كتب أحمد سراج في مغاراتهم الجبلية يجلس المشاديد يتحسسون عطايا الفتوة العجوز، وهبات زوجته الحيزبون، دون أن يفكر أحدهم في أن يعتلي عرش الفتونة، ودون أن يعلقوا على صوت الصرخات التي تنبعث آناء الليل واطراف النهار من قلب الحارة، يدق كل منهم نبوته في الأرض في وهن يليق بصقر أعمى. لأول مرة يحدث هذا من أحدهم – فالفتوة كان من المشاديد يومًا – هذا التعالي والتجبر والإقصاء، لكنهم لا يجرؤون على مجرد الحديث معه أو عنه؛ فعلى عيوبه كلها يدفع لهم إتاوات كبيرة، كما أن من يجاهر بمعارضته يختفي دون أن يعلم أحد شيئًا عنه؛ لذلك سكت مشاديد الفتوة وانزووا في المغارات البعيدة يكتفون بما يلقيه إليهم السبع العجوز، الذي يعرف الجميع أنه لم يكن سبعًا في يوم من الأيام. لكن من أين استمد هذا الشيخ العجوز سطوته وهو بلا نبوته؟ ثمة حكايات تتردد في حارتنا عنه لكنها كلها تثير الحيرة، فكيف برجل كان كل حلمه أن يصير بائعًا سريحًا في بلاد الله الواسعة أن يصبح بهذا الجبروت؟ لم يجلس أحد على عرش الفتونة هذه المدة سواه، ثم ها هو ذا يجهز ابنه الناعم ليعتلي عرشها، ومن وراءه أم قويق تدعم ابنها فتولي من يشاء وتعزل من يقدم فروض الولاء والطاعة، بدءًا من شيخ الحارة وانتهاء بالمُنادي الذي يجوب الطرقات هو وصبيانه. يخرج الفتوة ومن حوله من تريد الست، تبدو الزيارات طبيعية وإن كانت غير ذلك، تقترب الحكاية من نهايتها المرسومة، سيعتلي الناعم عرش الفتونة، يصارحها المُنادي وهو يحمل الفوطة منتظرًا خروج الوريث من الحكم، بأن الوقت قد حان. فتجد كبير العسس يقف خلفها ليقول لها: كله تمام. بينما يخرج خطيب الجامع ليعلن مباركته لمن يرى الفتوة أنه الأصلح، وما إن يخرج المصلون حتى يجدوا اسم الناعم على الحوائط. لم يعد لأحد من كبراء الحارة القدرة على الاقتراب من قهوة الفتوة؛ لأن المسخوط ابن هنومة ملأها برجاله؛ لذلك قرروا البحث عن مكان يصلح للقائهم، وحين عرف الفتوة العجوز ابتسم قائلا: خليهم يتسلوا. الحارة هادئة كالقبر، موحشة كالليل في الهزيع الأخير، باردة كأطراف ميت، الفتوة في قصره، والعسس في كل مكان، والناعم يتقلب بين أشباهه، وكبار الحارة يبحثون عن طريقة ليدخلوا بها القهوة، والآباء في ساقية البحث عن لقمة الستر. فجأة تمتلئ الطرقات بهم، ملائكة وتلامذة وفقراء وفلاحون وصناع، وجوه عضها الفقر ووجوه أضناه النعيم الزائف المصنوع من أعمار أهليهم في حارات الغربة، وجوه بشر وقلوب أسود وعزيمة شهداء، تجمعوا من كل ملحمة فتاها، من كل قصيدة بيتها الفرد، تكاتفوا كقطرات الماء التي تجمعت ومضت تجرف ما في طريقها دون خوف. إنهم هم أولئك الذين تحدثت عنهم أساطير حارتنا، يثبتون أمام العسس والأذناب وصبية المنادي، يتحول سوق الحارة إلى بيتهم، إذا سقط منهم واحد حل مكانه عشرة، فجأة تراجع كلاب الفتوة الذي كان ظهوره باهتًا، وكان اختفاء الناعم والمسخوط وكبير العسس لافتًا. فجأة ظهر المشاديد، بلا نبابيتهم، صاح أحدهم: يا أهل الحارة نحن معكم، نحيي شهداءكم، ونحمي ظهوركم... لم يسأل أحدنا: أين كنتم أيها المشاديد؟ أسرع بعضنا لاحتضانهم، والهتاف لهم. من يومها وأهل الحارة لا يذوقون النوم ولا الراحة، من يومها وحارتنا تنتظر نهار الحرافيش الذي لا يجيئ. أقوال غير مكسورة: لا السيف أصدق إنباء ولا الكتب صدِّق شهيدك لا زيفٌ ولا ريب دم على يدهم والقول يخدعنا صُنا وخانوا وباعت حقنا النُّخب قيل الأمان وظل الذئب يسبقهم يا حامل السيف كيف الظبي يقترب؟ أرضي وعرضك، ديني فوق بَندكمُ كيف افترقنا وخانت سيفها القرَبُ؟ لا السيف أصدق إنباء ولا الكتب صدِّق "حرارةَ" لا زيفٌ ولا ريب.