تحكي إحدي الروايات عن مريض هندي ذهب إلي الطبيب للعلاج، وبعد إجراء الكشف عليه، أعطاه الطبيب روشتة علاج تحتوي علي شريط "كبسول" يتكون من عشر كبسولات، قائلا له بصوت الواثق: خذ كبسولة صباح كل يوم وبعد أن تنتهي من تناول هذا العلاج خلال عشرة أيام ستتعافي بإذن الله. اشتري المريض العلاج ورجع إلي بيته، تراءت له فكرة "جهنمية" : لماذا لا يتناول العشر كبسولات مرة واحدة، بدلا من الانتظار عشرة أيام واستمرار الألم هذه الفترة الطويلة؟ فكر قليلا ثم قرر أن يتناول العشر كبسولات مرة واحدة!! ساعات قليلة انتقل المريض إلي المستشفي يعاني الألم الشديد في معدته، ولولا عناية الله لحدث له مكروه يتسبب في عدم عودته للحياة مرة أخري. مصر.. المريض الهندي لست أعلم إن كانت هذه الرواية حقيقية أم خيالية، لا يهم الأمر كثيرا، لكنها ذات دلالة مهمة. يمكننا تشبيه المريض هنا ب"مصر" ، فمصر مريضة وفي حالة إعياء شديد، تعاني أمراض الصيف والشتاء، وتبدو المشكلة أكبر، لو كان الطبيب غير ماهر ووصف علاجا خاطئا، فربما يصاب المريض بما يسمي ب"العاهة المستديمة" التي تلازمه طوال حياته، ويبدو أن مصر مصابة "بعاهة مستديمة" نتيجة تشخيصات خاطئة أحيانا، أو لعدم اتباع "روشتة" العلاج الصحيحة ، فتحتاج لسنين عديدة للتعافي والشفاء. مصر أدمنت الأطباء الكذوبين وترفض أي طبيب يبوح لها بحقيقة الداء، مثلما قال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن الشرق!! مصر لا تحتاج فقط للطبيب الماهر الذي يصف العلاج الصحيح، لكنها تحتاج لشعب يؤمن بقيم الديمقراطية والعدالة والحرية. فلا يمكن الحصول علي الحرية والديمقراطية في يوم واحد أو جرعة واحدة مثلما فعل هذا المريض، فطريق الديمقراطية طويل يحتاج إلي الجهد والتكلفة والوقت. في أحاديثنا اليومية إذا حاول احدهم خداعنا أو الضحك علينا نقول له "انت فاكرني هندي" وإذا قارنّا بين حالنا في مصر وبين الهند، ستخزي النتائج الجبين، فالهند دولة نووية أجرت العديد من التجارب النووية، وتعتبر الهند من أسرع الدول في العالم نموا اقتصاديا، وهي الدولة الأكبر ثقافيا ولغويا وتاريخيا وعدد سكانها خمسة عشر ضعف عدد سكان مصر، ولا نعتقد أنها تعاني طوابير الخبز رغم الزيادة الهائلة للسكان. يعزز الكاتب المبدع الدكتور خالد منتصر في مقال له عن سر نهضة الهند إلي التعليم ، "فتحول الهندي من ركوب الأفيال إلي ركوب الفضاء ، صارت الهند تشجع طلابها علي الاختراع وليس فقط علي مجرد إكمال الدراسة والحصول علي الشهادة، فمن بين خمسة أقمار صناعية أطلقتها الهند منذ أقل من شهر، هناك قمر صناعي صممه طلاب كلية الهندسة وهو قمر «ستودسات» الذي حمل توقيع طلاب في العشرينات". في محاضرته بمكتبة الإسكندرية ، قال العالم الجليل الدكتور أحمد زويل: إن النهضة في بلادنا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية يمكن أن تتحقق في فترة تتراوح من 10 إلي 20 عاما. مستشهدا بدول مثل الولاياتالمتحدة واليابان، وتايوان، التي استطاعت في وقت قياسي تحقيق تقدم مذهل في مجالات العلم والتكنولوجيا. لست متفائلا برأي عالمنا الكبير ، فالواقع لدينا في مصر يختلف جذريا عن هذه الدول التي تعتمد علي أمانة ودقة البحث العلمي والفكر الحديث، وليس "الفهلوة" المصرية، والتلخيص المخل بالمضمون، والعامية البعيدة عن التخصص، والدليل حصوله علي جائزة "نوبل" نتيجة أبحاثه بالولاياتالمتحدةالأمريكية وليس من مصر. بالإضافة إلي ان عادة الشعوب المتخلفة والتي نطلق عليها تأدبا "النامية" عملية التغيير تحتاج لسنوات عديدة، وليس مثلما فعل المريض الهندي. التحول الديمقراطي مخطئ من يظن ان عملية التحول الديمقراطي، يمكن ان تحدث في لحظة أو أيام معدودة، أو أن الحصول علي الديمقراطية يتم بطريقة "اضغط علي الزر": فنصبح عندئذ ديمقراطيين طريق التحول الديمقراطي طويل، ويحتاج لمزيد من دفع الثمن، ولأشخاص مستعدين لبذل الغالي والنفيس من أجل التحول الديمقراطي، الديمقراطية تبدأ من المنزل والمدرسة ودور العبادة. لن يحدث تحول ديمقراطي إلا عندما يؤمن رب الأسرة بحق ابنته أو زوجته في العمل والدراسة، لن يحدث تحول ديمقراطي إلا عندما تقوم المدرسة بحث التلاميذ علي الابتكار والإبداع بعيدا عن الحفظ والتلقين، لن يحدث تحول ديمقراطي إلا عندما يؤمن رجل الدين بان لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأن التنوع سمة من سمات الكون. في سلسلة مقالاته البديعة عن "رباعية الديمقراطية "طرح المفكر الكبير الدكتور مراد وهبة أربعة مكونات لازمة لتحديد مسار الديمقراطية وتأسيسها وهي : العلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية، معتبرا انه من دون هذا المسار تتحول الديمقراطية إلي مجرد وهم !! نعم، بدون هذه الرباعية لن تكون هناك ديمقراطية حقيقية، لا ديمقراطية بدون علمانية وتنوير، المعرفة الثقافية هي أساس التغيير الداخلي للشعوب، بدون أن يرتقي الإنسان ويرتفع وعيه الإنساني والثقافي فلا أمل في اي تغيير. يبدو سؤال منطقي مطروح: هل يمكن فرض قيم الديمقراطية في العالم العربي بالضغط الخارجي أم أن النظام السلطوي المستبد يمنع اي تحول ديمقراطي ويقف أمامه؟ إرادة سياسية رأيي الشخصي، ان عملية التحول الديمقراطي لا يمكن ان تتم بدون إرادة سياسية وإرادة مجتمعية. فهل شعوبنا العربية راغبة في الديمقراطية ولديها استعداد لدفع تكلفتها؟ أم تكتفي بدور النضال الافتراضي عبر الانترنت؟ التحول الديمقراطي القادم من الغرب، لن ينجح في بلادنا العربية، فلدينا ميراث من الغضب والسخط علي الغرب، لا يمكن فرض قيم الديمقراطية عن طريق إغراءات اقتصادية أو معونات مادية أو منح تدريبية، "فما في القلب في القلب" لا يمكن تغييره قبل تغيير الذهن. تخبرنا بعض الخبرات التاريخية ان التحول الديمقراطي في دولة مثل الهند حدث تحت سلطة الاحتلال البريطاني، وهو النموذج الذي تحاول الولاياتالمتحدةالأمريكية تطبيقه في العراق عن طريق الانتخابات، ورغم انه لا يمكن اختزال الديمقراطية في صناديق الانتخابات ، إلا أنها آلية من آليات تطبيق الديمقراطية. قد تحدث عملية التحول الديمقراطي عن طريق ثورة شعبية مثلما حدث في بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية، ويمكن أن تحدث عملية التحول الديمقراطي نتيجة تغيير في رأس الأنظمة والانتقال إلي مرحلة جديدة من تداول السلطة، وهي مرحلة تحدث في العالم العربي كل عشرات السنين. لكن يظل طريق التحول معتمدا علي إرادة الشعوب في النضال نحو الحصول علي حريتها. لا يمكن أن نقلل من قيمة الدور الذي يقوم به الإعلام الجديد من خلال الشبكات الاجتماعية وأهمها الفيس بوك والتويتر والتي كانت سببا في حشد الجماهير للتظاهر السلمي. خلاصة القول، ليست الديمقراطية هبة من النظام يعطيها للشعب، أو منحة يمن بها الحاكم علي المحكومين، لكنها فريضة سياسية وضرورة مجتمعية، وطريق التحول الديمقراطي في مصر، يبدو طويلا ويحتاج لجهود كبيرة علي مستوي القاعدة (المجتمع) والنخبة (المثقفين).