ثمة ظاهرة تلفت نظر المراقب لنشوء وتطور الحركات الإسلامية العربية هي غياب الدور الثقافي بمعناه الشامل عند هذه الحركات التي ركزت علي الخطاب الدعوي الشفاهي من جهة أو التحرك الانقلابي العنفوي من جهة أخري أو العمل علي محاربة الغزو الثقافي الوافد من وراء البحار مع اعتبار كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وفي ظل الاعتبارات الثلاثة لم تمنح نفسها ولا الآخرين فرصة التنفس الإبداعي في المجال الثقافي، فلم نر عند حماس شاعرا من وزن محمود درويش ولاسميح القاسم وغسان كنفاني وهم أبناء الحركة القومية التقدمية ولم نجد فدوي طوقان ولامعين بسيسو، ولم نسمع أو نقرأ لأديب ينتسب لحركة حماس قدم عملا إبداعيا متميزا يرسم لنفسه وللحركة مسارا ثقافيا في الخارطة العربية، رغم أن حماس استطاعت أن تمسك بالعصب الفلسطيني سياسيا، وتتفوق علي الحركة القومية وتمثلها حركة فتح علي الأقل في قطاع غزة. وفي المقابل لم نر عند حزب الله اللبناني - الذي يمتلك أربعين ألف صاروخ - مغنيا من نوع مارسيل خليفة أو شاعرا كالأخطل الصغير أو أنسي الحاج، وهم إنتاج قومي يساري، وبطبيعة الحال لن يتوفر عند هذا التيار مطربة مثل فيروز، ولاعاصي ومنصور الرحباني ولا ناشرا عروبيا مثل سهيل إدريس، والقائمة الإبداعية للتيارين القومي واليساري تطول لتستوعب أسماء حلقت في سماء الإبداع العربي وساهمت في تكوين نسق ثقافي عربي خاص لم يتحقق مثله عند الإسلاميين رغم حضورهم السياسي والعسكري وسيطرتهم علي مقاليد الأمور في غير بلد عربي، وصار لديهم السلطة والمال والإعلام ومع ذلك فالجدب الثقافي ظل سيد الموقف. والشاهد أن الحركات الإسلامية حاولت أن ترث المكانة السياسية للتيارين القومي واليساري "بمعناه الماركسي" وقد نجحت في بعض الأحيان وفي بعض الدول لبعض الوقت كما جري في السودان بتحالف البشير والترابي أو في برلمانات مصر واليمن والأردن حيث حصدوا عددا لابأس به من المقاعد دون أن يوظفوها في توسيع رقعة الحرية أمام المبدعين بل لعبوا الدور النقيض أوالوصول إلي الحكم كليا كما جري في أفغانستان حيث شنوا حملة لإغلاق المسارح ودور السينما وقاموا بتحطيم التماثيل التاريخية وإغلاق المتاحف، والحاصل أن الحصاد الثقافي لتجربة الإسلاميين في الحكم أو في البرلمان متواضع للغاية إن لم يكن معاديا بالجملة للمبدعين بعكس التيارين القومي واليساري اللذين قدما إنتاجا ثقافيا وإبداعيا في المسرح حيث برزت نهضة كاملة وشاملة في ستينات القرن الماضي ارتبطت بالتيار القومي الناصري في مصر والبعث في سوريا والعراق والتيار القومي بشكل عام في جميع أرجاء الوطن العربي، وثمة أسماء لامعة من وزن نعمان عاشور وميخائيل رومان والفريد فرج ونجيب سرور في المسرح إلي جمال الغيطاني ويوسف القعيد وابرهيم أصلان وسعيد الكفراوي في الرواية وعلي الراعي وفاروق عبد القادر في النقد وهم جميعا أبناء شرعيون للتيارين القومي واليساري وهم مازالوا القمم والهامات العالية في المجال الإبداعي وصار لهم رواد وتلاميذ بامتداد الخارطة العربية في حين أن الحصاد الثقافي للتيار الإسلامي يكاد لايري بالعين المجردة.؟ لماذا؟ أولا: ثمة أسباب تتعلق بالثقافة الإسلامية، التي يغلب عليها الطابع الشفاهي، أو بالأحري الطابع الخطابي المباشر الذي لايمنح العقل فرصة التأمل في الطبيعة أو ماوراء الطبيعة، فالإسلاميون ركزوا علي جوانب محددة منها الدراية الكاملة والإلمام بالقواعد العربية واللغة، قياساً إلي سواهم في الساحات العربية، وهذا منحهم قدرة علي الخطابة باللغة العربية الصحيحة والفصحي ومن ثم التميز عن العوام، غير أن إنتاجهم المكتوب كان -ومازال- إنشائيا متمثلا في إحكام الصياغات اللغوية لخطبة الجمعة، وحفظ وترديد النصوص المعززة لمحتوي خطابهم الإنشائي ومن ثم ليس هناك مجال للإبداع في النص المنقول ولا في اللغة الإنشائية المباشرة. ثانيا: إن الحركات الإسلامية تعاملت مع اليقين الديني مايعني غياب أي مساحة للشك الذي هو قرين الإبداع، فلا مجال لحركة إبداعية تتعاطي مع نصوص مقدسة لها حصانة إلهية، وهنا نلاحظ أن سيد قطب الذي كان مبدعا أدبيا في الخمسينات، وهو في حالة مخاض ليبرالي منفتح علي كل الثقافات بدون أسوار اليقين انتهي إلي عقل تكفيري مغلق في "معالم علي الطريق" وهو الوثيقة- الكتاب- الذي أدي إلي تهلكة عدد غير قليل من المسلمين اعتبروا مافيه نوعا من اليقين غير قابل للشك وبالتالي لايفتح الباب أمام قريحة الإبداع. لقد انشغل نواب الإخوان المسلمين في برلمان مصر"2005-2010"بقضايا مطاردة الكتب والدعوة إلي مصادرتها بزعم أنها تحتوي علي مايخالف صحيح الإسلام أو مطاردة أفلام وممثلات ومحطات فضائية بدعوي أنها تحض علي الفجور. ثالثا: إن الحركات الإسلامية تعمدت التوجه إلي الشباب غير المصنف فكريا وإبداعيا، سواء في الجامعات أو الأندية الاجتماعية والمساجد وسعت إلي جذبهم في اتجاه ساحات العمل السياسي وليس العمل الإبداعي فالحركات الإسلامية لاتهتم بالفنانين والأدباء الشباب ولاتسعي إليهم باعتبارهم "منفتحين" ومن ثم غير مؤهلين لغرس ثقافة الطاعة في عقولهم بعكس الشباب المحبط من الجنسين فهم خميرة جاهزة لتلقي الأفكار والصياغات لاسيما المرتبطة باليقين والنص المقدس، وفي كثير من الأحيان وقعت اشتباكات بين أنصار الحركات الإسلامية والمبدعين في الجامعات والأندية الثقافية بسبب اعتبار الحركات الإسلامية أن الفن حرام وأن التمثيل حرام والاختلاط كذلك، والواقع أن علاقتهم مع الثقافة والأدب كإسلاميين مليئة بالروادع الذاتية التي تحول دون انطلاقة العقل المبدع. رابعا:انشغلت الحركات الإسلامية بالحضور السياسي الصدامي أكثر من الحضور الثقافي التفاعلي، ومن ثم صارت الثقافة لديهم تفريعاً علي أصل، والأفكار الإبداعية لا تولد بيسر داخل البيئة الأصولية، خاصة وهم في حالة اشتباك دائمة مع الواقع، ومع المتغيرات وفي حالة رفض شبه دائمة للمعطي التكنولوجي، فالانترنت مفسدة والفضائيات كذلك إلا المحطات الدينية حتي وإن كرست للفكر الطائفي البغيض، والتيار الإسلامي مهموم بالمشاكل الأمنية التي تحيط بهم أكثر من مشكلات التفاعل مع التيارات الأخري، وتشغل فكرهم مهام من نوع خاص ومنها صد هجمات الغرب وغزواته الثقافية، والتصدي لمظاهر يعتبرونها منحرفة في السلوك الاجتماعي، لاسيما إذا ارتبط بالمرأة التي تشغل مساحة واسعة من الفكر السلفي علي حساب قضايا الوطن والإبداع التي تحتاج إلي كثير من التأمل الهادئ والإبداع المتميز، والتفاعل مع الآخر في اطارما نسميه ثقافة مجتمع، لأن كل ثقافة مؤدلجة هي ثقافة خاصة، ولكي تكتسب صفة عامة عليها أن تكون ثقافة مجتمع تنساب من دون قيود، ولا يشعر إزاءها المتلقي بالثقل أو الإملاء والتعالي وتلك عيوب خطيرة في الخطاب الثقافي الأصولي.