تفسد السياسة الدين وقد يفسد الدين السياسة كما رأي وحيد حامد في «الجماعة» ولكن.. أليس من الوارد أيضا أن تفسد السياسة الفن؟.. أليس من الممكن أن تفسد فكرة سياسية مسيطرة علي ذهن المبدع.. عمله الفني؟ براعة البداية برع مؤلف مسلسل الجماعة في اختيار بداية العمل.. فمن المنظور الفني بدأ بموقف ملتهب تمثل في تزوير إرادة الطلاب في انتخابات الجامعة وهو الأمر الذي اشتمل علي شطب أسماء مرشحي الإخوان والذين ردوا علي اضطهاد السلطة بعمل عرض شبه عسكري غير مسبوق بساحة الجامعة، يقوم «أشرف» وكيل النائب العام بالتحقيق مع طلاب الإخوان الذين تم القبض عليهم عقب العرض لكنه يفاجأ بأن أحد المقبوض عليهم هو ابن صاحب الدار القديمة التي يمتلك أشرف بها شقة إيجار، يطلب أشرف اعفاءه من استكمال التحقيق - وإن عاد لاستكماله فيما بعد، ويبدأ في محاولة فهم فكر وتكوين وتاريخ الإخوان بعد تعرفه إلي المستشار عبدالله كساب (الراوي لحكاية الإخوان) الذي كان عضوا قديما بالإخوان قبل خروجه عليهم، يبدأ العمل في تناول حكاية الإخوان من خلال عرض سيرة حياة مؤسس الجماعة «حسن البنا»، يخطف التاريخ النص ولا يعيده إلي الحاضر إلا لعرض بقية التحقيقات أو لإلقاء أضواء «مفاجئة» علي ألوان الفساد بمصر التي يراها الكاتب أبرز أسباب تزايد شعبية الجماعة. ديكتاتورية النص! علي الجانب الفكري مال الكاتب بوضوح إلي انتقاء المعلومات التاريخية التي تحمل وجها سلبيا وركز عليها في إطار عرضه لتاريخ وفكر الجماعة.. وعلي الجانب الفني عمل مؤلف النص علي فرض رؤيته علي المشاهد.. حيث لجأ إلي حيلة ذكية بجعل ميزان العمل بيد ممثل للنيابة ومن ورائه «المستشار» كي يقول للمشاهد.. عليك ألا تجادل حين أخبرك بأن البنا كان يميل إلي العنف منذ صغره وألا تفتح فمك - لتناقش - حينما تعلم من خلال النص أن البنا كان مغرما بدراسة التنظيمات الشيعية وكان أيضا ذا علاقة خاصة بأمراء السعودية وكان مشبوها ماليا.. يجمع الأموال الطائلة من أبناء الجماعة بالإسماعيلية ثم يرسلها إلي أخيه بالقاهرة وأنه كان مواليا للملك الفاسد.. فكيف يجادل المشاهد العادي وهو يسمع هذه المعلومات يرويها قاض ويؤمن علي كلامه وكيل للنائب العام؟ هل يمكن أن يشكك في نزاهة مثل هذين الشخصين اللذين ينتميان إلي هيئة العدالة التي لا تمسها شائبة من هوي؟!. شخصيات لا واقعية الانحياز الفكري ومحاولة الكاتب فرض رؤاه أديا إلي غياب الصدق الفني.. تؤكد هذا الأمر.. الشخوص الدرامية وعلي رأسها الشخصيات الأمنية التي بدت حنونة رقيقة (أحد قيادات الأمن يتحدث قائلا: الجماعة ناوية علي العنف ومهمتنا نمنع العنف)! في أحد المشاهد يوجه قائد أمني حديثه إلي مرءوس له قائلا: «اوعوا تكونوا ضربتوا الولاد» - لاحظ المفردة الأخيرة - الولاد - بما تحمله من حنو، ظهر مسئولو التحقيقات دوما - بالنص - في صور ملائكية بدوا شديدي الحرص علي التأكد بأنفسهم من أن أحدا لم يتعرض لمعتقل بأذي، أما شخصيات القاعدة الشبابية للإخوان فقد رسمها الكاتب علي أحد وجهين إما مسحوقين كارهين للنظام وقد انضموا للإخوان ليس حبا فيهم بقدر ما هو رفض للسياسات القائمة (مثل الشاب حسين ابن اسطبل عنتر) وهو ما يعني - حسب غرض المؤلف - أن الإخوان ليسوا بالبديل الحقيقي، الوجه الثاني لهذه الشخوص هو «الانتهازي» علي شاكلة طالب الطب (ابن صاحب البيت القديم) الذي نعلم بأنه تودد إلي زميلة له لأن والدها قطب إخواني ثري يمتلك مستشفي شهيرا، وهنا نسأل.. هل الأقرب إلي تفكير طالب انتهازي.. التقرب إلي ابنة إخواني ثري يوقعه تقربه منه في مشكلات أمنية لم يكن هناك داع للوقوع فيها؟ أم الارتباط بأي فتاة ثرية بعيدة - وأسرتها - عن أي عداء مع السلطة والأمن؟.. من جانب آخر.. زرع الكاتب قسرا عددا من الشخصيات لمحاولة اسباغ الموضوعية علي رؤية النص - مثل تلك الشخصية الغريبة لهذا العجوز المطربش الذي فاجأنا النص به في «منتصف الحلقات» (!) يتحدث للناس كالمهووس عن اختلال الأوضاع في البلاد. منطق متهافت.. وحوار مباشر الهدف السياسي للعمل أثر علي الحوار بقوة فبدا مباشرا للغاية (الحوارات المتزيدة لوكيل النيابة مع الطلاب، حوارات أشرف مع صلاح حول الإخوان وأوضاع البلاد) كذلك الحال في الحوارات التي أرادها الكاتب ملقية ل«ضوء خافت» علي الفساد المستشري (حوارات العجوز المطربش مع الضابط والعامة)، وبدأ منطق الحوار متهافتا في أحيان - ففي أحد المشاهد يسأل أشرف المستشار.. «لماذا لا نسمح بإقامة حزب ديني»؟ فيرد كساب: «لأن أحدا لن يستطيع معارضة مثل هذا الحزب لأنه ساعتها سيكون معارضا للدين نفسه».. هذا المنطق «الحكومي» مردود عليه من خلال واقع وتاريخ عشرات الأحزاب الدينية المسيحية والإسلامية المنتشرة بعشرات البلدان وكلها تتعرض لانتقادات بل وتخسر - أو تكسب - الانتخابات دون أن تتهم معارضيها بالكفر، وغاب المنطق أحيانا عن الحوار.. مثل حوار أشرف مع المستشار حول تأثر البنا بجماعة الصباح - الحشاشين - حيث يقول كساب: «الصباح كان بيسمي اتباعه الرفاق، والبنا سمي اتباعه الإخوان.. عاوز أكتر من كده إيه»؟ وهو حوار يثير الدهشة لأن افتراض صحته يقتضي اعتبار الشيوعيين (الرفاق) هم الأقرب إلي جماعة الصباح!، ملحوظة أخيرة، فيما يخص الحوار.. استخدم الكاتب في وصفه للإخوان تعبيرات حكومية محضة (المحظورة - تنظيم سياسي أساسه ديني) وهو ما يؤكد سيطرة الرؤية الرسمية علي ذهنيته. الجماعة و..«فساد السياسة» علي الرغم من تقديرنا الشديد للصورة التي قدمها محمد ياسين - مخرج العمل - التي أعدها بين الأفضل من أعمال رمضان 2010 وعلي الرغم من احترامنا ل«كاست» العمل وعلي رأسه الموهوب إياد نصار والقدير عزت العلايلي والمتمكن صلاح عبدالله إلا أن العمل الدرامي هو بالأساس «نص».. والنص جاء مفتقرا إلي الصدق الفني وشابته العديد من العيوب القاتلة ومن ثم يمكننا أن نجيب باطمئنان عن سؤال المقدمة.. بأن السياسة - بالفعل- قد أفسدت الجماعة (المسلسل) - تماما- كما أفسدت السياسة الفكر الدعوي للجماعة (التنظيم) وتسببت في تشوش رؤيتها واضطراب حركتها.. ولكن.. ليس علي الوجه الذي رأه صاحب الجماعة (المسلسل)!.