إنه وجدى … بقلم :حنان عبد الرحمن ، مصر ( باحثة في الادب المسرحي)
و مازلت أقرأ له قصته التي لم تنته بعد.. فمازالت تبحث عن نهاية منطقية في حكاية ﻻمنطقية.. تشبه فيلما سينمائيا أعد من أجل بطلة ما.. فمنذ أن أصبح ضريرا لم يفارق حجرته الخاصة.. يجلس إلى مكتبه.. و يقلب بين كتبه.. يشعر بحنين إليها.. و اشتياق يعرف أنه سيطول.. فكم من كتاب قرأه.. و تقمص دور بطله.. إنه حقا يجيد لعب دور الضحية.. و لكنه في هذه المرة جعل مني الضحية.. لذنب ﻻ أدركه.. هو سؤال أطرحه على نفسي: أيعاني هو اضطرابا ما في شخصيته جعله على هذا النحو؟! إنه رجل غريب.. إذا رأيته لمحت فيه هذا.. كأنه أعلن انفصاله عن دنيا الواقع.. و رحل في دنى أخرى خلقها لنفسه.. و جعل من بيته الكبير مكانا لعروض.. و مشاهد حياتية هو وحده فقط من يحركها.. و لكني ألوم نفسي على تعلقي به.. لقد راق لي وجودي بجانبه.. و أدمنت مؤلفاته.. و كيف ﻻ؟! و هو رجل يحمل في ملامحه من الجاذبية ما يجعله يحتل مكانة ما في قلب أي امرأة تصادفه.. فما بالي أنا أني أحيا معه ليل نهار.. بل إني صرت أعد كياني من أجله.. فإن ابتسمت كانت ابتساماتي لفرحتي به.. و إن بكيت أبكي حالي معه.. و ما بين ابتسامات و دموع تنمو قصتي معه.. هكذا باتت عاطفة ما تربطني به.. وطدتها وسادتي الخالية إلا من صورته.. و التي لطالما حلمت بوجوده عليها.. شيء ما يعذبني معه.. و كم رغبت أن أسأله عنه.. و لكني دائما ما أتردد أمامه.. أخشى نظراته الحادة لي.. تخترقني لتقرأني قبل أن أنطق بحرف.. إن ما يعذبني معه هو ثورته على كلما وضعت شيئا من عطري.. لماذا تستثيره رائحة عطري إلى هذه الدرجة من الجنون و اﻻنفعال؟! ظننت أن هذا العطر سيجعله يحس أنوثتي التي ﻻ يمكن له أن يراها.. و إذا به ينهرني و ينهرني.. و يفتح ستائر النافذة ليطرد العطر من المكان.. إنه يختنق به.. لو أن له ذكرى أليمة معه.. ما ذنبي أنا حتى يأخذني بموقف مخزي تعرض له في ماض و لى؟! لقد انتقيت هذا العطر من أجله.. و حرصت أن أضعه كلما قابلته.. لأوهم نفسي بأني على موعد مع الحبيب المنتظر.. و في نهاية كل لقاء كانت تلاحقني خيبة الأمل.. فأعرض عنها.. فمن يدري …!! و لكن إلى متى سأظل أتوه في عينيك الصامتتين.. ترمقاني بجاذبية غريبة ما عهدتها في حياتي؟! إن حكايتي معه بدأت منذ أن قرأت له هذه الكلمات في بطاقة كانت على مكتبه: ليس ذنبك يا حبيبتي أنك جميلة.. وأنك رقيقة.. وأنك أخذت ما تبقى لي من نور.. فما عادت عيناي ترغب في رؤية غيرك.. فارحلي في سلام و اطمئني.. ستبقى صورتك آخر ما أرى.. و لن أرى بعد ذلك شيئا… بكيت بكاء شديدا لهذا الوفاء الذي بدا لي في كلماته.. و من وقتها و كلما رأيته أحدق في عينيه.. ربما أرى صورة هذه الحبيبة التي أخلص لها حد العمى.. يالله … ! لكم أتمنى أن أسلبه الماضي المؤلم الذي عاشه.. و عانى فيه فقدان الحبيب.. أريد بشدة أن أكون له أملا.. ينسيه ذكراه المؤسفة.. فربما لو استشعر مشاعري نحوه.. و أدرك مدى تعلقي به.. لعاد إليه بصره و ما فارقه طول الحياة.. يتأملني و ﻻ يشبع من ملامحي.. حتى تتحد ملامحنا في صورة واحدة.. و كأننا من دم واحد.. أو أقرباء في عالم الأرواح.. وجدي جار لي.. يشتغل بالإخراج السينمائي.. و كنت دائما ما أتبع أخباره.. و أستطلع حاله.. هو رجل متعجرف.. ذو كبرياء عال.. ﻻ يلتفت لي إلا لمحات خاطفة.. يسحقني فيها بوسامته.. إنها وسامة من طابع فريد.. ﻻ يليق بها إلا أن تكون في حواديت الخيال.. الشيء الوحيد الذي كان يطمئني معه.. و يعطيني أملا.. أنه ما كان أبدا يلتفت إلى امرأة مهما بلغت من جمالها.. رغم توددهن إليه.. و ربما هذا ما زاد تعلقي به.. إحساسه بنفسه.. و إيماني بهذا الإحساس.. هما ما قرباه مني.. و جعلاه بمثابة وجدي و هيامي.. و عندما أغدق المساء كآبته علينا.. سمعت من وراء جداري الملاصق لجداره أنين رجل.. يكاد يجن من شدة بكائه.. لم أصدق نفسي.. إنه يبدو لي في حالة انهيار تام.. إنه يقبل أن تنزل دموعه.. و يأن كصبي جريح.. لم ينضج بعد.. أكيد أنه أمر خارق للعادة هو ما جعله يبكي هكذا.. كان الأمر فوق احتمالي.. و ما كانت إلا لحظات حتى اندفعت إليه.. يمزقني خوف دفين عليه.. و طرقت على بابه طرقات مضطربة.. و إذا به يقف أمامي.. مبلل العينين بدموع ندية.. عالقة بين جفنيه.. و لكنه ما كان ينظر لي.. كان ينظر في اتجاه آخر.. ظننت أنه ﻻ يرغب في رؤيتي.. و شعرت بجرح كرامتي يؤرقني.. فقلت له بصوت مخنوق: – أعتذر عن إزعاجي.. – من …؟! غريبة … إنه ﻻ يعرفني … كيف هذا؟! – من أنت؟! – ألا تعرفني.. – ﻻ يمكنني أن أراك.. و ذهلت عن نفسي: معقول أنه فقد بصره.. إنه أمسى ضريرا.. لذلك كان يبكي و يأن … آه يا حبيبي.. ليتني أملك أن أعطيك عيني.. لترى بهما حسرتي عليك.. – لِمَ أنت صامتة؟! … تكلمي.. – لا أبدا.. – أنت مضطربة من أمر ما.. – ﻻ أدري ما أقوله.. – هيا تكلمي.. – ربما أزعجتك بكلماتي.. – ﻻ عليك … إني مصغ إليك.. غريبة إنه يهتم لي.. إنه تغير و ها هو يصغي لي.. ماذا أقول له؟ رباااه …!!! – أصدقك القول.. – نعم.. – لقد سمعت أنينك.. – و ماذا ترغبين؟! أتيت هنا لتشفقي علي. – ليست شفقة و لكني شعرت بالفزع.. – الفزع … مم؟ – من أمر بكائك.. و أنينك الغير معهود.. – و هل يحق لك أن تقتحمي حياة الآخرين هكذا.. – أعتذر إليك .. سأمضي في طريقي.. حتى ﻻ أرهقك معي.. – انتظري … – ﻻ أستطيع.. – انتظري … رجاء.. – ماذا تريد مني؟! – أتسمحين بالدخول؟ – أخشى أن أقتحم حياتك.. – أرغب في وجودك.. و دخلت إلى هذا الصرح الكبير الذي تمنيت أن أسكنه.. وجدته بيتا مخيفا غير مريح.. يشبه بيتا كبيرا مهجورا.. خاليا من أي حياة.. رغم أناقته و كل سكينته.. دعاني إلى مكتبه و جلست إليه.. وجدت عليه بطاقات و أوراق مبعثرة على سطحه.. كان وجدي وقتها يقف بجوار النافذة الموجودة بالغرفة.. ينظر خارجها.. ينظر إلى حديقة البيت.. لماذا أشعر بأنه ينتظر شخصا ما أو حدثا ما؟! قررت في نفسي أن أقرأ أوراقه ﻷتعرف حاله طالما أنه ﻻ يراني.. و بخطوات هادئة تحركت إلى الكرسي الجلد الخاص بها