الشمعة الثالثة عشر أمهاتكم ثم آباؤكم ... يشكل التلاحم الأسري لدينا إحدى نقاط التفوق على العالم الغربي , فنحن المسلمون نفاخر ونعتز بالرابطة العظيمة التي تربط أفراد الأسر والعوائل لدينا , وبالتضامن والتكافل الذي نلمسه داخل معظم الأسر الإسلامية , وإن كانت ضغوطات الحياة ومتطلبات العمل باتت تدفع كثيراً من الناس نحو الانشغال بأنفسهم عن الاهتمام بآبائهم وأمهاتهم , وهؤلاء يخسرون شيئاً عظيماً , هو أكبر من كل المكاسب التي يحصلون عليها . تأملوا يا أبنائي وبناتي قول الله - تعالى - : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ). وتأملوا قوله صلى الله عليه وسلم : ( رغم أنف , ثم رغم أنف , ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما , فلم يدخل الجنة ) . وهذا كناية عن الذل , فكأن من فاتته فرصة دخول الجنة بسبب عدم بر والديه قد وضع وجهه على الأرض حتى التصق أنفه بالتراب . إن للوالد فضلاً عظيماً على أولاده , وهذا الفضل هو من الضخامة إلى درجة تعذر شكره والمكافأة عليه , إلا في حالة واحدة , بينها صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً - أي عبداً - فيشتريه فيعتقه ) . وإن حق الأم أعظم من حق الأب , فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أبوك ) . هناك شباب برره , يتسلم الواحد منهم مرتبه آخر الشهر , ثم يضعه بين يدي أبويه قائلاً : خذا منه ما شئتم , واتركا ما شئتم , وما تأخذانه أحب إلي مما تتركانه ّ وهناك شباب وشابات يكفون عن الحديث في أي مجلس فيه آباؤهم وأمهاتهم . وهناك شباب يمرون على آبائهم وأمهاتهم كل صباح وهم ذاهبون إلى أعمالهم , وذلك للسؤال عنهم وبرهم ومؤانستهم وقضاء حوائجهم ... هؤلاء يتاجرون يا أبنائي وبناتي مع الله بهذا السلوك , وهم الرابحون الظافرون . وعندي في هذا السياق ملحوظة صغيرة , هي أن دعاء الوالدين لأولادهما منه ما هو قبيل العطف والشفقة , وهذا يصدر من الأبوين ول كان الأولاد غير بارين بهما . وهناك دعاء يخرج من الأعماق , لأنه يعبر عن الامتنان لبر الأولاد لهما وعن الرضا والإعجاب بصنيعهم , وهذا هو الجدير بالإجابة . ما الذي يعينه هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟ إنه يعني الآتي : 1- ابحثوا عن ألطف العبارات وأرق الكلمات لتخاطبوا بها آباءكم وأمهاتكم , وأبدعوا في ذلك , فمهما قلتم , فأنتم غير مسرفين . 2- اتخذوا من بر آبائكم وأمهاتكم سبيلاً للفوز برضوان الله تعالى . 3- ما دام آباؤكم وأمهاتكم لا يُؤثرون أحداً عليكم , فإنكم لن تبروهم حق البر إلا إذا آثرتموهم على الزوجة والولد . 4- أرونا تفننكم في إيجاد المفاجآت السارة لآبائكم وأمهاتكم . 5- لتكن استقامتكم أكبر هدية تقدمونها لأحب الناس وأعز الناس . الشمعة الرابعة عشر أكفاء بامتياز ... قد يتساءل أبنائي وبناتي : هل في إمكان كل واحد منا أن يمتلك كفاءة شخصية عالية , ويؤدي أداءً ممتازاً , ويكون في مقدمة الصفوف ؟ أو أن هذا مقصور على الأذكياء أو الذين درسوا في مدارس وجامعات ممتازة , أو الذين يملكون المال ...؟ في الجواب على هذا التساؤل أقول : نحن عبيد الله - تعالى - وكل شأننا بيده , وكل أمورنا تمضي وفق مشيئته , ومع هذا فنحن مأمورون بالأخذ بالأسباب , فهذه الدنيا دار أسباب ومسببات , ومقدمات ونتائج . وإذا حاولنا قراءة أوضاع الناجحين والمخفقين من حولنا , فإننا نستطيع معرفة أسباب نجاحهم بنسبة تزيد على ( 90 % ) فالله - سبحانه - لا يضيع عمل العاملين واجتهاد المجتهدين . وكلي أمل يا أبنائي وبناتي أن تتحركوا على هذا الأساس . الآن تصوروا معي أن كل واحد منكم يقف أمام لوحة ضخمة بيضاء وقد طلب منه أن يرسم عليها بفرشاته الخاصة , والتي سيغمسها في علب الألوان المختلفة , وتلك الألوان هي خياله وذوقه وعلمه وأخلاقه وخبراته وطموحاته وأحلامه ... من تلك الألوان سيُخرجِ لنا لوحة فنية تأسر العين وتبهر الناظرين ... تلك اللوحة هي حياته وإنجازاته , فكيف يعمل ؟ إن عليه أن يقوم بالعديد من المبادرات الشخصية , والتي منها : 1- انظروا إلى الكفاءة الشخصية على أنها نتيجة ( إدارة الذات ) على نحو جيد , وهي بالتالي ليست عبارة عن تفوق على أشخاص آخرين , وإنما تفوق شخص على ذاته , وهذا أعظم أنواع التفوق . 2- ليس المطلوب من الواحد منكم أن يحصل على درجات أكثر أو أن يجمع أموالاً أكثر , أو أن يحظى بوظيفة عُليا ... المطلوب دائماً أن يشعر في أعماقه أنه يقوم بعمل عظيم ونبيل ومبدع , وأن يشعر أنه يمضي قُدماً نحو الأمام . 3- ما أعظم أن ننظر إلى كل لحظة من عمرنا على أنها ( لمسة فرشاة ) ومع كل لمسة يولد جزء من اللوحة العظيمة , وهذا يعني أن صورة ما نريد الوصول إليه متألقة في عقولنا ومتوهجة في نفوسنا , ولهذا فنحن نسير نحوها بثقة وتفاؤل وعزم ... 4- بعد أن تعرفوا أهدافكم ابذلوا جهودكم من أجل اكتشاف الطريق الأفضل والأسرع والأسهل إلى بلوغ تلك الأهداف . 5- تعلموا يا بناتي وأبنائي كيف تحفظون ذواتكم من التشتت من خلال التركيز في مجال واحد وعمل واحد ومن خلال الاهتمام بشيء واحد . 6- احملوا في جيوبكم دائماً دفاتر صغيرة لكتابة الأفكار العظيمة التي تسمعونها وكتابة الملاحظات التي يمكن أن تستفيدوا منها في رسم لوحتكم المصيرية . 7- استعينوا على فهم مشاريعكم والوعي بذواتكم بجنود الفهم الستة : ( ماذا ) , ( لماذا ) , ( متى ) , ( كيف ) , ( من ) , ( أين ) . وحاولوا أن تكون إجاباتكم دقيقة قدر الإمكان . 8- استشيروا الحكماء وأصحاب الخبرة والتجربة , فرب كلمات من خبير وفرت على شاب عناء سنسن من التخبط وسلوك الطرق المسدودة . 9- كافئوا أنفسكم على كل إنجاز جيد من خلال التمتع بشيء تحبونه , وليكن ذلك دائماً في إطار المباح والمشروع . 10 - حاولوا اكتساب عادات جديدة جيدة , لتكون أشبه بالخيوط الذهبية التي ستنسحبون منها سلوككم . 11- ابحثوا دائماً عن التوازن والاعتدال , فهما أساس الحياة السعيدة والناجحة , وحاولوا إعطاء كل ذي حق حقه . 12- الاهتمام والعزيمة والصبر والمثابرة صفات وأخلاق لا يستغني عنها أي شخص يريد أن يحقق نجاحاً باهراً , فاجعلوها عدتكم في الرخاء والشدة . 13- توفيق الله - تعالى - ومعونته , هما أساس النجاح , ولا نحصل عليهما إلا بالإخلاص والاستقامة . الشمعة الخامسة عشر لا تساوم على مبادئك ... إن الإيمان في قلوبنا والاستسلام لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل كل واحد منا صاحب مبادئ وقيم عظيمة وسامية , وإن قيمتنا الحقيقية تنبع من التمسك بتلك المبادئ والقيم : أنتم تعرفون يا بناتي وأبنائي الدفق الثقافي الهائل الذي نتعرض له اليوم , وتعرفون أن كثيراً منه يفد إلينا من ثقافات ومن أمم لا تدين بما ندين به , كما أن العولمة التي تنشر أشرعتها في كل مكان من الأرض, تعمل على دفع الناس نحو البحث عن مصالحهم المادية بعيداً عما تقتضيه القيم والتعليمات الإسلامية السامية , وهذا كله يشكل تحدياً كبيراً لنا جميعاً . كلما كبرتم وتفتح وعليكم على الحياة وجدتم أنكم أكثر عرضة للمساومة من قبل أشخاص كثيرين , لا يرجون الله واليوم الآخر : مساومة على المبدأ وعلى الضمير والمروءة والكرامة , وينبغي أن تكونوا مستعدين للمقاومة . ستجدون كثيرين من حولكم يخضعون للإغراء , ويخبطون في الحرام خبطاً , وليس هؤلاء بأكرم الناس ولا أسعد الناس , ولا ينبغي للمرء أن يتأثر بكثرتهم , فهم عند الله ضئيلون , لا وزن لهم ولا قيمة , ورحم الله القائل : ( لا تستوحش من طريق الحق لقلة السالكين فيه , ولا تغتر بطريق الباطل لكثرة الهالكين فيه ) . لا تنسوا يابناتي وأبنائي أننا هنا في دار ابتلاء , وأننا لن نستطيع الحصول على كل شيء , ولهذا فإن الواحد منا لن يستطيع تحقيق مصالحه ونيل مشتهياته إلى الحد الأقصى مع التمسك التام بمبادئه وقيمه , ولا بد أن يجد نفسه في لحظةٍ ما مضطراً إلى التنازل عن شيء من هذه أو تلك , فكونوا ممن يناصرون المبدأ , وينحازون للحق , ولا تنسوا القاعة الذهبية : ( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ) . ماذا يعني هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟ إنه يعني الآتي : 1- أظهروا براعتكم الشخصية في تحقيق مصالحكم في إطار مبادئكم وأخلاقكم الإسلامية , فهذا هو التحدي الكبير . 2-عودوا أنفسكم التنازل عن بعض الأشياء المادية في سبيل البقاء على المنهج القويم . 3- المال ليس كل شيء في هذه الحياة , ويجب أن نثبت لجميع الناس أن في حياتنا أشياء عزيزة غير قابلة للمساومة أو البيع أو التنازل . والله يثبتنا على الحق وإياكم . الشمعة السادسة عشر
العمل مفتاح الحياة ... الحياة صندوق مغلق , ونحن جمعياً في حاجة ماسة إلى معرفة ما فيه , وليس له سوى مفتاح واحد , وذلك المفتاح هو ( العمل ) . في القرآن الكريم اقتران شبه مطرد بين الإيمان والعمل الصالح ؛ وذلك لأن الإيمان يمنحنا الرؤية , ويدلنا على الطريق ,والعمل هو الجواد الذب سنمتطيه لقطع ذلك الطريق , أنا أشعر يا بناتي وأبنائي أن الله - تعالى - زود بني الإنسان بإمكانات هائلة , وأتاح لهم فرصاً عظيمة , لكنهم لا يستفيدون منها على الوجه المطلوب , لماذا ذلك يا ترى ؟! هناك عدد من الأسباب , من أهمها الكسل , وانحسار الطاقة الروحية المطلوبة للاستمرار في بذل الجهد , وقد أعجبني قول أحد الحكماء : ( ليس الإنسان ضئيلاً , لكنه كسول إلى حد بعيد ) لا يؤذيني منظر مثل ما يؤذيني منظر شاب يائسمحبط باطل عن العمل , يتسكع في الشوارع , ويطلب نفقته اليومية من أبيه الفقير المرهق !. كافحوا أيها الأعزاء من أجل العثور على العمل الذي تحبونه , فإذا وجدتموه , فاهتموا به وأتقنوه , وانظروا إليه كما لو أنه امتحان صعب يتحداكم , وتذكروا دائماً أن الأعمال التي تنجزونها وفق معايير عالية تفتح لكم آفاقاً جديدة نحو فرص وأعمال أكبر لم تكن تخطر ببالكم , وهناك آلاف القصص والوقائع التي تؤكد هذا المعنى . سوف تنجحون يا أبنائي وبناتي - بإذن الله - إذا حولتم الأعمال التي تقومون بها إلى مهنة تؤدونها باحتراف وإتقان , وعليكم بعد ذلك أن تنظروا إلى مهنتكم تلك على أنها مهمة يومية تستنفر كل قواكم الكامنة , وتشعرون وأنتم تؤدونها بأنكم تقومون بعمل عظيم . العمل نعمة من الله , وليس مجموعة مشاق , وإن من العجيب حقاً أن العمل مهما كان صغيراً يمتلك نفس ميزات الكبير , وعلى سبيل المثال فإن العمل الصغير والعمل الكبير يحقق الآتي : - يخلصنا من الفراغ . - ينقلنا من مرحلة التخطيط والتمني والاشتهاء إلى مرحلة التنفيذ . - يساعدنا على اكتشاف أنفسنا وقدراتنا ومواهبنا . - يُحسن البيءة التي نعيش فيها ؛ لتكون الحياة فيها بعد ذلك أسهل . ما الذي يعينه هذا بالنسبة إلى أبنائي وبناتي ؟ 1- عليكم أن ترتبوا أموركم على أساس أن الحياة هي العمل , وأن العمل الجيد هو حياة جيدة . 2- إذا لم يحصل أحدكم على العمل الملائم له , فلا يجلس فارغاً , ولعمل في أي شيء نافع إلى أن يحصل على العمل الذي يحب . 3- لا تنظروا إلى المهن على أنها شيء شائن , فالشائن حقاً هو الحاجة إلى الناس والرشوة واللصوصية , وأكل أموال الناس بالباطل . 4- في البلد فرص كثيرة جداً وهي تنو باستمرار , والمشكل هو عدم وجود مؤهلين لها , فأهلوا أنفسكم على نحو جيد .