الشمعة ( 21 ) لكل شيء طاقة على التحمل ... جاء جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بفكرة جوهرية هي ( المحدودية ) : محدودية الحياة والإنسان والأشياء . والحقيقة يا بنتي وأبنائي أن لدينا الكثير من التطبيقات لهذه الفكرة المهمة , وإن تجاهلها يجر على المرء الكثير من المشكلات . إذا كان لكل شيء طاقة على التحمل , فهذا يعني أننا إذا حملناه فوق طاقته فإننا نخسره , أو يخذلنا , أو ينقلب علينا . وهذه الشمعة يا أعزائي وعزيزاتي مخصصة ؛ لإضاءة بعض المفاهيم المهمة في هذا الشأن وذلك من خلال استعراض بعض الأمثلة : 1- إن الحديد الذي نجعله في الأعمدة من أجل حمل أسقف المباني , له طاقة على التحمل , فإذا حملناه أكثر من طاقته ماذا يحدث له ؟ إنه ينحني , وإذا انحنى صار وجوده مثل عدمه , وسقط السقف , وهذا مثال مادي محسوس وسهل الفهم . 2- الوازع الداخلي - الضمير - الذي في صدروكم والتربية الممتازة التي تلقيتموها في أسركم والمبادئ العظيمة التي تؤمنون بها ... كل ذلك له طاقة على التحمل , فلا تحملوه فوق طاقته من خلال العيش في بيءة مملوءة بالمعاصي والمنكرات , ولا تحملوه فوق طاقته من خلال مصاحبة رفاق السوء الذين يتعاونون مع شياطينكم على إغوائكم وتدميركم . وإن كثيراً من الشباب والشابات الذين انحرفوا , إنما حدث لهم ذلك ؛ بسبب مواجهة تحديات أخلاقية غير عادية , وينبغي على العاقل أن يتعظ بغيره . 3- كثير من الشباب والفتيات لديهم ذكاء ونبوغ جيد , لكنهم لم يحققوا أي تفوق أو نجاح لافت , وذلك كثيراً ما يكون بسبب تعويلهم المبالغ فيه على مواهبهم الفطرية , أي أنهم حملوا ذكاءهم فوق طاقته في رحلة الحصول على التفوق . وقد دلت وقائع كثيرة , تفوق الحصر على أن الذكاء ليس أكثر من عنصر واحد من العناصر التي يتطلبها النجاح , فهناك العلم والتدريب والجدية والمثابرة ووضوح الأهداف والإرادة الصلبة ... 4- بعض الفتيات يتمتعن بجمال متفوق وبارع , وقد تزوجن , وبعد مدة وجيزة بدأت الخلافات مع الزوج , ثم وقع الطلاق ... لماذا حدث ذلك ؟ هناك طبعاً أسباب عديدة , منها اعتماد الفتيات على جمالهن وتحميله ما لا يتحمل حيث تظن الواحدة منهن أن جمالها يوجب على الزوج أن يتحمل كل الأخطاء , ويستجيب لكل الطلبات , وما درت أن الجمال يصبح شيئاً مألوفاً للزوج بعد مدة , وأن الذي يستمر هو جمال الروح وجمال الخلق . ماذا يعني هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟ إنه يعني الآتي : 1- لاحظوا دائماً أن لكل شيئ حداً يجب التوقف عنده , وكما يقولون : إن الشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده . 2- التوازن هو أجمل شيء في الحياة , وأهم شسء وهو يعني الاعتماد على عناصر متعددة في تسيير أمور حياتنا وقضاء حاجاتنا , فابحثوا عنه باستمرار . 3- احموا أنفسكم من مبالغات الشباب واندفاعاتهم , والتي تدفع دائماً في اتجاه التطرف والابتعاد عن الوسطية . الشمعة ( 22 ) العطاء الحقيقي ... حين نكون في مقتبل العمر في مرحلة ما قبل النضج يغمرنا اعتقاد بأن السعادة تكون في الصحة والجمال والمال وكل الأشياء التي يمكن أن نستحوذ عليها , وحين ننضج وتظهر لنا الأمور على حقيقتها نكتشف على سبيل التدرج أن السعادة في العطاء وفي جعل الناس حولنا سعداء . في مرحلة ما قبل النضج نظن أن العطاء العظيم يكون في إطعام الطعام وتقديم المال لمن يحتاج إليه , وحين نكبر , وننضج , يتبين لنا أن العطاء الحقيقي ليس عطاء المال , وإنما أشياء أخرى أهم من المال أتعرفون ما هي يا بناتي وأبنائي ؟ إنها أشياء تتصل بالروح والعقل والخبرة والوقت : - نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين ندعو بإلحاح لأخٍ في ظهر الغيب . - نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نعفو عمن أساء إلينا , وتصبح قلوبنا صافية ونقية نحوه . -نحن نعطي عطاءًحقيقياً حين نقبل عذر من يعتذر إلينا , ونقيل عثرته . -نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نقدم فكرة عظيمة , تغير حياة إنسان نحو الأحسن والأفضل . -نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نحفز على الخير والنجاح , ونقدم التشجيع الصادق . -نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نكون مواطنين صالحين , نسهم في حمل أعباء الوطن . -نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين يشعر من يحتك بنا أن الحياة تكون رائعة حين يكون في جوارنا . - نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نتنازل عن شيء من وقتنا لتقديم خدمة أخوية . - نحن نعطي عطاءً حقيقياً حين نقدم الاحترام لمن لا يستحقه ؛ وذلك لأن طبيعتنا تأبى غير ذلك . يقول أحد الفلاسفة : ( هبة الأشياء ليست ثمينة كهبة الأفكار , بل إن الخواتم والجواهر وكل الأشياء النفسية التي نقدمها لمن نحب ليست هبات حقيقية , ولكنها اعتذار عن الهدايا الحقيقية , الهبة الوحيدة الحقيقية هي بضعة من النفس ) . تأملوا يا بناتي وأبنائي قول الله - تعالى - : ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) , وقوله صلى الله عليه وسلم : ( دعوة المرء لأخيه بظهر الغيب مستجابة , عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به : آمين ولك بمثل ) . إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يملكون المال - باستثناء حالات قليلة - ولم تكن الأشياء هي أعظم ما قدموه لأممهم , لكنهم قدموا الرؤية والمنهج والأفكار والأهداف والغايات الكبرى , وعلى هديهم سار كل المصلحين الربانيين على امتداد تاريخ أمة الإسلام . ماذا يعني هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟ إنه يعني الآتي : 1- اعملوا كل ما في وسعكم لإسعاد من حولكم , فذلك قمة العطاء . 2- حين نقدم لمسلم خدمة بإخلاص , فإننا في الحقيقة نقدمها لأنفسنا ؛ لأننا بذلك نتأهل لاستقبال فيوضات الرحمن الرحيم . 3- لا تخافوا من نجاح زملائكم , فهو نجاح للأمة , وأنتم جزء منها . 4- التبسم وحسن الاستقبال والتعاطف والاهتمام والمودة من أكثر ما يحتاج إليه الناس , وهو أكثر ما ينبغي أن نجود به . الشمعة ( 23 ) لا تستسلموا للإخفاق ... نحن في هذا الكون نمضي في إطار سنن ربانية ثابتة , وإذا كان علينا أن نتعرف عليها , فإن ذلك ليس من أجل التحايل عليها , وإنما من أجل التكيف معها والعمل في ظلالها , ومن تلك السنن أننا لا نستطيع أن نضمن نتائج محاولاتنا واجتهاداتنا على نحو دائم , وكلما كان ما نسعى إلى الحصول عليه كبيراً كانت حساباتنا أقل دقة , وكان حجم المخاطرة أكبر . شيء جيد يا بناتي وأبنائي أن تفهموا هذه الحقيقية وأن تتعاملوا معها كما هي . وأنا ألمس في بعض تعاليم الإسلام ما يدعونا إلى أن تكون مطالبنا كبيرة , وألا نرضى بالقليل , وأن يكون لدينا نوع من المخاطر المحسوبة ؛ لأن الذين لا يخاطرون قد لا يربحون , وإذا ربحوا , فإن، أرباحهم تكون قليلة , ونلمح هذا في إحلال الله - تعالى – للتجارة وتحريمه للربا , فالتجارة تشتمل على نوع من المخاطرة , لكن أفق الربح فيها واسع وغير محدود . أما الربا فإنه يخلو في العادة من المخاطرة , لكن هامش الربح دائماً محدود وقليل نسبياً . إذا كان الإخفاق وعدم الحصول على المراد وحدوث الكبوة بعد الكبوة شيئاً متوقعاً , فكيف ينبغي أن يتعامل أبناؤنا وبناتنا مع ذلك ؟ لعلي ألخص الجواب في المفردات التالية : 1- نظروا إلى الإخفاق على أنه شيء طبيعي في الحياة , ولهذا فإن من المهم أن تكافحوا في حياتكم وفق القاعدة التالية : لا مكاسب كبيرة , ولا نجاحات عظيمة إلا عبر الكثير من المحاولات ؛ وتذكروا أيها الأعزاء والعزيزات أنكم حين تخفقون تكونون في مسعى إلى تحقيق شيء قيم , والذين لا يذوقون طعم الإخفاق هم الكسالى لا قاعدون والمحرومون من الطموحات الكبيرة . 2- ع لينا أن نعود أنفسنا الرضا بالقضاء والقدر , فحكم الله – تعالى – نافذ , ولا معقب عليه , ونحن البشر قصيروا النظر محدودو الرؤية , فقدنتعلق بالشيء , وننظر إليه على أنه مصيري , ثم يتبين لنا أنه يشكل خطورة كبيرة , , يتبين أنه شيء تافه , وتذكروا يا بناتي وأبنائي قول الله – عز وجل- : ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) علينا أن نأخذ بالأسباب , ونفعل أفضل ما يمكن فعله , ثم نتقبل نتائجه بروح صافية ونفس هادئة وراضية . 3 - من المهم أن تعرفوا أننا لا نستطيع في معظم الأحيان أن نتحكم بالأحداث ؛ لأنها أكبر منا , ولكننا نستطيع أن نتحكم في ردود أفعالنا عليها , وهذا شيء يستحق الانتباه ؛ لأن الذي يؤثر علينا ليس ما يحدث , وإنما الآثار التي يتركها في نفوسنا , مثل الذي يفقد مبلغاً كبيرة من المال , أو يفقد مبلغاً كبيراً من المال , أو يفقد عزيزاً , أو يرسب في امتحان , فإن هذا قد يكون تأثيره مدمراً إذا أورثنا اليأس والقنوط أو غير اتجاهنا في الحياة ... إن مياه البحر تحمل السفينة , ولا تؤذيها , لكنها إذا تسربت إلى داخلها , فإنها حينئذ تغرقها , وهكذا الأحداث التي تحدث لنا . 4-حاولوا بعد كل فشل وبعد كل سقوط أن تنهضوا بشكل أقوى لتثبتوا لأنفسكم وللناس من حولكم أن الإخفاق يشكل وقوداً روحياً لتوثب جديد . 5- تعلموا من الإخفاق ومن تاريخكم الشخصي أعظم الدروس , وتعرفوا على الطرق المسدودة كي تصلوا في النهاية إلى الطرق السريعة , فتمضوا فيها واثقين مطمئنين . الشمعة ( 24 ) :السعادة تدفق داخلي ... يسمع أبنائي وبناتي كثيرين يتحدثون عن أن السعادة تنبع من الداخل , وبعض أعزائي يشككون في هذا , ويقولون : أين كل ماتتحدث عنه الدعاية التجاريةمن متعة المال والمنصب الرفيع والسياحة والسفر واللهو ... هل هذه أشياء داخلية ؟ أو أنكم تريدون إيجاد شيء لتعزية المفلسين والمحرومين ؟ الجواب : لا من المهم أن نفرق بين السعادة واللذة . اللذة فعلاً تأتي في الغالب من وراء تناول شيء أو لمس شسء أو النظر إلى شيء محسوس .. وهي تتصف بكونها عابرة ومؤقتة , فالتلذذ بالطعام والشراب والنوم على فراش وثير ... يكون ما دمنا متلبسين بذلك ومباشرين له , فإذا انصرفنا عنه إلى شيء آخر , انتهت اللذة , وصارت ذكرى . وإذا كان التلذذ بشيء محرم , فإن المتلذذ يشعر بشيء من العتمة الروحية , وشيء من اللوم والندم ؛ لأنه يشعر بأنه قد عصى الله - تعالى - وأنه كان ضعيفاً أمام رغباته . أما السعادة يا أبنائي وبناتي , فإنها ليست شيئاً عابراً , إنها نوع من التربع على قمة السرور ولانشراح والرضا والطمأنينة , وهذا ينشأ في معظم الأحيان من شعور المرء أنه على الطريق الصحيح وأنه في المكان الصحيح والموقف الصحيح والعلاقة الصحيحة , باختصار إنه الشعور الذي ينشأ من اعتقاد المرء أنه يعيش وفق مبادءه وقيمه وقناعاته , ولهذا كان أهل الإيمان والصلاح أسعد الناس وأشدهم شعوراً بالطمأنينة والأمان , كما قال - سبحانه - : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) . وقال - سبحانه - : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) . إذا أردنا ذكر بعض التفاصيل , فيمكن أن نقول إننا نشعر بالسعادة : - حين نتذلل بين الرب الكريم الرحيم , وحين نناجيه , ونطلب منه ونشكو إليه وحين نتبرأ من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته . - حين ننتصر على أهوائنا , ونصمد في وجه المغريات . - حين نساعد غيرنا على مواجهة صعوبات الحياة , فالسعادة مثل ( العطر ) لا تستطيع أن ترش منه على الآخرين دون أن يمسك منه شيء . - حين تغتني عقولنا بالأفكار العظيمة , وحين نكتشف روعة التعبيرات الجميلة . - حين ننجز عملاً كبيراً , وتمتلىء قلوبنا بالرضا عما أنجزناه . - حين تظل نفوسنا وأيدينا مشغولة بالعمل من أجل تحقيق شيء نريد الحصول عليه . - حين نتفاعل مع الجمال الذي بثه الله - تعالى - في الكون , فنطرب لابتسامة طفل ورسالة من صديق عزيز وتغريد بلبل ووهج نور يتسلل إلينا من النافدة . ما الدي يعنيه هذا بالنسبة إلى بناتي وأبنائي ؟ إنه يعني الآتي : 1- ابحثوا عن المسرات الدائمة من خلال عمل الصالحات والوجود حيث يجب أن تكونوا موجودين . 2- البطالة والعطالة والكسل والتقاعس والفوضى مصدر من مصادر التعاسة , فتخلصوا منها إذا أحببتم أن تكونوا سعداء . 3- دربوا أنفسكم على أن يكون فرحكم جماعياً من خلال إدخال السرور على الأهل والأصدقاء والزملاء ... واعلموا أن إدخال الفرح على قلوب الناس باب من أعظم أبواب التقرب إلى الله ؛ تعالى . 4- في إمكان المرء أن يبتهج بالقليل الذي بين يديه , وأن يجعل منه مصدراً لسرور مديد , وذلك إذا تحلى بالرضا .