وطن واحد مهما اختلفت الأسماء واختلفت العقيدة . منذ الواحدة صباحاً وحتي الرابعة ورجال الامن والفرق الطبية يتعاملون مع الموقف بحذر وما هي الا لحظات أخري حتي بدأ رجال البحث الجنائي التقاط الأدلة..علهم يستطيعون الوصول لهوية الشبان الثلاثة الذين ترجلوا من سيارتين "جولف وسكودا "وتركتاهما بجانب الكنيسة لينفجرا بعد الثانية عشرة والثلث صباحاً..محدثين تلك الفوضي والهلع والرعب المصاحب لزلزلة لحظية ومؤقتة لطبيعة العلاقات بين مسلمي ومسيحي المكان . الأشهر والأكثر رمزية بمصر لتلك الوحدة الوطنية المستهدفة حاليا.. ! تحول الشارع الذي يربط منطقة الكورنيش علي البحر والمناطق الداخلية بالمدينة إلي ما يشبه استديو مفتوحا منذ الحادث وحتي الآن..حتي أصبح المكان يشبه مدينة الانتاج الإعلامي. حظي هذا الشارع مؤخرا بأحداث مهمة دولية وعالمية أيضاً.. بدا ذلك من توافد الإعلاميين من شتي القنوات الفضائية العربية وغيرها كطاقم وكالة أنباء اليابان.. والتي أكد معظمها أن الاهتمام العالمي بوضع مصر امر طبيعي إلا أن هذا الحدث فرض نفسه وزاد من تلك الأهمية.. مجموعة التحليلات والتساؤلات التي تناولها الجميع حول مرتكبي تلك الفعلة النكراء والتي ربطها الأغلبية بالتهديدات التي أطلقها تنظيم القاعدة منذ ما يقرب من الثلاثة أشهر . لم يستطع العقل الذي تعلق كثيرا بهؤلاء الفتية الصمود امام هول الحدث ومأساوية المشهد الشارع الذي بات شاهدا علي الوحدة والتماسك رفضت ارضه وأبت ان تتشرب دماؤهم التي امتزجت ببراءتهم وأشلائهم المتلاحمة دون غربة.. الا علي الجسد الواحد . من يعلم جيدا تركيبة المجتمع السكندري ويدرك تماما اختلاف تيمة البشر فيه عن اي مكان آخر بمصر يعلم كيف ان هذا الحدث مدبر بشكل متقن واختيار المكان لتنفيذ هذا المخطط الإرهابي لم يكن اختيار وليد الصدفة وانما مقصود تماماً علي الرغم من تكرار مشهد تجاور الكنائس والمساجد في اغلب محافظات مصر الا انه بالاسكندرية الواقع مختلف.. العلاقة بين مسلمي ومسيحي المكان تختلف عن اي علاقة اخري بين مسلم ومسيحي في شتي أنحاء مصر فالإسكندرية مدينة بوليتان احتضنت كل الأجناس والديانات وهضمتها جيدا ًلذا تجد مسلمو ومسيحيو المدينة نسيجاً واحداً يصعب التفريق بين احد افراده، وخير شاهد علي ذلك هو ما حدث سريعا بعد استيعاب الصدمة والخروج من هول المفاجأة حيث لم يتأزم الوضع أكثر بنزاعات طائفية او حرب اهلية مصغرة كما كانت تلك الايادي الخفية تتمني وتتربص بالنتائج بل ذادت الأزمة من الترابط الواضح في تماهي وانسجام تام بين شتي أطراف المجتمع وخرج الجميع منها يدا واحدة..باحثين عن المتربص بهم وبأمنهم .