كما كنا نفتح آفاق المعرفة بالنسبة لجماعة الإخوان، فإننا الآن يجب أن نفتح تلك الآفاق بالنسبة للتيار السلفي، فبعض مواقفهم تبدو ملتبسة أو غامضة، والبعض الآخر من هذه المواقف يبدو متناقضا بصورة تربك أفهامنا، ولغموض مواقفهم أصبحنا لا ندري هل ذلك التيار السلفي بقاعدته العريضة مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة، أم ترى أنه متأثر بفكره الثيوقراطي؟ فاختلط عنده مفهوم الدولة مع مفهوم الدين؟ نعرف أن هناك فارقا كبيرا بين النصوص المقدسة وبين فهم المؤمنون لهذه النصوص، فالنصوص التي أنزلها الله سبحانه وتعالى مطلقة لأنها من الله المطلق، ولكننا كبشر معنيون بفهم هذه النصوص، وقد خلقنا الله بعقول نسبية لا يمكن أن تحيط بالمطلق إحاطة شاملة، وقد طلب الله من المسلمين أن يتدبروا القرآن ويتفاعلوا معه بعقولهم النسبية، لذلك فإن أفهامنا للنصوص الدينية قد تلمس جانبا من الصواب ولكنها لا يمكن أن تصل للصواب المطلق، ولأن الله سمح لنا بالاجتهاد في فهم النصوص الدينية لذلك فإن المجتهد قد يخطأ وقد يصيب، وهو مثاب في خطئه ومثاب في صوابه، وما قد يكون صوابا اليوم قد يكون غير ذلك غدا، أو غير ذلك في مكان آخر أو مع ناس آخرين، إذ إن المجتهد حين يصيب فإنه يكون مرتبطا في صوابه هذا بالزمان الذي يعيش فيه وبالمكان الذي يحتويه، فكما تتفاوت العقول في الفهم، يتفاوت الفهم الواحد على حسب معطيات كل عصر ومِصر، وقد شاءت إرادة الله أن يكون الإسلام صالحا لكل عصر، ولكل مكان، وليكون مكتسبا لهذه الصالحية فإنه اتسم بالسعة والمرونة، لذلك أصبح من المستحيل أن ينتظم المسلمون في فهم واحد للدين ونصوصه على مر العصور والأزمنة واختلاف الأمصار والأمكنة، فحين فهم الصحابة نصوص القرآن فهموه على عدة أوجه وليس على وجه واحد، لذلك تجد مقالة لعبد الله بن عباس في فهم القدر المالي الذي تقطع يد السارق بسببه، وكان رأيه مختلفا عن رأي عمر بن الخطاب، ورأي ابن عمر مختلفا عن رأي أبيه، وهكذا، تعددت الاختلافات على مدار الأجيال، بل إن موضع قطع اليد اختلفوا في فهمه وتنوعوا في تحديده، ولا يؤثر في هذا أن هناك آيات محكمات لأن معظم القرآن من المتشابهات وهذه رحمة من رب العالمين، فلو كان كل القرآن أو معظمه محكما لا مجال للاجتهاد فيه لشق هذا على الأمة ولاستحالت صلاحيته إلا لجيل واحد ومكان واحد، هو جيل السلف الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم أو عاصروا صحابته. ومنذ زمن ظهرت على قيد الحياة طريقة لفهم الدين ونصوصه، ترفع من قدر الاتباع وتعتبر الاجتهاد بدعة، وترى أن إعمال العقل في ما اجتهد فيه صحابة رسول الله والتابعون من بعدهم هو جرأة على الصحابة الذين فهموا الدين فهما صحيحا في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن يتنزل عليه بالوحي، وكانت العبارات التي أطلقها علماء السلفيين من أهل الحديث لتأكيد هذه المعاني تؤكد أن: "من أعملوا عقولهم في فهم الدين قد ضلوا، لذلك يجب أن نفهم الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ويجب ألا نفهمه بهوانا وإلا فالضلالَ الضلالَ، وإما من عاشوا مع الوحي فهم الذين فهموه فهما صحيحا ويجب أن نستقيم على فهمهم". وبخطوات بطيئة وئيدة تسللت المدرسة السلفية إلى حياتنا المعاصرة وأصبحت ذات حظوة على البسطاء، ترفع من قيمة النقل، وتخاصم الفقه وإعمال العقل، وأصبح البعض يطلق على هذه المدرسة "مدرسة الحديث" لأن كبارها برعوا في علوم الحديث، فكان أسامة عبد العظيم أحد الرموز الأولى لهذه المدرسة في مصر في بداية السبعينيات، وخرج من بعده أبو إسحاق الحويني، ومحمد حسان، ويعقوب، وإسماعيل المقدم، وأحمد فريد، وغيرهم، وقد تأثرت هذه المدرسة برموز وهابية الفكر والمنشأ مثل الشيخ بن عثيمين، ورفيقه بن باز، ومعهما الرمز الأكبر لهذه المدرسة الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد رفعت تلك المدرسة من قيمة الحديث الشريف فجعلته موازيا للقرآن وندا له، بل وناسخا لأحكامه، ثم انطلقت لتقديس الكتب التي جمعت الأحاديث الشريفة وتقديس أصحابها، واتهام من يناقشها ويناقشهم في دينه بل وإخراجه من زمرة المسلمين. ومنذ أكثر من عشرين عاما دارت معركة فكرية بين أحد رموز مدرسة الحديث وهو الشيخ "ناصر الدين الألباني" وبين أحد رموز مدرسة العقل والفقه الشيخ الشهيد "محمد رمضان البوطي" وكان عنوان هذه المواجهة هو: هل السلفية مذهب ديني أم أنها فترة زمنية مباركة؟ وما بين الأخذ والرد، والنقل والعقل كانت المباراة الفكرية التي سجل الشيخ البوطي رحمه الله أفكارها في كتابه الرائع الشهير "السلفية مرحلة زمنية مباركة" وفي المقال القادم سنتحدث عن هذا السجال وتوابعه، فانتظروني.