لن يكون المونديال الحالى الذي تحتضنه البرازيل مجرد مباريات للعبة الجميلة، للتدليل على أهمية هذه المباريات فلذائذ ومتع الساحرة المستديرة متنوعة ومتعددة بقدر ما تثير قضايا شتى ومن بينها متعة التعليق التلفزيونى كما تتجلى عند بعض المعلقين الموهوبين. البطولة ال20 لكأس العالم لكرة القدم عبر هؤلاء المعلقين على المباريات من خلال الشاشة الصغيرة "تشعل الجدل بين لغة الشاعر ولغة الشارع"، أو بين اللغة الفصحى واللغات الدارجة واللهجات العامية. وفيما يتحلق مليارات البشر لمتابعة العرس الكروى العالمى ويرنون بأبصارهم لشاشات التليفزيون وينصتون للمعلقين على المباريات فلابد وان يبلغ تأثير "الساحرة المستديرة" في الحياة اليومية مبلغا دفع بالفعل بعض المجامع اللغوية ومن بينها مجمع اللغة العربية في القاهرة والشهير "بمجمع الخالدين" لبحث العلاقة بين اللغة وكرة القدم فيما يشتعل الجدل حول تأثير المعلقين الذين يجنح بعضهم للعامية أو للغات دارجة على اللغات الفصحى سواء في الغرب أو العالم العربى كما في بقية مناطق العالم. ويشهد المجمع اللغوى في القاهرة جهودا مقدرة وجديرة بالاعجاب في اتجاه تأصيل العلاقة بين اللغة العربية وكرة القدم بقدر مايضرب "الخالدون" مثلا رفيعا واسوة حسنة في الجمع بين الأصالة والمعاصرة دون افراط أو تفريط. وفى هذا السياق-كان الاذاعى القدير فاروق شوشة والذي يشغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية قد وصف دراسة اعدها الدكتور محمد داوود الأستاذ الجامعى والخبير بالمجمع عن اللغة وكرة القدم بأنها "دراسة ممتعة ورائدة وغير مسبوقة" منوها بأنها "تضع أساسا لعلم اللغة الرياضى من خلال رصد حركة اللغة في واحد من اوسع مجالات حياتنا الاجتماعية وأكثرها تأثيرا أي مجال لغة كرة القدم التي تتسم بالتشويق والاثارة والمتعة ". فاللغة..أي لغة تتطور وتنمو وتعرف المزيد من الكلمات التي يضيفها التعامل اليومى والتقارب مع العالم فضلا عن الكلمات الجديدة التي يضيفها الشباب من خلال العصر الذي يعيشونه فيما رأى فاروق شوشة أن هذه الدراسة عن اللغة وكرة القدم جاءت لتشهد على "عظمة اللغة العربية في مرونتها وعصريتها واستيعابها كل جديد في مجالات الحياة المختلفة وقدرتها على التطور وفاء باحتياجات العصر وعلى أهمية اللغة في الارتقاء بفن التعليق الرياضى لخطورة لغة المعلق واثارها إيجابا أو سلبا في حياتنا اللغوية". ومضى شوشة- الذي يعد من اقطاب المجمع اللغوى كما عرف ببرامجه الاذاعية والتليفزيونية المعنية بجمال اللغة العربية- ليقول: أن الدكتور محمد داود يقدم في كتابه معجمين لألفاظ وتعبيرات في كرة القدم احداهما باللغة العربية والأخر باللغتين الانجليزية والفرنسية مشيرا إلى ماأنجزه الاتحاد العربى لكرة القدم في جدة وهو معجم للغة الرياضة يقع في ثلاثة اجزاء اعد اعدادا علميا باشراف اساتذة متخصصين وتم فيه تعريب جميع الألفاظ الخاصة بالرياضة عامة وكرة القدم بصورة خاصة. وفى مجال لعبة كرة القدم-يورد المؤلف مئات المفردات والتعابير الشائعة على السنة المعلقين من بينها:"ارتداد..مراوغة..زحلقة..تسديدة..صد..صاروخ..تصويبة..قذيفة..تمرير..تمويه..جملة تكتيكية..جون..الاستحواذ على الكرة..استلم برشاقة الغزال..صاروخ ارض جو..غمز الكرة..فتح البرجل..كتم الكرة..كرة بينية..كرة مختومة بالشمع الأحمر..كرة لاتصد ولاترد..كرة عابرة للقارات..كرة بمقياس 6 ريختر..لمسة سحرية..تمريرة ساحرة..فتح اللعب..تمريرة قاتلة..سيمفونية كروية..كرة من الزمن الجميل". كما توقف الدكتور محمد داود استاذ الدراسات اللغوية ليتأمل مليا من منظور لغوى بعض الاوصاف والنعوت التي تطلق على لاعبى كرة القدم ومن بينها البلدوزر..الثعلب..الحريف..الدبابة..المدفعجى..الساحر..المعلم..الفنان..المايسترو..القناص..اللعيب..المجرى..النحلة..النفاثة..المهندس..مثلث الرعب". ويشكل اهتمام مجمع الخالدين بالعلاقة بين اللغة وكرة القدم دليلا على مدى حيوية هذا الصرح الذي يضم اسماء شامخة ويؤكد عدم صحة الانطباعات لدى البعض حول انعزال المجمع عن قضايا الحياة المعاصرة أو تفضيله للبرج العاجى عن الالتحام بهموم رجل الشارع".."فحراس اللغة الجميلة لايمكن أن يتجاهلوا اللعبة الجميلة أو كرة القدم بكل ماتعنيه من اثار وانعكاسات على اوجه الحياة ". واعاد فاروق شوشة للأذهان ماأنجزته لجنة الفاظ الحضارة في مجمع اللغة العربية التي عكفت طوال سنوات على إنجاز أول معجم عربى في التربية الرياضية منوها في هذا السياق على وجه الخصوص بالجهود التي بذلها الدكتور الراحل أمين الخولى. ومن اطرف فصول كتاب الدكتور محمد داود ذلك الاستبيان الذي اجراه حول اراء المعلقين في اللغة وكرة القدم وأهمية الاعداد اللغوى للمعلق قبل ممارسة التعليق وتطور التعليق اللغوى منذ عصر شيخ المعلقين الراحل محمد لطيف وحتى المرحلة الراهنة فضلا عن اتجاهات مدرسة التعليق المصرية حيال مدارس التعليق الرياضى في العالم ومدى الشعور بالعجز اللغوى احيانا ازاء موقف من المواقف المفاجئة في أحداث المباراة. وتطرق داود في دراسته لأهم صفات المعلق الرياضى لغويا وتفضيله للفصحى أو العامية ام الجمع بينهما حسب الموقف وأهمية تفضيل استخدام بدائل عربية للألفاظ الأجنبية في التعليق على مباريات كرة القدم ومدى فائدة الدراسات اللغوية في الرقى بلغة المعلق. وحبذ الدكتور محمد داوود قيام معهد الإذاعة والتليفزيون بما له من خبرة في الدورات التدريبية للرقى بالأداء عبر دورات للمعلقين الرياضيين في الإذاعة والتليفزيون ورشح للمحاضرة في هذه الدورات رواد التعليق في كرة القدم ممن لهم خبرة ثرية وخاصة اصحاب التميز اللغوى مثل الكابتن إبراهيم الجوينى والكابتن ميمى الشربينى وغيرهما من المعلقين اللامعين جنبا إلى جنب مع عدد من اللغويين المحترفين المهتمين بدراسة اللغة العربية المعاصرة وتيسير تعليم العربية والاعلاميين من اصحاب الخبرة الإعلامية باعتبار التعليق في أحد جوانبه رسالة إعلامية. ويعتبر المعلق إبراهيم الجويني نفسه أحد اضلاع المربع الذهبى للمعلقين الكرويين والذي يضم إلى جانبه الراحل محمد لطيف والراحل حسين مدكور فضلا عن على زيوار فيما يبدى شعورا بالأسف للجوء بعض المعلقين الرياضيين الآن لاستخدام كلمات اجنبية في تعليقاتهم محذرا من خطورة هذه الظاهرة على سمعة وصورة التعليق الرياضى المصرى. ويؤكد الجوينى على أهمية تدريب معلقى كرة القدم -الواسعى الأهمية والتأثير-على الأداء اللغوى السليم الملتزم باللغة العربية الصحيحة متفقا في الرأى مع الاذاعى فاروق شوشة حول أهمية نشر مادة حية صحيحة على اسماع الملايين الشغوفة بالساحرة المستديرة وعالم المستطيل الأخضر والتعريف بمصطلحات الرياضة بلغة صحيحة خالية من العجمة والرطانة والسوقية. وعلى المستوى العالمى عرفت مباريات كرة القدم مذيعين ومعلقين لامعين مثل باتريك بارسلى وبارى ديفيز الذي شملت اهتماماته أيضا التعليق على مباريات التنس وبعض الالعاب الاولمبية الأخرى واقترن صوته على مدى نحو 40 عاما عاما بهيئة الإذاعة البريطانية "بى بى سى" فضلا عن بيتر جونز ومارتين تايلر وجون موستون وريموند جليندينج ونيجيل ريد. ولم يكتب للوسيانو دو فالي وهو أشهر معلق رياضي في البرازيل تحقيق حلمه بالتعليق على مباريات كأس العالم في بلاده حيث قضي عن عمر يناهز ال70 عاما قبيل انطلاق المونديال ال20 في بلاد السامبا. ويشكل المعلقون جزءا اصيلا من عالم الساحرة المستديرة بل وكل الألعاب الرياضية ومن هنا فان بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية تنشر من حين لآخر قوائم بأسماء افضل المعلقين والمذيعين وان كان الأمر يبقى نسبيا فيما يتعلق بتحديد "الأفضل" على الإطلاق لأنها قضية لاتخلو من الانطباعات الشخصية وتتأثر باختلاف الأذواق وان كان هناك في نهاية المطاف نوع من التوافق والاتفاق حول افضل الأسماء في هذا المجال. ولن يختلف الأمر كثيرا باختلاف الألسن واللغات عندما يتحدث مشجعو كرة القدم عن المعلقين والمذيعين الذين يفضلون أن يتابعوا المباريات على شاشة التليفزيون بتعليقاتهم ففى الغرب كما في مصر والعالم العربى ككل ستجد ميلا واضحا نحو هؤلاء المعلقين الكرويين الذين يتميزون بالمعرفة والمعلومات الغزيرة مع النبرة المتفردة والصوت الخاص كالبصمة التي لاتتكرر فضلا عن خفة الظل والقدرة على اثارة الدهشة. وشأنه شأن المعلق التونسى القدير عصام الشوالى- حظى المذيع الليبى حازم الكاديكى بشعبية كبيرة لدى عشاق الساحرة المستديرة سواء في مصر أو في كل العالم العربى كمعلق له بصمته المميزة ومدرسته الخاصة وأسلوبه المحبب والمشوق في التعليق على مايجرى داخل المستطيل الأخضر مدعوما بذاكرة كروية ثرية بالفعل مع "قفشات" ترسم ابتسامة على الوجوه كما يبدو المعلق التونسي رؤوف خليف من اصحاب السطوة والتأثير على مشاهدى المباريات المتلفزة. ولن ينسى تاريخ الساحرة المستديرة وذاكرتها شيخ المعلقين الرياضيين المصريين والعرب محمد لطيف والذي يوصف بأنه "صاحب اياد بيضاء على كرة القدم عندما حولها إلى متعة مسموعة ومرئية في كل بيت مصرى وعربى يوجد به جهاز تليفزيون ليزيد الساحرة المستديرة سحرا فوق سحرها وشعبية على شعبيتها". فاذا كان صوت المعلق الكروى على شاشة التليفزيون قد اصبح عنصرا اساسيا في متعة الساحرة المستديرة فان الراحل محمد لطيف هو عميد المدرسة التي رسخت هذا الاتجاه مع تفرد عجيب في الأسلوب وخفة الظل والنكهة والقفشات والذكريات والطرائف والصيحات والآهات واللزمات والمداعبات كعاشق يتغزل في الكرة عندما تسكن المرمى وهو صاحب القول المأثور "الكورة اجوان". كما عرف جيل الرواد من المعلقين الكرويين على شاشات التليفزيون اسماء مرموقة مثل على زيوار وحسين مدكور وميمى الشربينى وإبراهيم الجوينى وحمادة امام ومحمود بكر ومدحت شلبى واغلبهم كانوا يوما ما من اللاعبين البارزين على المستطيل الأخضر ولكل منهم مصطلحاته التليفزيونية وأسلوبه اللغوى الذي يجنح احيانا نحو العامية المفرطة. و لعل من الظواهر البارزة في عالم الساحرة المستديرة تحول بعض اللاعبين الذين اعتزلوا المستطيل الأخضر منذ فترة ليست بالبعيدة للغاية إلى مذيعين ومعلقين ومحلليين على شاشات التليفزيون لمباريات كرة القدم ويبدو أن محطات التليفزيون وقنواتها الفضائية المتعددة خاضت منافسة مثيرة للفوز بأكبر عدد ممكن من نجوم الساحرة المستديرة ليحلوا على شاشاتها كمذيعين ومعلقين ومحللين. كما شملت الظاهرة صحفيين ينتمون لبلاط صاحبة الجلالة واغلبهم من المتخصصين في الصحافة الرياضية فيما شدتهم الشاشة الصغيرة والاستديوهات التحليلية ليتحولوا إلى مذيعين ومعلقين ومحللين. ومن الطريف أن تكون الساحرة المستديرة في عيد اعيادها مناسبة لكشف الانتماءات الكروية لمشاهير المذيعين الذين لم يعرف عنهم عادة اهتماما بالرياضة وان يفصح بعضهم عن تمنيات شخصية بأن تكون البطولة العالمية من نصيب البرازيل أو الأرجنتين أو المانيا واحيانا هولندا. غير أن الانتماء الرياضى لفريق ما قد يتحول إلى مشكلة للمعلق الرياضى الذي يخشى اتهامه بالتحيز أو التأثر بهوى الانتماء على حساب الموضوعية ومن ثم يسعى أي معلق رياضى جاد وحريص على مصداقيته للفصل بين الميول الشخصية والحياد الواجب والموضوعية. وفى الغرب تصدر العديد من الكتب التي تتناول علاقة اللغة بكرة القدم والتأثيرات المتبادلة فيما تتردد اسماء مشاهير في هذا النوع من الدراسات مثل الكاتب هيرفى فرومر الذي يتوجه بكتاباته لرجل الشارع لشرح ماقد يستعصى على الذهن من مصطلحات رياضية. ويرى البعض مثل الكاتب جاك بيل في صحيفة نيويورك تايمزهناك أن "لغة كرة القدم هي لغة عالمية تتعدى الحواجز والتقسيمات بين ستة مليارات نسمة وربما أكثر هم سكان هذا العالم". غير أن المشكلة في هذا السياق أن المقصود "باللغة العالمية" عند جاك بيل واقرانه لغات الغرب وعالم الشمال وفى المقام الأول اللغة الانجليزية الأمر الذي ينطوى على تحديات للهوية في عالم الجنوب وباعتبار أن اللغة وثيقة الصلة بالهوية أن لم تكن أحد أهم مكوناتها. ويبدو أن الساحرة المستديرة في عيد اعيادها بالبرازيل مدعوة للقيام بدور كبير على صعيد تجسير الهوة بين لغة الشاعر ولغة الشارع مع الانحياز لكل ماهو جميل ولايجافى الذوق الجميل ومحاربة القبح..فاللعبة الجميلة لايجوز أن تتناقض مع اللغة الجميلة.