مدينة "كاليه" الساحلية في أقصي شمال "فرنسا"، وفي جو الليل قارس البرودة يقف عشرات الرجال في ملابسهم القذرة، الرثة ينتظرون دورهم في طابور ليحصلوا علي صحن معدني من الحساء ورغيف من الخبز يتم توزيعهما عليهم وسط العنف، والزجر، والضربات التي يوجهها إليهم رجال البوليس. إنهم لاجئون عرب يتجمعون بالمئات في هذه المدينة، يحدوهم الأمل في اجتياز مسافة أربعة وثلاثين كيلو متراً عبر "بحر المانش"، إلي مدينة "دوفر" في "إنجلترا" لأن حالهم ربما سيكون أفضل من ذلك الذي يعانونه في "فرنسا". في هذا الطابور يلتقي "بلال الكالياني" شاب كردي عمره سبعة عشر عاماً جاء من "الموصل" في العراق مصادفة صديقه "زوران". يخبره "زوران" أثناء الحديث الذي يدور بينهما بأن هناك مهرباً للأنفار يستطيع أن يتولي هذه المهمة مقابل خمسمائة يورو، ويطلب منه إقراضه هذا المبلغ، فهو مفلس ويريد هو أيضاً أن يجتاز المانش إلي "دوفر". بعدها نُشاهد عشرات الشاحنات الضخمة وهي تتحرك فوق شبكة من الطرق المعلقة في المستودع الخاص بميناء "كاليه" قبل أن تبدأ في اجتياز "بحر المانش" حاملة البضائع إلي "إنجلترا"، فنراها سائرة ببطء ثقيل كأنها تتأهب لسحق كل ما هو أمامها في مشهد مبهر ومخيف يوحي بالجبروت الآلي المُحلق في هذا المكان. شعور بالمرارة تفشل محاولة إخفاء خمسة من اللاجئين في قاع إحدي الشاحنات الذاهبة إلي "دوفر". يختنق "بلال" في الكيس من البلاستيك الأسود الذي ربطه احد أعوان المهرب حول رأسه للحيلولة دون أن تلتقط مجسات البوليس غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن تنفسهم.يسعل، ويعطس، ويصدر أصواتاً مكتومة ثم ينزع الكيس من حول رأسه أثناء وقوف الشاحنة للتفتيش في الجمرك، فقد سبق أن خضع للتعذيب بهذه الوسيلة لمدة ثمانية أيام علي يد الشرطة في "تركيا"، ولم يعد يتحمل ربط هذا الكيس حول رأسه. ينكشف وجود اللاجئين في الشاحنة، ويقبض عليهم ثم يساقون إلي الحبس. يمثل "بلال" أمام أحد القضاة الذي يصدر قراراً بالإفراج عنه كأنه مل رؤية أمثاله، ويريد أن يتخلص من مهمته بسرعة، فوفقاً للقانون لا يجوز إعادة "بلال" إلي بلد تدور فيها الحرب. "سيمون كالمات" رجل متوسط العمر، متجهم الوجه، يعمل مدرباً في حمام سباحة للجمهور. كان بطلاً للسباحة مرموقاً في يوم من الأيام، لكنه الآن يعاني من الاكتئاب، من إحساس بالمرارة للانحدار الذي أصابه في حياته، ولأن زوجته ضاقت بعلاقتهما، وشرعت في الانفصال عنه. يتوجه إلي سوبر ماركت لشراء بعض احتياجاته وهناك يصادف زوجته "ماريون كالمات"، وهي تبتاع بعض الأغذية. يساعدها في حمل ما ابتاعته، وعند وقوفهما قرب الخزينة لدفع الحساب يشاهدان اثنين من اللاجئين وهما يحاولان الدخول لشراء ما يحتاجان إليه، لكن الحراس يمنعونهما بعجرفة من الدخول. تحتج "ماريون" علي هذا المنع فنتذكر أننا شاهدناها من قبل وهي تساعد في توزيع الحساء المجاني علي طابور اللاجئين قرب الميناء. أما "سيمون كالمات" فهو لا يحرك ساكناً. تُعلق "ماريون" علي موقفه بضيق قائلة: "ألا تعرف ماذا يعنيه منع الناس من دخول المحلات لشراء طعامهم؟ هل تريد أن أبتاع لك كتاباً في التاريخ حتي تُدرك مغزاه؟ تلال بيضاء في يوم من الأيام يلمح "بلال" التلال البيضاء لمدينة "دوفر" في الأفق فتتولد في ذهنه فكرة. يذهب إلي الحمام الذي يعمل فيها "سيمون" مدرباً ويطلب منه أن يقوم بتدريبه. يلاحظ "سيمون" الرقم المختوم علي معصمه. وفي إحدي المرات وهو يقود سيارته يلمحه سائراً تحت المطر فيلتقطه ويصطحبه إلي بيته. هكذا تبدأ العلاقة بين الاثنين. خطوة بعد خطوة مثل علاقة الأب بابنه تنمو العواطف بينهما لتتخطي حواجز العرق، والديانة، والسن، والمصالح وتنشأ بينهما صداقة عميقة تتغلب بالتدريج علي الصعوبات الواقفة في طريقها. يتولي "سيمون" تدريب "بلال" علي السباحة في الحمام بجدية عندما يتنبه إلي أن الشاب أصبح يفكر في عبور "بحر المانش" ليلتقي الفتاة التي أحبها عندما كانا في "العراق"، ثم يأويه في بيته متحملاً مطاردات البوليس، وتفتيش منزله، واستدعائه إلي إدارة الأمن ليلتقي ضابط شرطة له وجه وقلب من الحجر يتولي مسئولية مراقبة اللاجئين في المدينة. يتحمل تهديدات الضابط، وإنذاراته التي يشير فيها إلي عواقب مساعدته لأحد اللاجئين. يتحمل قضاء ساعات في الحجز، لأن جاره العنصري أبلغ عن إيوائه للشاب "بلال" في بيته ذلك أن القوانين في "فرنسا" تضطهد اللاجئين بلا رحمة، وتُطارد من يقدم لهم أدني مساعدة حتي وإن كان بعض الطعام، أو إيواء مؤقت في بيت من بيوتهم، بعد أن رأي أمامه نموذجاً لشاب اجتاز مسافة أربعة آلاف كيلو متراً سائراً علي قدميه، أو معلقاً أحياناً تحت دُونجل القطارات، شاب تحمل التعذيب في سجن الأتراك، والجوع، والتشرد، والبرد القارس دون أن يكون له سقف يحتمي به، شاب يتدرب علي السباحة خلال ساعات طويلة، وأحياناً طوال الليل بعد أن يخفي نفسه في الحمام لأنه يريد أن يلحق بمن يحب، بينما يقول "سيمون" عن نفسه إنه لم يكن مستعداً لاجتياز الشارع حتي يتوجه إلي حيث تُوجد زوجته. علاقة جنسية خطوة بعد خطوة يتغير "سيمون كالمات" فتتبدل نظرة زوجته السابقة إليه، بل تُطل في لحظة من اللحظات نظرة من عيني ضابط الشرطة لمحة فيها إعجاب واندهاش عندما يلصق "سيمون" بنفسه الاتهام بأن بينه وبين "بلال" الشاب العربي علاقة جنسية ليفسر اختفاءه فجأة من منزله، وليحول دون اتهام زوجته السابقة بأن لها علاقة بمساعدة "بلال" وإيوائه. قبل نهاية الفيلم نشاهد "بلال كالياني" وهو يسبح علي بعد ثمانمائة متر من ساحل مدينة "دوفر" مرتدياُ لباساً للسباحة يغطي رأسه وجسمه كله، لكن أفراد طاقم أحد زوارق حراسة الشواطيء يلمحونه وهو يسبح فيطاردونه. يحاول جاهداً أن يضاعف سرعته ليفلت منهم. يغطس في الماء عدة مرات ليختفي عن أنظارهم، لكنه في آخر مرة لا يطفو علي السطح ثانية، فلا نري سوي سطح الماء الرمادي اللون، الساكن، القاسي. يسافر "سيمون كالمات" إلي "إنجلترا" ويلتقي "مينا" حبيبة "بلال". يخبرها بما جري، ويقدم لها خاتماً كان ملكاً لزوجته "ماريون" وضاع منها ثم اكتشفه مدفوناُ في ركن الأريكة الموجودة في صالة بيته، فأهداه ل"بلال". ترفض أن تأخذ منه الخاتم، فقد أصبح بالنسبة إليها فاقد المعني، وفي مشهد أخير نري لقطة لفريق "مانشستر يونايتد" لكرة القدم الذي كان يحلم "بلال" بالإنضمام إليه فقد كان لاعباً للكرة، وعداءً معروفاً في العراق قبل أن يغادرها في رحلته إلي الخارج. عمق الإحساس شارك في كتابة فيلم "مرحباً" ثلاثة سينمائيين هم المخرج "فيليب لورييه"، والكاتبان "أولفييه آدم"، و"إيمانويل كورسيل". حصل الفيلم علي جائزة "لوميير" الفرنسية لأحسن عمل سينمائي، وعلي جائزتين في مهرجان "برلين"، لكن الأهم من ذلك هو أنه رغم كونه عملا جادا، لا ترفيه فيه يتناول موضوعاً هاماً وشائكاً، ويدين الكثير مما يحدث في بلد أوروبي مثل "فرنسا"، مع ذلك كله تدفق لرؤيته منذ عرضه سنة 2009 أكثر من مليون ونصف المليون من المشاهدين، إنه إلي جانب النسخة الفرنسية تُوجد منه نسخة إنجليزية وآخري عربية، إنه أثار مناقشات واسعة في "فرنسا" حول وضع ما يسمونه "باللاجئين السريين"، حول القوانين الجائرة التي جعلت من حياتهم هناك عذاباً يومياً، وحول التغير الذي حدث في عقلية، وتصرفات المواطنين والمواطنات في بلد كان ينظر إليها علي أنها مهد الحريات الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان يلجأ إليها المضطهدون من مختلف الأقطار، إنه لعب دوراً في تدعيم الحركة المناهضة للسياسات التي يتبعها نظام "ساركوزي"، وسنه للقوانين واتخاذه إجراءات لقهر، وترحيل اللاجئين العرب من "فرنسا"، وهي حركة يتسع نطاقها يوماً بعد يوم. لقد اتضح تأثير هذا الفيلم في أنه عُقدت جلسة خاصة في البرلمان لعرضه ومناقشته شهدت جدالاً ساخناً بين المؤيدين والمعارضين لهذه السياسات. نجاح جماهيري نجح فيلم "مرحباً" جماهيرياً وفنياً، وهو نجاح شارك في تحقيقه المخرج وكتَّاب السيناريو والممثلون الذي أجادوا أدوارهم. في مهرجان الإسكندرية السينمائي السادس والعشرين قُدمت ثلاثة أفلام عن الهجرة كان هذا الفيلم هو الوحيد البارز ولذلك نال جائزة أحسن فيلم بالمهرجان. حكي قصة إنسانية أفرادها ناس عاديون يسهل علي المشاهد أن يتجاوب معهم، ومع مشاكل حياتهم، لأنها عُرضت ببساطة ودون مبالغة. كان تأثيره عميقاً بفضل اختيار شخصياته وما حدث فيها من تغيير، "سيمون كالمات" (قام بدوره الممثل فينسون ليندون) الذي عاش أياماً من المجد، بطلاً للسباحة نال فيها الميدالية الذهبية، ثم تدهورت به الأحوال ليصبح مدرباً عادياً للسباحة فنُشاهده وهو يشرف علي تدريب مجموعة من النساء البدينات في مشهد مثير للسخرية. رجل عادي متجهم الوجه حزين، يعاني لأن زوجته المدرسة "ماريون" (قامت بدورها الممثلة "أودري دانا") تُريد أن تنفصل عنه فهو منغلق علي نفسه، غير مبال بالآخرين فيتحرك شيء في أعماقه، ربما رغبة في أن ينال احترامها المفقود لعلها تُغير رأيها فيه، وتعود إليه، أو بداية لصحوة الضمير تجعله يلتقط الشاب الكردي من الطريق ويأويه ثم يبدأ في مقارنة نفسه بهذا اللاجيء الشاب البريء، والمندفع الذي تحمل الأهوال لأنه قرر أن يخاطر بحياته ويجتاز "بحر المانش" سابحاً في مياهه الباردة الخطرة ليشارك حبيبته حياتها. هكذا تنشأ بينهما علاقة تملأ الفراغ الذي يشعر به "سيمون كالمات" في حياته. الحقيقة العارية في هذا العمل تُوجد أشياء كثيرة لكن جوهرها هو التطور الذي حدث بين "سيمون كالمات" و"بلال" وهو تطور كان مقنعاً لأنه عُولج بشكل مدروس، وتدريجي، لا استعجال فيه، محكي بواقعية الأشياء الحقيقية المعاشة دون قفزات فجائية ولا زيف الميلودراما أو مبالغات الرومانسية. إنه تطور قام بتمثيله "فينسون ليندون" بجدارة يلمحه المشاهد في نظرة من عينيه، في ابتسامة خاطفة، في شرود لحظي، في حزن عابر يحرك وجهه الجامد، في اندهاش وإعجاب يشرق مثل الضوء السريع في الملامح، في ثورة من الغضب الهاديء عندما يجابه بدناءة جاره الذي أبلغ عنه البوليس، في الأسلوب المحب الرقيق الذي يعامل به رفيقة حياته، رغم إصرارها علي الطلاق. قام بمتثيله أيضاً الطرف الآخر الممثل "فيرات أيفرديري" في دور الشاب الكردي "بلال"، الصامت أغلب الوقت تُطل من وجهه براءة، وتردد الخجل، ولحظات الإحباط أو الحماس والخيال الجامح، وقبل كل شيء علامات الإصرار الذي لا يلين. تعرض الفيلم لقضية خطيرة دون خطب أو شعارات وإنما عن طريق قصة تتعلق بأفراد وما يحدث لهم في المجتمع بحيث يمكن أن يري المشاهد نفسه فيها فتدفعه إلي الإحساس والتفكير في كيف يمكن ان يتردي الإنسان بسبب ما يحيط به، لكنه قد يتغير، ويتنبه، ويخرج من قوقعته إذا صدمته الأحداث. اتبع المخرج أسلوباً تسجيلياً متقشفاً في أجزاء مهمة من الفيلم كأنه يقول إن الحقيقة العارية أقوي من البهرجة. اختار موسيقي للبيانو بسيطة ظلت تروح وتجيء كأنها كانت تُعد للنهاية المأسوية التي اختطفت الشاب الجميل وهو مازال في ربيع العمر. إنه فيلم يسخر عنوانه "مرحباً" من الذين يحكمون "فرنسا" هذه الأيام ويدعون أنهم المدافعون عن الثقافة والرقي الحضاري وحقوق الإنسان ضد التعصب والإرهاب الإسلامي.