اعتاد الناس على استخدام كلمات (مُغيب أو مغسول المخ والدماغ) لوصف من تغيرت أخلاقهم ومن انحرفوا وراء أصدقاء السوء أو من تبدلت أفكارهم بأخرى أشد تطرفا لتخالف المعتاد عليه. ومع "السكتة الدماغية" التي أصابت نقاشات المصريين مؤخرا، زاد استخدام هذه الكلمات حتى أن معظمنا صار يطلقها على كل مُخالف له اقتناعا منه بأنه وحده "يملك الحقيقة المطلقة!"… ورغم ذلك فإن "غسيل المخ أو الدماغ" ليس مصطلح وليد االتداول الشعبي بل له أصل في التاريخ السياسي فقد عرفت كل أمة في كل مرحلة من مراحل تاريخها نوعاً من فرض المذاهب والعقائد على مواطنيها. بدأ "غسيل المخ" كمنهج أكثر شمولاً وتنظيماً عندما بدأ الصينيون الشيوعيون عام 1950 تطبيقيه لإعادة التشكيل الأيديولوجي مستخدمين أساليب فنية سيكولوجية مترابطة تحت مٌسمى"الإصلاح الفكري الشيوعي الصيني" وهو برنامج كان يقوم على أن كل الناس الذين لم يُثقفوا في المجتمع الشيوعي يجب إعادة تثقيفهم قبل أن يحتلوا مكانهم في المجتمع. وظل هذا المنهج يحمل نفس المُسمى حتى أسماه الصحفي الأمريكي إدوارد هنتر "brainwashing". ومع التطورات المستمرة التي شهدها وسيشهدها العالم من تغيير موازين القوى العالمية (السياسية والاقتصادية) واستحداث مؤسسات وأجهزة جديدة في الدول أو إعادة هيكلتها بما يتناسب مع مصالحها أولا، هذا إلى جانب العالم الذي أصبح قرية صغيرة وصارت فيه مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أسرع انتشارا بين المواطنين من أي "فيروس مُعدي"، اضطرت بعض الأنظمة العالمية إلى مضاعفة مجهوداتها في "إعادة تشكيل فكر المواطن" أو في "غسيل مخه" لضمان الاستمرار والاستقرار، فاضطرت إلى البحث عن سبل جديدة دون "أن تلوث أجهزتها السيادية أيديها" كما كانت تفعل مسبقا لأنها مربوطة ببعض المبادئ العالمية ولو قشريا ولأنها أيضا خاضعة لنوع من المراقبة (الداخلية والخارجية)… فكان بالنسبة لهم "الإعلام هو الحل"… ومن الناحية العلمية، فقد عكف المحللون النفسيون من مدرسة فرويد علي تحليل الانهيار النفسي للعامة أثناء الحرب لصناعته عمدا في وقت السلم وتوصلوا إلي أنه " باستخدام القلق والفزع والإرهاب يمكن تحويل الإنسان لحالة إذعان طفولية تتعطل فيها قوى عقله، ويسهل التنبؤ بردود أفعاله تجاه المثيرات والمواقف المختلفة ويمكن أيضا إيجاد حالة مشابهة في المجموعات الكبيرة تمكن من التحكم فيهم والتلاعب بهم، ويمكن استخدام وسائل الإعلام لإيجاد حالات عقلية تؤدي لتفكك الشخصية وتسهل توجيهها، وهو ما لقب لاحقا بعمليات غسيل المخ. واستخدمت وسائل الإعلام لتوصيل رسائل مبرمجة لأعداد كبيرة لخلق بيئات موجهة لأغراض غسيل المخ. ولكي لايشعر العامة بأن البيئة التي يحيون فيها موجهة، تُستخدم مصادر معلومات متعددة تعطي الرسالة نفسها مع اختلاف بسيط لإخفاء وجود نمط يجمعها جميعا. وتقدم الرسائل من خلال وسائل الترفيه والتسلية المتعددة التي يقبل عليها الناس دون إكراه." وهذا فعلا ما نجحوا فيه، فقد اقحموا المواطن في قلق وفزع دائمين مواجها حياته اليومية وصعوباتها التي لا تنتهي بل تزداد تعقيدا لتصبح كالدائرة الجهنمية يدور في فلكها ك"ثور في ساقية" مغمض العينين، ينتهي يومه بتيه لا يستطيع بعدها التمييز بين المعلومات وسلامتها، فسَلم "ريموت كنترول عقله" لمن يظنهم أكثر علما وإداركا منه بل ويظنهم يعرفون عنه أكثر منه… " لي صديق بتر الوالي ذراعه عندما امتدت إلى مائدة الشبعان أيام المجاعة فمضى يشكو إلى الناس ولكن أعلن المذياع فوراً أن شكواه إشاعة فازدراه الناس وانفضوا ولم يحتملوا حتى سماعه وصديقي مثلهم .. كذب شكواه وأبدى بالبيانات اقتناعه لُعن الشعب الذي ينفي وجود الله إن لم تثبت الله بيانات الاذاعة" ( شيطان الأثير – أحمد مطر) ولم يحقق إلهاء المواطن الغاية كاملة بل سعت الأنظمة والحكومات لحبك منهجية التغييب عن طريق وسائل الإعلام وتعمدت قتل الشفافية ووقف تدفق المعلومات واعتمدت على توريد معلومات معينة ومحدودة للإعلام كلها تؤدي إلى نفس النتائج والإعلام بدوره أدى المهمة التي استُقطب لأجلها على أكمل وجه مقصرا في تأدية مهمته الأساسية. فعلى الرغم من مواكبة الإعلام للتطورات العالمية اليومية ( من صحافة مقروءة إلى مسموعة ثم مرئية وبعدها الكترونية) حتى أنك تكاد تقرأ بمعدل كل ثانية خبر جديد على مواقع التواصل الاجتماعي "يصلك أينما كنت"، إلا أن التأثير السلبي للإعلام لم ينقطع، فهذا التطور الإعلامي كان ماديا أكثر منه مهنيا لأن القائمين على الأجهزة والمؤسسات الإعلامية لم يهتموا بتطوير مهارات وأداء العاملين والممارسين للمهنة بقدر اهتمامهم بتطوير المعدات والتقنيات…حتى هذا التطور المادي لم يحمي الإعلام من انحسار دوره في "الإعلام" عندما قرر- طواعية أو كرها – أن يتخلى عن استقلاليته ليسقط في شرك التبعية السلطوية (سلطة السياسة والحكم أو سلطة رأس المال)…وبما أن المتلقي لا يمكن رفاهة البحث عن سلامة الخبر أو المعلومة فبكل تأكيد لن يملك القدرة على البحث "فيما وراء الإعلام"… بكل تأكيد لا نقصد من كانوا مادة خام للموضوعية وللمهنية أو من جعل نفسه أسير الحق والحقيقة كالصحفي الامريكي والتر كرونكايت أو كل من ينطبق عليه وصف "صاحب ضمير" المذكور في القانون الفرنسي بل نقصد من عرًفهم الإعلامي يسري فودة في حلقة من "سري للغاية" قائلا: " عندما يتحول الأبيض إلى رمادي وعندما يتحول الرمادي إلى أسود وعندما يتحول الأسود إلى عدوان…فتش عن الإعلام! وحينما يتحول الحق إلى شك ويتحول الشك إلى زور ويتحول الزور إلى بهتان…فتش عن الإعلام! ضع مفردات ما يٌسمى بالعمل الإعلامي أمام جهل الامريكيين وضعف الاوروبيين وعجز العرب وأنت تدرك حجم المأساة..! اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تصدق…! هؤلاء المتلاعبون بالعقول بكل منهجية وبكل إبداع يستحقون من الناحية المهنية كل إعجاب حتى وإن كانوا من الناحية الأخلاقية يستحقون كل احتقار" وبما أن "نفس المقدمات تؤدي بالضرورة إلى نفس النتائج"، فواجب علينا إدارك الأساليب (المقدمات) التي يخدعنا بها الإعلام لنصل لمرحلة من التغييب (نتيجة)؟ هناك ست طرق يخدعنا بها الإعلام، وهي خلاصة متابعة دقيقة منذ قيام ثورة 25 يناير وحتى الآن لما قدمه ويقدمه "إعلام الدولة" الذي تعامل مع الثورة بصدمة شديدة والذي تعود منذ سنوات ألا يصطدم أبدا مع أي نظام حاكم بل أنه يلبس دائما عباءته مرورا ب"الإعلام الخاص" الذي يمارس حاليا نوعا من المكارثية ضد فصيل معين وضد عدد من إخواننا العرب اللاجئين في مصر وانتهاء بمن أطلق على نفسه "إعلام إسلامي" لكنه لم يتوقف يوما عن استضافة من يشوه مخالفيه ويبالغ في تمجيد حاكميه. وكلهم يجتمعون على نقل الخبر وتقديمه " بما لا يخالف مصالحهم": أولا: التجييش بين "نحن وهم" ( نحن الإسلاميون وهم العلمانيون…نحن الوطنيون وهم العملاء والممولون…نحن السلميون وهم الإرهابيون) ثانيا: حصر الاختيارات بين الأبيض والأسود(ثوار وطابور خامس أوعملاء…نعم للدين ولا ضد الدين) ثالثا: خلط الخبر بالرأي. رابعا: التغني بشعارات لدغدغة المشاعر (الحرب ضد الإرهاب…الشريعة والشرعية…احنا آسفين ياريس) خامسا: توجيه سيل من الهراء ليسقط مباشرة في اللاوعي (ضبط أسلحة كيماوية في اعتصام رابعة والنهضة"جريدة الأخبار الحكومية/ 6أغسطس 2013" – الرئيس الامريكي أوباما عضو في تنظيم الإخوان" جريدة الوفد/28 أغسطس 2013"- لجنة الانقلابيين لتعديل الدستور تجيز سب الدين والرسل وتشجع انتشار الفساد وتدعم تدهور الأخلاق "جريدة الحرية والعدالة/25 أغسطس 2013") سادسا: التحكم فيما تشاهد وتقرأ ( عن طريق حذف متعمد أو إضافة مقصودة من أجل إعادة توجيه المعنى لخدمة غرض معين) وختاما، قد يجد المرء نفسه مضطرا أن يقدم ختاما تقليدا يضع فيه حلولا لم يتوقف أحد يوما عن المطالبة بها بدءا من مطالبة المواطن بقليل من التفكر قبل التسليم مرورا بمحاولة الإعلام "العودة إلى الإعلام" وحتى الضغط على الحكومة لإطلاح سراح المعلومات والحريات. لكن الأهم الآن هو أن ننتبه لإنذار الخطر "لا تسلك الطريق الاوريلي…الطريق فيه وزارة الحقيقة". تلك الوزارة التي ابتعدت عن مهمتها المقتبسة من اسمها وانخرطت في تزييف الحقائق وإعادة كتابة التاريخ على مقاس حزبها في "1984" لجورج اوريل…!