كتب أسامة أبوالقاسم "وإذا سأل سائل لماذا يبتلى الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مُسكِت: إن الله عدل مطلق لا يظلم أحدا، فلا يولى المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء (أسرى) الاستبداد مستبدًا فى نفسه، لو قَدر لجعل زوجه وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم، حتى وربه الذى خلقه، تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: ”كما تكونوا يولى عليكم“ هذا الكلام ليس منقولا عن إحدى صحف هذه الأيام ولا هو حديث لأحد المحللين السياسيين الذين تعج بهم الفضائيات، صدق أو لا تصدق عزيزى القارئ هذه الفقرة عمرها تخطى المائتى عام، كتبها مفكر ومصلح اجتماعى رحالة اسمه عبد الرحمن الكواكبى عاش فى القرن قبل الماضى (1854 – 1902). وكنت منذ عدة سنوات قد قرأت كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذى أورد فيه هذه الفقرة ولكن قررت أن أعيد قراءته لأتذوقه من جديد بعد الثورة. وحدث أن تزامن وقوعى على هذه الفقرة مع أحداث الأسبوعين الأخيرين، فاستوقفتنى وشعرت أنها تصف حال أغلبنا فعلاً، والأهم أنها من رجل محايد لا يمكن اتهامه أنه من الفلول أو اليمين المتطرف أو العمالة، إلى آخر هذه القائمة من الاتهامات السابقة التجهيز. ”لا أرى من يقبل احتمالاً للخطأ فى رأيه أو موقفه، لا أرى أحدا يقول لنفسه: لعلى فاتنى الصواب هذه المرة، الكل يتشبث بمواقفه وآرائه كأنما أوتى وحيًا من السماء أنه على الحق“ الجميع تحدث وأفاض عن الحكام المستبدين وظلمهم وها هو رجل لم يرنا ولم نره بل لم يعاصرنا ولم نعاصره يأتينا بفكرة جديدة لا تدغدغ مشاعرنا ولا تربت على ظهورنا وتريحنا بإحساس الضحية المغلوبة على أمرها، ولكن تضع على أكتافنا جزءا من المسؤولية الصادمة: أننا ما ابتلينا بهذا الحكم المستبد إلا لأننا مستبدون فى أنفسنا، فى بيوتنا، فى أعمالنا والأهم فى آرائنا وأفكارنا ومواقفنا. لا أحد يراجع موقفا ولا أحد يقبل نصيحة ولا أحد يسمع من أحد، ولماذا نسمع؟ فنحن على الحق المبين وما دوننا الباطل، ظنوننا يقين وأوهامنا حقائق وأحلامنا علم وأمانينا أوامر. أصبحنا جميعا عالمين ببواطن الأمور داخل البلاد وخارجها، فقهاء فى القانون الدستورى، جهابذة فى القانون الجنائى والكسب غير المشروع، أساتذة فى الاقتصاد والعلوم السياسية والمعاهدات الدولية، بل أننا أصبحنا خبراء فى قوانين واقتصاديات الدول الأخرى. وهو ما يتيح لنا أن نباهى بآرائنا السديدة المبنية على كل تلك الخبرات وأن نتمسك بها حتى آخر رمق. وباعتبار تلك الخبرات الواسعة المتشعبة، فأحكام القضاء إن لم تأت على هوانا فالقضاء فاسد؛ وإذا لم تزد المرتبات "فورا" فقلة العمل أحسن إذ الأموال متوفرة ولكن الحكومة شحيحة؛ والاستفتاء نتيجته غير منطقية لأنها تخالف منطقنا أما منطق الآخرين فلا يعنينا، والآخرون ليسوا أفضل منا حالا ولو انعكست النتيجة لفعلوا بالمثل؛ وإذا قال "مجهول" أنه رأى جمال مبارك على الكوبرى فى عز الظهر فهو صادق لأننا نريد التصديق ولا يهم العقل والمنطق؛ وإذا لم تسلمنا إسبانيا حسين سالم فهى دولة معادية انتهازية؛ وإذا لم يفز فريقى فلتذهب البلد كلها إلى الجحيم. وهكذا تخطى استبدادنا كل الحدود فوصلنا به إلى منصات القضاء ثم عبرنا به إلى الآفاق الدولية لنفرضه على دول أخرى. لا أرى من يقبل احتمالاً للخطأ فى رأيه أو موقفه، لا أرى أحدا يقول لنفسه: لعلى فاتنى الصواب هذه المرة، الكل يتشبث بمواقفه وآرائه كأنما أوتى وحيًا من السماء أنه على الحق، حتى الأنبياء الملهَمون الموحَى إليهم كانوا يقولون لأصحابهم "أنتم أعلم بأمر دنياكم" و"إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، و إذا كان شيء من أمر دينكم فإلي"، وأكثر أهل الأرض إيمانا كان يقول لأصحابه "إن أسأتُ فقومونى"، كانت هناك دائما هذه المساحة لتخطيأ النفس والأخذ والرد والاختلاف والاتفاق ما دمنا بعيدين عن المقدسات. فما هذه الثقة وما هذا اليقين اللذان نراهما الآن يغلفان الدعوات والآراء المختلفة؟ الخلاصة أنه إذا لم يحصل كلٌ على ما يريد كيفما ووقتما يريد، فلن يتزعزع عن موقفه بكل العناد والكبرياء بل ولن يبرح المكان الذى تقف عليه قدماه حتى يتحقق له ما أراد. فإن لم يكن ذلك هو الاستبداد بالرأى فماذا يكون؟ والدفع بأن هذه الإرادة وهذا العزم هما اللذان حققا هذا التغيير الذى ينعم به الجميع، فإن الفارق واضح ويثبت تماما ما أحاول قوله، فالإجماع الذى حدث على ذلك التغيير لم يكن مسبوقا ولا أظنه يتكرر إلا بتكرار الحال المزرية التى كنا عليها ودوامها فترة ليست بالقصيرة حتى تدفع الجموع للتوحد على هدف لا تحيد عنه وهو ما لا يترك مجالا لاستبداد طرف على طرف. أما والحال الآن ليست كذلك، وما نرفضه أو نقبله ليس مجمَعا عليه كسابقه فهو إذًا يحتمل النقاش والتفاوض والحوار، ثم فى النهاية وعلى أى الأحوال يسير "الجميع" قدما دون أن نتثاقل إلى أرض أنانيتنا وكبر نفوسنا. فلنتدارك أمرنا ولينصت بعضنا لبعض، ولنعذر من خالفنا ونتِّهم أنفسنا ولنتنازل قليلا ونصبر كثيرا ولنضع أيدينا على مساحات الاتفاق ولننطلق منها لما نستطيع أن نحققه. أدعو الله ألا "يعيد" ابتلاءنا بمستبدين جدد جزاءًا وفاقا لما نفعله بأنفسنا..