الثقافة المصرية والأصولية الدينية قبل وبعد يوليو الثقافة السائدة زينت لنا شخصية جمال الدين الأفغاني وصورته لنا بصورة وردية فهو المصلح الديني والاجتماعي في حين أنها نفرتنا من المصلح الليبرالي الحقيقي أحمد لطفي السيد هالة مصطفي في رسالتها للدكتوراة «الإسلام السياسي في مصر من حركة الإصلاح إلي جماعات العنف» لم تقع أسيرة للعاطفة الدينية روبير الفارس يتشكل وعي المواطن في العصر الحديث من خلال (النص ) الذي يتلقاه من أخطر مؤسستين، التعليم والاعلام وقد يكون ذلك النص في صالح المواطن وبالتالي في صالح الوطن وقد يكون العكس ومعيار الحكم علي ذلك النص تكونه مجموعة من العوامل منها الي أي مدي يتقدم الوطن نحو صفوف الأمم المتحضرة، والي اي مدي تحققت العدالة الاجتماعية، والي أي مدي تحققت الحرية الفردية والديمقراطية السياسية، والي اي مدي يحترم عقل ومشاعر وجسد المواطن، والي اي مدي يتم الربط العضوي بين كرامة المواطن وكرامة الوطن، والي اي مدي تحترم العلوم الطبيعية والنظريات العلمية والابحاث والي اي مدي يحترم التاريخ الوطني، والي اي مدي يتم تزويره؟ من خلال هذه الاسئلة يضع الكاتب طلعت رضوان مشرط جراح حااًد يبحث به بمهارة عن الثقافة المصرية والاصولية الدينية قبل وبعد ثورة يوليو عام 1952 في كتابه الذي يحمل هذا العنوان والصادر مؤخرا عن دار الدار ويقع في 192 صفحة من الحجم الكبير وفي 12 فصلاً يكشف رضوان عن كيفية رسم الثقافة السائدة للمصريين، وكيف رسمت له ميوله واتجاهاته وحببت لديه شخصيات معينة وبالعكس نفرته من شخصيات اخري؟ وعلي سبيل المثال فان الثقافة السائدة زينت لنا شخصية جمال الدين الايراني الشهير بالافغاني وقدمته الينا في صورة وردية فهو المصلح الديني والاجتماعي الكبير والثائر الوطني العظيم في حين ان هذه الثقافة نفسها نفرت من المصلح الليبرالي المفكر احمد لطفي السيد وقدمته كشخص اقطاعي .وفي جراءة يحسد عليها رضوان يقرر اتباع منهج هدم الاصنام في ثقافتنا السائدة وقد اختار لذلك ان يفند كتابات المحسوبين علي التيار الليبرالي في حين ان المدقق في كتاباتهم يجدها تتطابق لحد كبير مع كتابات الفريق المروج للاصولية الدينية في مصر .من هنا يتناول كتاب (بطولات مصرية من عمر مكرم الي بيرم التونسي )للكاتب المسرحي نعمان عاشور والذي ضخم فيه من جمال الدين الافغاني ومدح افكاره التي كان يطالب فيها بالدولة الدينية وكذلك انتقد طلعت رضوان كتابات الشاعر صلاح عبد الصبور عن الافغاني في كتابه (قصة الضمير المصري الحديث) فقد قال عنه (لقد اعطي الافغاني مصر واعطته مصر) ويتسأل رضوان هل هجوم الافغاني علي الثورة الفرنسية عطاء لصالح المصريين؟ وهل هجومه وتحقيره وشتائمه لفلاسفة التنوير والحرية امثال فولتير عطاء لصالح المصريين وهل هجومه علي العلوم الطبيعية بهدف التنفير والابتعاد عنها عطاء للمصريين ويواصل طلعت رضوان قراءته في كتابه الفريد فيقول ان الدكتورة هالة مصطفي في رسالتها للدكتورة والتي صدرت في كتاب ( الاسلام السياسي في مصر من حركة الاصلاح الي جماعات العنف )لم تقع اسيرة للعاطفة الدينية التي كبلت الثقافة السائدة فالافغاني التي قدمته هذه الثقافة علي انه مصلح ديني هو المحرض علي قتل الخصوم وهو الذي اباح قتل شاه ايران عام 1896 لذلك قال له القاتل وهو يطلق الرصاص علي الشاه خذها من يد جمال الدين .كما يؤكد الكاتب علي اهمية الدراسة المغايرة والموضوعية التي كتبها الدكتور لويس عوض عن الافغاني وهي دراسة موثقة بمراجع عديدة واثبتت ان جمال الدين المولد بقرية اسد اباد غرب ايران وان لغته الاصلية الايرانية لكنه كان يخفي اصوله الايرانية وينتسب لأفغانستان وقد تسببت هذه الدراسة في هجوم كبير علي لويس عوض من رواد الثقافة السائدة الذين لم يستطيعوا الرد علي وثائق ومراجع الدراسة وانهالوا بالشتائم علي لويس ثم يقدم الكتاب دراسة عن احمد لطفي السيد رائد الوطنية وصاحب الشعار الرائع (مصر للمصريين )مؤكدا علي ان الوطنية هي الدرع الواقي لكل المصريين مدللا علي ذلك بالشعار العفوي العبقري الذي ابدعه أجدادنا (الدين لله والوطن للجميع ) ولم تكن المسألة شعاراً اجوف بل تجسد في سلوك حضاري يؤمن بالتعددية ويؤكد اعترافه بالاخر المختلف دينيا ومذهبيا وفلسفيا في هذا المناخ كان من الطبيعي ان يمارس المصريون طقوسهم الاجتماعية بحرية تامة (افراح، احتفالات، موالد، زيارة اضرحة ) في ظل هذا الذوبان القومي لم يستطع تنظيم الاخوان المسلمون ان يبوح بمعارضته لهذه المظاهر التي يعتبرها ضد الاسلام وربما لأن قطاعات عريضة من الاخوان لم تكن قد خضعت بالكامل للأصوالية الدينية ولم تطالب بفرض الجزية علي المسيحيين كما حدث بعد يوليو 1952 وبالطبع لم تكن قد حدثت حمامات الدم التي ارتكبتها جماعات الاسلام السياسي بعد ذلك الكتاب ممتع وجريء وثري بكم لايستهان به من المراجع والدراسات توثق كل سطر من سطوره وهو يدق ناقوس الخطر كاشفا تسلسل الفكر الاصولي في كتابات عدد كبير من المثقفين والمفكرين نتيجة لاثبات اركان مؤسسات دولة البكباشية الدينية اي دولة جمال عبد الناصر التي استخدم فيها الدين كنعصر اساسي في تأسيسها ويصل الكتاب الي ان التخلف الذي نحيا فيه ناجم عن غياب فكر القومية المصرية أو نتيجة طبيعية للاحتفاء بالافغاني وغياب وذم احمد لطفي السيد.