لايزال في هذا البلد من يعيدنا الي زمن محاكم التفتيش،وينصب من نفسه رقيبا علي ضمائر المبدعين،ويوزع التهم بسخاء علي كل من يقدم نقدا لحال المجتمع،رغم أن هذا النقد "حتي لو كان لاذعا" هو السبيل الوحيد للإفاقة من حالة الاستسلام المشين لكل عيوبنا التي صارت مثل الامراض المزمنة، والمستعصية علي الشفاء!من المخجل أن تلاحق تهمة الاساءة لمصر،صناع فيلم عسل أسود ،أو "بنتين من مصر"،وهما علي درجه ملحوظة من الجودة الفنية ،رغم أن الاولي بالهجوم هي تلك الافلام الهزيلة الركيكة التي لاتحترم وقت المواطن أو عقله! وفي حين ينتهي فيلم عسل أسود،بعودة المواطن" مصري سيد العربي" أو أحمد حلمي ،الي حضن مصر،رغم مابها من عيوب ومشاكل ،فإن فيلم بنتين من مصر يقدم صورة أكثر موضوعية رغم قسوتها،حيث يقرر الشاب الذي لايجد فرصة للعمل أو للحياة الكريمة أن يهاجر ،وفي نيته عدم العودة ! لكن من قال إن التعبير الوحيد عن حب الوطن هو الإنتحار في حضنه؟؟ صورة ساخرة يقدم فيلم عسل أسود،باسلوب ساخر صورة من متاعب شاب مصري يقرر العودة الي بلاده،بعد أن قضي عشرين عاما في امريكا،أسباب عودته غير محددة، فهو ليس له أقارب في مصر، وكأنه مقطوع من شجره،ويواجه هذا الشاب"أحمد حلمي" مشاكل لم تخطر في باله،ومحاوله لابتزازه من كل من يلقاه،ولكن علاقته بأفراد إحدي الاسر المصرية البسيطة، التي لاتزال تحتفظ بالتقاليد القديمة والجميلة، التي كنا نتحلي بها زمان،وأصبحت حكايات نرويها للأبناء والأحفاد فلا يصدقونها،أو بالاحري لايهتمون حتي بسماعها، تلك الاسرة المصرية ،هي التي تدفع الشاب "أحمد حلمي" للعودة الي مصر، ولو أني أجد في هذه النهاية تجاوزا عن المنطق،فكيف يضحي شخص عاقل بحياة مستقرة في أمريكا، وفرصة عمل مناسب،ليعود الي مصر،حيث ينتظره المجهول؟ في مجتمع وصلت فيه نسبة البطالة الي رقم مخيف، وزادت فيه نسبة الجريمة، وتقطعت خيوط العلاقات الانسانية السليمة،ومع ذلك فمن حق كاتب السيناريو خالد دياب أن يختار النهاية التي يراها مناسبة لفيلمه الكوميدي، ومن حقنا أيضا إبداء الرأي في تلك النهاية! حالة الوطن فيلم بنتين من مصر هو تجربة الإخراج الثالثة لمحمد أمين الذي كتب له السيناريو والحوار ايضا،والفيلم إذا صح التعبير هو مرثية لحال وطن،والشخصية التي يمكن أن تلفت الانتباه والتي تعبر بصدق عن وجهة نظر مؤلف الفيلم ومخرجه،هي شخصية "جمال" التي قدمها باقتدار وعذوبة "أحمد وفيق"،وهي الشخصية التي تعتبر نقيضا لشخصية "مصري" أحمد حلمي في عسل أسود،جمال اختار الهجرة الي الداخل والاحتماء بين جدران منزله خوفا من بطش رجال الأمن وتحاشيا للصدام مع أزمات المجتمع ! وتستطيع أن تقرأ تاريخه السابق دون حتي أن يفصح عنه الفيلم،وهذا يعود لروعة الاداء ودقة التفاصيل، جمال شاب مقبل علي الحياة مثل ملايين الشباب غيره، ولاشك أنه كان يشارك في أنشطة الجامعة، ويحاول أن يستخدم حقه في إبداء الرأي أو التظاهر السلمي الذي يكفله القانون،ولكنه مثل غيره أيضا ،وقع تحت أنياب سلطة غاشمة، استباحت كرامته،وأهانت كبرياءه ،وتركت في جسده وفي نفسه آثارا لايمكن محوها،ولذلك قرر ألا يفكر في الزواج مطلقا،لأنه أدرك أنه لن يستطيع أن يقدم لأطفاله الحماية، ولايريد لزوجته أن تتعذب وتشقي إذا وقع مرة أخري في أيدي رجال الامن! ولكنه رغم ذلك لايطيق وحدته، وتكون وسيلته الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي ،عن طريق دردشه الانترنت ،وتجمعه الصدفة بصوت فتاة مرتعدة،خائفة ومحبطة وهي دكتورة داليا "صبامبارك"،وهي فتاة تجاوزت الثلاثين،دون أن تجد فرصة للزواج، تؤرقها مشاعرها الجنسية المكبوتة، في انتظار أن تفجرها في موضعها الصحيح مع عريس لايأتي ،تفتقد للحنان والاهتمام من رجل يشاركها الحياة، تعيش داليا مع أسرتها الصغيره،شقيقها الاصغر،عمروحسن يوسف ،يقف وسط طوابير العاطلين المحبطين،يفكر هو وصديقة أن يسافرا للخارج بحثا عن فرصة عمل،تمنحه داليا "صبا مبارك"كل مدخراتها ،يدفعها مقابل فرصه سفر، علي عبارة متآكلة، تغرق بمن عليها،فيموت المئات،وتتفحم جثثهم ،في مشهد لايمكن أن تنساه،ويعود الشقيق ،مهزوما،منكسرا بعد وفاة صديقه ورفيق رحلته،تحكي داليا لصديقها"جمال" الذي تعرفت علي صوته دون ان تلقاه،مشاكلها فيشاركها همها ،ويؤلمه أنه لايستطيع أن يقدم لها حلا،فهي واحدة من ملايين الفتيات اللائي يعانين الحرمان،أما حنان"زينة" صديقة "داليا" وابنة عمها،فهي تعيش مثلها في انتظار العريس،ولكن مخاوفها تزداد مع انتهاء كل يوم من عمرها،فهي تحلم بالأمومه،وتخشي أن تفلت منها سنوات العمر دون أن تحقق الحلم،وتضطر للجوء لمكاتب طلب الزواج،وتبقي في حالة انتظار. مشاكل العنوسة وفي لقاء تليفزيوني مع المخرج محمد أمين قال أنه لم يقصد بفيلمه "بنتين من مصر" أن يناقش مشاكل عنوسة الفتيات،ولكنه يناقش عنوسه وطن،عجز عن تلبية احتياجات أبنائه الاساسية! فلم يعد لديهم أي نوع من الانتماء حتي أن "جمال" أو«أحمد وفيق» يختار لنفسه اسما حركيا علي الفيس بوك ،وهو اللامنتمي،تعبيرا عن موقفه من المجتمع! واختلف مع المخرج في أن اختياره لجمال ليكون اسما لأكثر من شخصية في الفيلم ،إنه الاسم الاكثر انتشارا بين مواليد الستينات، نظرا لان الاسر المصرية كانت متيمة بجمال عبد الناصر، ولكن شخصية جمال في فيلم بنتين من مصر لايمكن أن تكون من مواليد الستينات، وإلا لكان عمره الآن خمسين سنة أو مايزيد عليها،أما الجيل الذي يتحدث عنه فيلم بنيتن من مصر،فهو الجيل الذي جاء للدنيا في منتصف السبعينات،وأصبح عمره الآن يزيد علي ثلاثين عاما،وإذا كان جيل عبد الناصر علي موعد مع القدر،فإن جيل السبعينات كان علي موعد مع الفساد والفقر وضعف التعليم وتخلي الدولة عن جيوش من خريجي الجامعات الذين لايجدون فرصة للعمل مع قلة الفرص وانتشار المحسوبية، وتقهقر المجتمع بعد سيطرة الفكر السلفي،واستيراد ثقافة الخليج، والتمسك بمظاهر الدين دون جوهره،بما أدي الي خراب الذمم ،وضعف النفوس!" بنتين من مصر" من الافلام الصادمة التي لاتترك المتلقي دون أن تدفعه للتفكير في حاله وحال الوطن، ومع ذلك فهو عمل فني جميل، ولايمكن إتهامه بالاساءة لمصر،فإن الاساءة الحقيقية، أن تقدم أعمالا فنيه تساهم في زيادة الغيبوبة والجهل، وتمنح المشاهد جرعات زائفة من الإنبساط المؤقت،ليس بغرض التسلية، ولاحتي المتعة الفنية، ولكن بغرض أن يحقق اصحاب تلك الافلام "العبيطة" بعض المكاسب الماديه علي حساب جيل كامل مستسلم تماما لقدره،ومع ذلك فإن المخرج محمد أمين يمنح المشاهد بارقة أمل،في التأكيد علي أن الجيل القادم ربما يكون اوفر حظا،من هذا الجيل الذي فرمته المشاكل وشلت إرادته تماما! ويمنح فيلم بنتين من مصر فرص تألق لكل من شارك فيه من الممثلين،زينة في أهم ظهور لها علي شاشة السينما،صبامبارك أداء تلقائي بالغ الروعة ،طارق لطفي وجيهان سلامة وسلوي محمد علي ،رامي وحيد وإياد نصار وعمرو حسن يوسف،نغمات في لحن مشحون بالشجن،أما أحمد وفيق فأعتقد أنه يحمل مخزونا من الموهبة لم يعلن عنه،قبل مشاركته في فيلم "بنتين من مصر"!