مسرح الغد.. يحاول السير منذ بداياته علي الخط نفسه الذي اتخذه مسرح الطليعة وهو أن يكون منبرا للتجارب المسرحية الجديدة التي يقوم بها الشباب إخراجا وكتابة وتمثيلا تاركين النجوم وأسماءهم الضخمة والمؤلفين الكبار ومخرجيهم للمسارح القومية ذات التاريخ العريض. والحق أن مسرحنا المصري الحديث .. يتجه بقوة للاعتماد علي هذه الدماء الجديدة المليئة بالحيوية والطموح والإبداع والتي أعادت إليه رحيقه وجاذبيته التي كاد أن يفقدها تماما في السنوات الأخيرة. بصمات المخرج سعيد سليمان المخرج الشاب يقدم لنا في مسرحيته «المولد» نصاً أعتقد أنه ساهم في كتابته .. ولكن مهما يكن الشأن، فإن المخرج قد وضع بصمته الكبيرة علي العمل وطبعه بطابعه كائنا ما كان كاتب النص الذي اعتمد عليه. المسرحية تطالعك منذ البداية بزفة شعبية يقوم بها الأبطال الذين ستراهم بعد قليل علي الخشبة .. يتابعون حياتهم التي واجهوك بها منذ دخولك . الشحاذين، وأصحاب العاهات، وراقصات الموالد، ومجاذيب الأولياء، والمقرئون العميان، والبلطجية والنشالين، ومهووس أضرحة الأولياء. وعلي جانب المسرح اصطفي ضاربوا الدفوف يمينا.. والمنشدون المرددون شمالا بينما جلست النساء المتشحات بالسواد.. صامتات خاشعات مبتهلات .. ويوجهن نظرهن دون حراك طوال العرض إلي المنصة التي تدور فيها الأحداث. هناك طبعا «الولي» الدجال الذي تتزاحم حوله الآمال والأماني المجهضة والأحلام البائسة والذي يحاول أن يسيطر علي هذه المجموعة التي تدور حوله .. ويلعب الدور باقتدار شأنه دائما «حمادة شوشة» .. الذي يتمكن من الكاريزما التي يتمتع بها من جذب الأنظار إليه وأن يجعل نفسه المحور المحرك لهذه الأحداث كلها. رقصة مجنونة إننا نري أمام أعيننا ومن خلال حركة باهرة عرف المخرج كيف ينظمها وكيف يحولها أحيانا إلي رقصة مجنونة لا مركز لها ولا اطراف.. تعبر عن جنون ووله يختلط فيه الشبق الجسدي بالابتهال الديني والزيف المصنوع.. بنداءات القلب الصادق. وتستمر اللعبة أمام أعيننا ولعبة التماهي والخداع وتتسلل خيوط الحقيقة والنور شيئا فشيئا إلي قلوب هذه الفئة الضالة التي اتخذت من الوله الشعبي الديني هدفا لها ولأغراضها.. وتبدأ لعبة التغير البطيئة .. تتفاعل في النفوس والقلوب. وما كان خداعا يصبح جزءاً من الحقيقة .. ثم الحقيقة كلها وينقلب السحر علي الساحر، ويسيطر الإيمان والوجد الحقيقي علي كل هذه النماذج التي رأيناها وتصبح فعلا ما كانت تتظاهر به وتشيع موجة الإيمان مسيطرة علي الهوس المجنون من خلال دقات الدفوف وآهات الابتهال .. ويقع المحتال الدجال في الشباك التي نصبها. العمل يسحر العين بحركته وإيقاعه ( وإن كان شيء من البطء الذي يمكن تلافيه منها قد أصاب ربع الساعة الأخيرة منه) بقوة الجو الذي خلقه وبإيمان الممثلين الذين جسدوا شخصياته وتأثير الديكور البسيط والشديد الإقناع والذي تدور حوله الأحداث، ونمطية الثياب التي ترتديها الشخصيات دون مبالغة. العمل يحمل الكثير من لمسات المخرج .. وشاعريته ودفء مشاعره .. ويرسم صورة مسرحية شديدة في التوفيق لمظهر روحي وفولكلوري شائع في بلدنا .. واعطائه مسحة مسرحية مؤثرة وبالغة الوقع. (المولد) مثال حقيقي لمسرح شباب متطور فعال وقادر علي أن يقول كلمته بشجاعة وصدق وإيمان وتأثير. أحدب نوتردام ويتابع مسرح الطليعة ومديره الشاب الشديد الطموح «هشام عطوة» تجاربه المسرحية باقتحام الأدب العالمي وتقديم إعداد مسرحي لقصة «أحدب نوتردام» واحدة من أشهر قصص الكاتب الفرنسي «فكتور هوجو» قام به «محمود جمال». ورغم حماس المعد للقصة الأصلية .. الشديدة التشابك والتعقيد والتي تعالج قضية الظلم والأقليات والتعصب الأخلاقي الديني .. وتمس بشاعرية اعتدناها من شاعر فرنسا الأكبر.. حساسية المشوهي الخلقة.. والذين ينبذهم المجتمع ويرفض الاعتراف بإنسانيتهم. ومن خلال أحداث ميلودرامية متشابكة .. ومن خلال علاقة غجرية حسناء بالأحدب المشوه الذي اختار كنيسة روتردام في باريس ملجأ له .. وحماية وأماناً.. يطرح المؤلف أسطورة «الجميلة والوحش» وكيف أن شيئا من الحنان يمكن أن يعيد للوحش إنسانيته. الملك يلهو قصص «فكتور هوجو» كانت دائما نقطة جذب للمؤلفين المسرحيين ومؤلفي الأوبرا وهكذا نري مثلا.. أن مسرحية «الملك يلهو» تحولت إلي أوبرا لحنها فردي باسم «ريجوليتو» كما أن روايته الشهيرة «البؤساء».. عولجت أكثر من مرة في السينما بما في ذلك السينما المصرية وتحولت إلي عرض موسيقي خلاب دار انحاء الدنيا بنجاح ساحق.. وقدمه مسرح الطليعة نفسه بأسلوبه الخاص قبل سنوات. هذه المرة .. كان العبء ثقيلا حقا علي مسرح الطليعة، ورغم جمال الديكور واقتصاره رمزيا، علي أجراس الكنيسة العملاقة المعلقة في سقف المسرح .. وعلي لوحات دينية تزين اطرافه وعلي فسيفساء ملونة تلون نوافذه .. فإن الديكور كان قاصرا عن التأثير الحقيقي الذي يتطلبه النص.. والذي كان يفترض فيه لتأكيد الصراع بين المدينة والكنيسة .. والتي كانت جزءاً مهماً من مكونات قصة «هوجو» .. في التركيز علي نوعين من الديكور.. الديكور الخارجي للمدينة حيث تقف الجموع .. وحيث يعذب الأحدب ويجلد بالسياط.. وحيث تعد المحرقة لحرق الغجرية التي لم تستجب لإغراء قائد الحرس الغليظ القلب. ولكن أن تدور كل الأحداث داخل الكنيسة.. أمر جعل الصراع الذي أراده «هوجو» بعيدا عن التكافؤ.. كما حاولت الإضاءة القاتمة التغلب علي هذا العيب بإخفاء معالم الكنيسة أحيانا.. ولكنها كانت سلاحا ذا حدين لأنها أخفت بالوقت نفسه وجوه الممثلين وتعابيرهم. وحاول المعد أن يلجأ إلي الكورس .. وهو أحيانا كورس رهبان وأحيانا أخري كورس من الأهالي ليسد النقص الدرامي الذي لم يمكنه تلافيه في النص.. ولكن جاء أداء الكورس أحيانا مقحما.. والحركات اتسمت بكثير من العشوائية وخرجت عن إطارها الدرامي .. لكي يحولها المخرج إلي (أداة) جمالية أكثر منها درامية ولكن لا شك أن كثيرا من الثناء رغم هذه الاعتراضات يجب أن يوجه لسيد مسرح الطليعة الحالي وسياسته الرامية إلي تعزيز الثقافة المصرية والثقافة العالمية بضربة واحدة. جرأة وشجاعة المسرح لم يأل جهدا في وضع كل الامكانيات المتاحة له لتقديم قصة هوجو الممسرحة في إطار جماهيري مقبول. وأعتقد أن المسرح قد نجح إلي حد ما في تعريف جمهوره بقصة مهمة من قصص الأدب العالمي وأنه إذ حاول أن يضرب عاليا فإننا لا يمكننا أن نلومه لأنه لم يصب الهدف .. وعلينا أن نشجعه علي جرأته وشجاعته وقدرته علي الاقتحام. «المولد» في الغد و«أحدب نوتردام» في الطليعة مثالان حيان لحركة مسرحنا المعاصر .. وتدفق الدماء الشابة في عروقه وقدرته حقا علي التصدي لحواجز كبيرة وسدود من الاسمنت المسلح.. كنا نظن حقا أنها قادرة علي أن تقف في وجه كل التطور الشبابي الذي نرجوه لمسرحنا المصري. سعيد سلمان مخرج المولد.. وأحمد علام مخرج «أحدب نوتردام». اسمان شابان يجب أن يعلقا في الذهن.. لأنهما يحاولان بجهد وذكاء وموهبة أن يضعا الأسس الصحيحة لمسرح شباب قادم.. قادر علي أن يكسر كل الظلمات التي تراكمت حوله في السنوات الأخيرة.